الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 214 ] وهذه ترجمة المأمون

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، القرشي الهاشمي العباسي ، أبو جعفر ، أمير المؤمنين . وأمه أم ولد اسمها مراجل الباذغيسية ، وكان مولده في ربيع الأول سنة سبعين ومائة ليلة توفي عمه الهادي ، وولي أبوه هارون الرشيد وكان ذلك ليلة الجمعة كما تقدم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عساكر : روى الحديث عن أبيه ، وهشيم بن بشر ، وأبي معاوية الضرير ، ويوسف بن عطية ، وعباد بن العوام ، وإسماعيل بن علية ، وحجاج بن محمد الأعور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 215 ] وروى عنه أبو حذيفة إسحاق بن بشر وهو أسن منه ويحيى بن أكثم القاضي ، وابنه الفضل بن المأمون ، ومعمر بن شبيب ، وأبو يوسف القاضي ، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي ، وأحمد بن الحارث الشيعي ، واليزيدي ، وعمرو بن مسعدة ، وعبد الله بن طاهر بن الحسين ، ومحمد بن إبراهيم السلمي ، ودعبل بن علي الخزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وقدم دمشق دفعات ، وأقام بها مدة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم روى ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال : سمعت المأمون في الشماسية ، وقد أجرى الحلبة ، فجعل ينظر إلى كثرة الناس ، فقال ليحيى بن أكثم : أما ترى كثرة الناس ؟ ثم قال : حدثنا يوسف بن عطية ، عن ثابت ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله [ ص: 216 ] ومن حديث أبي بكر الميانجي ، عن الحسين بن أحمد المالكي ، عن يحيى بن أكثم القاضي ، عن المأمون عن هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الحياء من الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن حديث جعفر بن أبي عثمان الطيالسي أنه صلى العصر يوم عرفة خلف المأمون بالرصافة ، فلما سلم كبر الناس ، فجعل يقول : لا يا غوغاء ، لا يا غوغاء ، عدا سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد صعد المنبر فكبر ، ثم قال : أنبأ هشيم بن بشير ، ثنا ابن شبرمة عن الشعبي ، عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن نيار قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ومن ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، اللهم أصلحني ، واستصلحني ، وأصلح على يدي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 217 ] تولى المأمون الخلافة في المحرم لخمس بقين منه بعد مقتل أخيه سنة ثمان وتسعين ومائة ، واستمر في الخلافة عشرين سنة وخمسة أشهر . وقد كان فيه تشيع واعتزال ، وجهل بالسنة الصحيحة ، وقد بايع في سنة إحدى ومائتين بولاية العهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب ، وخلع السواد ولبس الخضرة كما قدمنا ، فأعظم ذلك العباسيون من البغاددة ، وغيرهم ، وخلعوا المأمون وولوا عليهم إبراهيم بن المهدي كما تقدم ثم ظفر المأمون بهم ، واستقام أمره في الخلافة ، وذلك بعد موت علي الرضا بطوس ، وعفا عن عمه إبراهيم بن المهدي كما تقدم بسط ذلك في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما كونه على مذهب الاعتزال ؛ فإنه اجتمع بجماعة ؛ منهم بشر بن غياث المريسي ، فأخذ عنهم هذا المذهب الباطل ، وكان يحب العلم ، ولم يكن له بصيرة نافذة فيه ، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل ، وراج عنده [ ص: 218 ] الباطل ، ودعا إليه وحمل الناس قهرا عليه ، وذلك في آخر أيامه وانقضاء دولته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : كان المأمون أبيض ربعة حسن الوجه ، قد وخطه الشيب تعلوه صفرة ، أعين طويل اللحية رقيقها ، ضيق الجبين ، على خده خال . أمه أم ولد يقال لها : مراجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الخطيب البغدادي عن القاسم بن محمد بن عباد ، قال : لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء غير عثمان بن عفان والمأمون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذا غريب جدا . قالوا : كان يتلو في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجلس يوما لإملاء الحديث ، فاجتمع حوله القاضي يحيى بن أكثم وجماعة ، فأملى عليهم من حفظه ثلاثين حديثا ، وكانت له بصيرة بعلوم متعددة ؛ من فقه ، وطب ، وشعر ، وفرائض ، وكلام ، ونحو ، وعربية ، [ ص: 219 ] وغريب ، وعلم النجوم ، وإليه ينسب الزيج المأموني ، وقد اختبر مقدار الدرجة في وطأة سنجار فاختلف عمله وعمل الأوائل من القدماء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر أن المأمون جلس يوما للناس ، وفي مجلسه العلماء والأمراء ، فجاءت امرأة تتظلم إليه ، فذكرت أن أخاها توفي ، وترك ستمائة دينار ، فلم يحصل لها سوى دينار واحد . فقال لها على البديهة : قد وصل إليك حقك ، كأن أخاك قد ترك بنتين ، وأما ، وزوجة ، واثني عشر أخا ، وأختا وهي أنت . قالت : نعم يا أمير المؤمنين . فقال : للبنتين الثلثان أربعمائة دينار ، وللأم السدس مائة دينار ، وللزوجة الثمن خمسة وسبعون دينارا ، يبقى خمسة وعشرون دينارا ؛ لكل أخ ديناران ، ولك دينار . فعجب الناس من فطنته وسرعة جوابه . وقد رويت هذه الحكاية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودخل بعض الشعراء على المأمون وقد قال فيه بيتا من الشعر يراه [ ص: 220 ] عظيما ، فلما أنشده إياه لم يقع منه هذا البيت موقعا طائلا ، فخرج من عنده ، فلقيه شاعر آخر ، فقال : ألا أعجبك ؟ أنشدت المأمون هذا البيت فلم يرفع به رأسا . فقال : وما هو ؟ قال : قلت فيه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال له ذلك الشاعر الآخر : ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها ، فهلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن الوليد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه     ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال المأمون يوما لبعض جلسائه : بيتان لاثنين ما لحقهما أحد ؛ قول أبي نواس :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت     له عن عدو في لباس صديق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقول شريح

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تهون على الدنيا الملامة إنه     حريص على استصلاحها من يلومها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال المأمون : وقد ألجأني الزحام يوما وأنا في الموكب حتى خالطت [ ص: 221 ] السوقة ، فرأيت رجلا في دكان عليه أثواب خلقة ، فنظر إلي نظر من يرحمني أو يتعجب من أمري ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أرى كل مغرور تمنيه نفسه     إذا ما مضى عام سلامة قابل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال يحيى بن أكثم سمعت المأمون يوم عيد خطب الناس فحمد الله ، وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : عباد الله ، عظم أمر الدارين ، وارتفع جزاء العاملين ، وطالت مدة الفريقين ، فوالله إنه للجد لا اللعب ، وإنه للحق لا الكذب ، وما هو إلا الموت ، والبعث والحساب ، والفصل والصراط ، ثم العقاب والثواب ، فمن نجا يومئذ فقد فاز ، ومن هوى يومئذ فقد خاب ، الخير كله في الجنة ، والشر كله في النار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر من طريق النضر بن شميل قال : دخلت على المأمون فقال : كيف أصبحت يا نضر ؟ قلت : بخير يا أمير المؤمنين . فقال : ما الإرجاء ؟ فقلت : دين يوافق الملوك ، يصيبون به من دنياهم ، وينقصون من دينهم . قال : صدقت . ثم قال : يا نضر ، أتدري ما قلت في صبيحة هذا اليوم ؟ قلت : [ ص: 222 ] أنى لي بعلم الغيب ؟ فقال : قلت :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أصبح ديني الذي أدين به     ولست منه الغداة معتذرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حب علي بعد النبي ولا     أشتم صديقا ولا عمرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ابن عفان في الجنان مع ال     أبرار ذلك القتيل مصطبرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا ولا أشتم الزبير ولا     طلحة إن قال قائل غدرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعائش الأم لست أشتمها     من يفتريها فنحن منه برا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذا المذهب ثاني مراتب التشيع ، وفيه تفضيل علي على عثمان . وقد قال بعض السلف والدارقطني : من فضل عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، يعني في اجتهادهم ثلاثة أيام ، ثم اتفقوا على تقديم عثمان على علي بعد مقتل عمر ، رضي الله عنهم . وبعد ذلك ست عشرة مرتبة في التشيع على ما ذكره صاحب كتاب " " البلاغ الأكبر والناموس الأعظم " " تنتهي إلى أكفر الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : [ ص: 223 ] لا أوتى بأحد فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري . وتواتر عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم عمر ثم عثمان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقد خالف المأمون بن الرشيد في مذهبه الصحابة كلهم ، حتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقد أضاف المأمون إلى بدعته هذه التي أزرى فيها على المهاجرين والأنصار وخالفهم في ذلك ، البدعة الأخرى ، والطامة العظمى ، وهي القول بخلق القرآن مع ما فيه من الانهماك على تعاطي المسكر ، وغير ذلك من الأفعال التي تعدد فيها المنكر ، ولكن كان فيه شهامة عظيمة ، وقوة جسيمة وله همة في القتال ، وحصار الأعداء ، ومصابرة الروم ، وحصرهم في بلدانهم ، وقتل فرسانهم ، وأسر ذراريهم وولدانهم . وكان يقول : كان معاوية بعمره ، وعبد الملك بحجاجه ، وأنا بنفسي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يقصد العدل ، ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل ؛ جاءته امرأة ضعيفة فتظلمت على ابنه العباس وهو واقف على رأسه ، فأمر الحاجب [ ص: 224 ] فأخذه بيده فأجلسه معها بين يديه ، فادعت عليه أنه أخذ ضيعة لها واستحوذ عليها ، فتناظرا ساعة فجعل صوتها يعلو على صوته فزجرها بعض الحاضرين ، فقال له المأمون : اسكت فإن الحق أنطقها ، والباطل أسكته . ثم حكم لها بحقها وأغرم لها ولده بعشرة آلاف درهم ، وكتب إلى بعض الأمراء : ليس من المروءة أن يكون آنيتك من ذهب وفضة ، وغريمك عار ، وجارك طاو .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ووقف رجل بين يديه ، فقال له المأمون : والله لأقتلنك . فقال له : يا أمير المؤمنين ، تأن علي فإن الرفق نصف العفو . فقال : ويلك ويحك! قد حلفت لأقتلنك . فقال : يا أمير المؤمنين ، أن تلق الله حانثا خير من أن تلقاه قاتلا . فعفا عنه . وكان يقول : ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو ، حتى يذهب الخوف عنهم ويدخل السرور إلى قلوبهم ، وركب يوما في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه : ترون هذا المأمون ينبل في عيني ، وقد قتل أخاه الأمين ؟ يقول ذلك ، وهو لا يشعر بمكان المأمون فجعل المأمون يتبسم ويقول : كيف ترون الحيلة حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل ؟

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحضر عند المأمون هدبة بن خالد ليتغدى عنده ، فلما رفعت المائدة جعل هدبة يلتقط ما تناثر منها ، فقال له المأمون : أما شبعت يا شيخ ؟ فقال بلى ، [ ص: 225 ] ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أكل ما تحت مائدته أمن من الفقر قال : فأمر له المأمون بألف دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر أن المأمون قال يوما لمحمد بن عباد بن عباد بن المهلب : يا أبا عبد الله ، قد أعطيتك ألف ألف ، وألف ألف ، وألف ألف ، وأن عليك دينا . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن منع الموجود سوء ظن بالمعبود . فقال : أحسنت يا أبا عبد الله ، أعطوه ألف ألف وألف ألف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما أراد المأمون أن يدخل ببوران بنت الحسن بن سهل ، جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفيسة ، وكان من جملة من يعتز به رجل من الأدباء ، فأهدى إليه مزودا فيه ملح طيب ، ومزودا فيه أشنان جيد ، وكتب إليه : إني كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا أذكر فيها فوجهت إليك بالمبتدأ به ، ليمنه ، وبركته ، وبالمختوم به ، لطيبه ونظافته ، وكتب إليه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بضاعتي تقصر عن همتي     وهمتي تقصر عن مالي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فالملح والأشنان يا سيدي     أحسن ما يهديه أمثالي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 226 ] قال : فدخل بهما الحسن بن سهل على المأمون فأعجبه ذلك ، وأمر بالمزودين ففرغا ، وملئا دنانير ، وبعث بهما إلى ذلك الأديب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وولد للمأمون ابنه جعفر فدخل عليه الناس يهنئونه بصنوف التهاني ، ودخل عليه بعض الشعراء ، فقال له يهنئه بولده :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مد لك الله الحياة مدا     حتى ترى ابنك هذا جدا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم يفدي مثل ما تفدى     كأنه أنت إذا تبدى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أشبه منك قامة وقدا     مؤزرا بمجده مردا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فأمر له بعشرة آلاف درهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقدم عليه ، وهو بدمشق مال جزيل بعد ما كان قد أفلس وشكى إلى أخيه المعتصم ذلك ، فوردت عليه خزائن من خراسان وبها ثلاثون ألف ألف درهم ، فخرج يستعرضها وقد زينت الجمال والأحمال ومعه يحيى بن أكثم القاضي ، فلما دخلت البلد ، قال : ليس من المروءة أن نحوز نحن هذا كله ، والناس ينظرون . ثم فرق منه أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب لم ينزل عن فرسه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن لطيف شعره قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لساني كتوم لأسراركم     ودمعي نموم لسري مذيع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 227 ] فلولا دموعي كتمت الهوى     ولولا الهوى لم تكن لي دموع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد بعث خادما ليلة من الليالي ليأتيه بجارية ، فأطال الخادم عندها المكث ، وتمنعت الجارية من المجيء إليه حتى يأتي إليها المأمون بنفسه ، فأنشأ المأمون يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة     وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وناجيت من أهوى وكنت مقربا     فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ورددت طرفا في محاسن وجهها     ومتعت باستسماع نغمتها أذنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أرى أثرا في صحن خدك لم يكن     لقد سرقت عيناك من حسنها حسنا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما ابتدع المأمون ما ابتدع من التشيع والاعتزال ، فرح بذلك بشر المريسي وكان بشر هذا شيخ المأمون فأنشأ المريسي يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد قال مأموننا وسيدنا     قولا له في الكتاب تصديق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن عليا أعني أبا حسن     أفضل من أرقلت به النوق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 228 ] بعد نبي الهدى وإن لنا     أعمالنا والقرآن مخلوق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأجابه بعض الشعراء من أهل السنة ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس لا قول ولا عمل     لمن يقول كلام الله مخلوق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر     ولا النبي ولم يذكره صديق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولم يقل ذاك إلا كل مبتدع     على الإله وعند الله زنديق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عمدا أراد به إمحاق دينكم     لأن دينهم والله ممحوق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أصح يا قوم عقلا من خليفتكم     يمسي ويصبح في الأغلال موثوق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد سأل بشر من المأمون أن يطلب قائل هذا فيؤدبه على ذلك ، فقال : ويحك! لو كان فقيها لأدبته ولكنه شاعر فلست أعرض له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما تجهز المأمون للغزو في آخر سفرة سافرها إلى طرسوس استدعى بجارية كان يحبها ، وقد اشتراها في آخر عمره ، فضمها إليه ، فبكت الجارية وقالت : قتلتني يا أمير المؤمنين بسفرك هذا ، ثم أنشأت تقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سأدعو دعوة المضطر ربا     يثيب على الدعاء ويستجيب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 229 ] لعل الله أن يكفيك حربا     ويجمعنا كما تهوى القلوب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فضمها إليه وأنشأ يقول متمثلا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها     وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صبيحة قالت في العتاب قتلتني     وقتلي بما قالت هناك تحاول

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمر مسرورا الخادم بالإحسان إليها والاحتفاظ عليها حتى يرجع ، ثم قال : نحن كما قال الأخطل :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم     دون النساء ولو باتت بأطهار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ودعها وسار فمرضت الجارية في غيبته هذه ، ومات المأمون أيضا ، فلما جاء نعيه إليها تنفست الصعداء وحضرتها الوفاة ، وأنشأت تقول وهي في السياق :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن الزمان سقانا من مرارته     بعد الحلاوة أنفاسا فأروانا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبدى لنا تارة منه فأضحكنا     ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنا إلى الله فيما لا يزال بنا     من القضاء ومن تلوين دنيانا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      دنيا تراها ترينا من تصرفها     ما لا يدوم مصافاة وأحزانا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ونحن فيها كأنا لا يزايلنا     للعيش أحياؤنا يبكون موتانا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 230 ] وكانت وفاة المأمون بطرسوس في يوم الخميس وقت الظهر وقيل : بعد العصر لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين ، وله من العمر نحو من ثمان وأربعين سنة ، وكانت مدة خلافته عشرين سنة وأشهرا وصلى عليه أخوه المعتصم ؛ وهو ولي العهد من بعده ، ودفن بطرسوس في دار خاقان الخادم . وقيل : كانت وفاته يوم الثلاثاء . وقيل : يوم الأربعاء لثمان خلون من رجب من هذه السنة ، وقيل : إنه مات خارج طرسوس بأربع مراحل ، فحمل إليها فدفن بها . وقيل : إنه نقل بعد ذلك إلى أذنة في رمضان فدفن بها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال أبو سعيد المخزومي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما رأيت النجوم أغنت عن المأ     مون في عز ملكه المأسوس
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلفوه بعرصتي طرسوس     مثل ما خلفوا أباه بطوس

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 231 ] وقد كان أوصى إلى أخيه أبي إسحاق المعتصم ، وكتب وصيته بحضرة ابنه العباس ، وجماعة القضاة والأمراء والوزراء والكتاب ، وفيها القول بخلق القرآن ، ولم يتب من ذلك حتى أدركه أجله وانقضى عمله ، وهو على ذلك لم يرجع عنه ولم يتب منه ، وأوصى أن يكبر عليه الذي يصلي عليه خمسا ، وأوصى أخاه أبا إسحاق المعتصم بتقوى الله عز وجل والرفق بالرعية ، وأن يعتقد ما كان يعتقده أخوه المأمون في القرآن ، وأن يدعو الناس إلى ذلك ، وأوصاه بعبد الله بن طاهر ، وإسحاق بن إبراهيم ، وأحمد بن أبي داود القاضي ، وقال : شاوره في أمورك كلها ولا تفارقه ، وحذره من يحيى بن أكثم ونهاه عنه وذمه ، وقال : خانني ونفر الناس عني ، ففارقته غير راض عنه ، ثم أوصاه بالعلويين خيرا ؛ أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم ، وأن يواصلهم بصلاتهم في كل سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر ابن جرير للمأمون ترجمة حافلة ، أورد فيها أشياء كثيرة لم يذكرها الحافظ ابن عساكر مع كثرة ما يورده ، وفوق كل ذي علم عليم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية