الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [ 60 ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأعدوا لهم أي : لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم ، أو الكفار مطلقا ، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم ما استطعتم من قوة أي : من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها ، أطلق عليه القوة مبالغة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشهاب : وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في ( بدر ) استعداد تام ، فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن رباط الخيل ( الرباط ) في الأصل مصدر ربط ، أي : شد ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقا ، كثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله ، فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي ، أو بملاحظة كون الرباط مشتركا بين معان أخر ، كانتظار الصلاة وملازمة [ ص: 3025 ] ثغر العدو ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد معانيه للبيان ، كعين الشمس ، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد ، فهو على معنى ( من ) التبعيضية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يكون ( الرباط ) جمع ربيط ، كفصيل وفصال .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في ( " التاج " ) : يقال : نعم الربيط هذا ، لما يرتبط من الخيل ، ثم إن عطفها على ( القوة ) مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها ، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة ترهبون به أي : تخوفون بذلك الإعداد عدو الله وهو المثبت له شريكا ، المبطل لكلمته وعدوكم أي : الذي يظهر عداوتك ، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه :

                                                                                                                                                                                                                                      دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدو وهجومه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية ، أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزا عظيما ، أبي الضيم ، قوي القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذا نشر لواء سلطته على منبسط الأرض ، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار ، وخضد شوكة المستبدين الكافرين ، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد ، وعاش بنوه أحقابا متتالية وهم سادة الأمم ، وقادة مشعوب ، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد ، لا يستكينون لقوة ، ولا يرهبون لسطوة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما اليوم ، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضا من فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني ، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإسلامية ، ولا ترى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو ؟

                                                                                                                                                                                                                                      أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية ؟ فلقد ألقى عليها تنقص العدو بلادها من أطرافها درسا يجب أن تتدبره ، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله ، [ ص: 3026 ] فيقضي - والعياذ بالله - على الإسلام وممالك المسلمين ، لاستعمار الأمصار ، واستعباد الأحرار ، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار . وبالله الهداية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وآخرين أي : وترعبون قوما آخرين من دونهم أي : من دون من يظهر عداوتكم ، وهم المنافقون لا تعلمونهم أي : أنهم يعادونكم الله يعلمهم أي : أنهم أعداؤكم ، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة ، ورباط الخيل ، مبشرا لهم بتوفية جزائه كاملا ، بقوله تعالى : وما تنفقوا من شيء في سبيل الله أي : الذي أوضحه الجهاد : يوف إليكم أي : في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج ، وفي الآخرة بالثواب المقيم : وأنتم لا تظلمون أي : بترك الإثابة .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : في قوله تعالى : ترهبون به إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « الخيل ثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ولرجل وزر ، فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ، فهي على ذلك وزر » .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : ما ذكرناه في تأويل ( الآخرين ) من أنهم المنافقون ، يشهد له قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين تعالى جواز مصالحة الكفار بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية