الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الصيام في السفر قال الله تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر في هذه الآية دلالة واضحة على أن الإفطار في السفر رخصة يسر الله بها علينا ، ولو كان الإفطار فرضا لازما لزالت فائدة قوله : يريد الله بكم اليسر فدل على أن المسافر مخير بين الإفطار وبين الصوم كقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر من القرآن وقوله : فما استيسر من الهدي فكل موضع ذكر فيه اليسر ففيه الدلالة على التخيير .

وروى عبد الرحيم الجزري عن طاوس عن ابن عباس قال : " لا نعيب على من صام ولا على من أفطر ؛ لأن الله قال : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فأخبر ابن عباس أن اليسر المذكور فيه أريد به التخيير ، فلولا احتمال الآية لما تأولها عليه .

وأيضا فقال الله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ثم عطف عليه قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فلم يوجب عليه الإفطار ولا الصوم ، والمسافر شاهد للشهر من وجهين :

أحدهما : العلم به وحضوره ، والآخر : أنه من أهل التكليف ، فهذا يدل على أنه من أهل الخطاب بصوم الشهر ، وأنه مع ذلك مرخص له في الإفطار .

وقوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر معناه : فأفطر فعدة من أيام أخر ، كقوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام المعنى : فحلق ففدية من صيام . ويدل على أن ذلك مضمر فيه اتفاق المسلمين على أن المريض متى صام أجزأه ولا قضاء عليه إلا أن يفطر ، فدل على أن الإفطار مضمر فيه .

وإذا كان كذلك فذلك الضمير بعينه هو مشروط للمسافر كهو للمريض لذكرهما جميعا في الآية على وجه العطف ، وإذا كان الإفطار مشروطا في إيجاب العدة فمن أوجب على المسافر القضاء إذا صام فقد خالف حكم الآية .

واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز صوم المسافر غير شيء يروى عن أبي هريرة أنه قال : " من صام في السفر فعليه القضاء " وتابعه عليه شواذ من الناس لا يعدون خلافا .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض الموجب للعلم بأنه صام في السفر وثبت عنه أيضا إباحة الصوم في السفر ، منه حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أصوم في السفر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر وروى ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وسلمة بن [ ص: 266 ] المحبق صيام النبي صلى الله عليه وسلم في السفر .

واحتج من أبى جواز صوم المسافر وأوجب عليه القضاء بظاهر قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر قالوا : فالعدة واجبة في الحالين ؛ إذ ليس في الآية فرق بين الصائم والمفطر ، وبما روى كعب بن عاصم الأشعري وجابر بن عبد الله وأبو هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس من البر الصيام في السفر ، وبما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال : حدثنا إبراهيم بن منذر الحزامي قال : حدثنا عبد الله بن موسى التيمي عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وبما روى أنس بن مالك القشيري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع .

فأما الآية فلا دلالة لهم فيها ، بل هي دالة على جواز صوم المسافر لما بيناه . وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس من البر الصيام في السفر فإنه كلام خرج عن حال مخصوصة ، فهو مقصور الحكم عليها ؛ وهي ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه ، فقال : ليس من البر الصيام في السفر .

فجائز أن يكون كل من روى ذلك فإنما حكى ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال ، وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم واقتصر على حكاية قوله صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر أبو سعيد الخدري في حديثه أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان ، ثم إنه قال لهم : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال أبو سعيد : لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثني معاوية عن ربيعة بن يزيد ، أنه حدثه عن قزعة قال : سألت أبا سعيد الخدري عن صيام رمضان في السفر ؛ وذكر الحديث .

فذكر أيضا في هذا الحديث علة أمره بالإفطار ، وأنها كانت ؛ لأنه أقوى لهم على قتال عدوهم وذلك ؛ لأن الجهاد كان فرضا عليهم ولم يكن فعل الصوم في السفر فرضا ، فلم يكن جائزا لهم ترك الفرض لأجل الفضل . وأما حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه ، فإن أبا سلمة ليس له سماع من أبيه ، فكيف يجوز ترك الأخبار المتواترة في جواز الصوم بحديث مقطوع لا يثبت عند كثير من [ ص: 267 ] الناس ؟ ومع ذلك فجائز أن يكون كلاما خرج على سبب وهو حال لزوم القتال ، مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم ، فكان حكمه مقصورا على تلك الحال ؛ لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولما يؤدي إليه من ترك الجهاد .

وأما قوله : إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع فإنما يدلق على أن الفرض لم يتعين عليه لحضور الشهر ، وأن له أن يفطر فيه ، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع .

وقال أصحابنا : " الصوم في السفر أفضل من الإفطار " وقال مالك والثوري : " الصوم في السفر أحب إلينا لمن قوي عليه " . وقال الشافعي : " إن صام في السفر أجزأه " . ومما يدل على أن الصوم فيه أفضل قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر إلى قوله : وأن تصوموا خير لكم وذلك عائد إلى جميع المذكور في الآية ، إذا كان الكلام معطوفا بعضه على بعض فلا يخص شيء منه إلا بدلالة ، فاقتضى ذلك أن يكون صوم المسافر خيرا له من الإفطار .

فإن قيل : هو عائد على ما يليه دون ما تقدمه ، وهو قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين

قيل له : كتب عليكم الصيام خطابا للجميع من المسافرين والمقيمين ، فواجب أن يكون قوله : وأن تصوموا خير لكم خطابا لجميع من شمله الخطاب في ابتداء الآية ، غير جائز الاقتصار به على البعض . وأيضا فقد ثبت جوازه عن الفرض بما قدمناه ، وما كان كذلك فهو من الخيرات ، وقال الله : فاستبقوا الخيرات ومدح قوما فقال : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات فالمسارعة إلى فعل الخيرات وتقديمها أفضل من تأخيرها .

وأيضا فعل الفروض في أوقاتها أفضل من تأخيرها إلى غيرها . وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أراد أن يحج فليعجل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل الحج ، فكذلك ينبغي أن يكون سائر الفرائض المفعولة في وقتها أفضل من تأخيرها عن وقتها . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عقبة بن مكرم قال : حدثنا أبو قتيبة قال : حدثنا عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي قال : حدثني حبيب بن عبد الله قال : سمعت سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي يحدث عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا نصر بن المهاجر قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا عبد الصمد بن حبيب [ ص: 268 ] قال : حدثني أبي عن سنان بن سلمة عن سلمة بن المحبق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أدركه رمضان في السفر . فذكر معناه .

فأمره بالصوم في السفر ، وهذا على وجه الدلالة على الأفضلية لا على جهة الإيجاب ؛ لأنه لا خلاف أن الصوم في السفر غير واجب عليه . وقد روى عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك : أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية