الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ التيمم جار على وفق القياس ]

ومما يظن أنه على خلاف القياس باب التيمم ، قالوا : إنه على خلاف القياس من وجهين : أحدهما : أن التراب ملوث لا يزيل درنا ولا وسخا ولا يطهر البدن كما لا يطهر الثوب .

والثاني : أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها ، وهذا خروج عن القياس الصحيح .

ولعمر الله إنه خروج عن القياس الباطل المضاد للدين ، وهو على وفق القياس الصحيح ، فإن الله - سبحانه - جعل من الماء كل شيء حي ، وخلقنا من التراب ، فلنا مادتان : الماء ، والتراب ، فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا ، وبهما تطهرنا وتعبدنا ، فالتراب أصل ما خلق منه الناس ، والماء حياة كل شيء ، وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم وجعل قوامه بهما ، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد ، فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه ، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره ، وإن لوث ظاهرا فإنه يطهر باطنا ثم يقوي طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه ، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه .

فصل الحكمة في كون التيمم على عضوين :

وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة ، فإن وضع التراب على الرءوس مكروه في العادات ، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب ، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال ، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار [ ص: 301 ] لله ما هو من أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد ، ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله ، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال " ترب وجهك " وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين .

وأيضا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر ، وهو أن التيمم جعل في العضوين المغسولين ، وسقط عن العضوين الممسوحين ، فإن الرجلين تمسحان في الخف ، والرأس في العمامة ، فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو ، إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما ، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب ، فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها ، وهو الميزان الصحيح .

وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى ، إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم ، ويدخل أكرم المخلوقات على الله في شبه البهائم إذا تمرغ في التراب ، فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه ، ولله الحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية