فصل [ السلم جار على وفق القياس ]
وأما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس توهم دخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=29936لا تبع ما ليس عندك } فإنه بيع معدوم ، والقياس يمنع منه ، والصواب أنه على وفق القياس ، فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا ، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة ، وقد تقدم أنه على وفق القياس ، وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا ، والبائع والمشتري منها على غرر ، من أفسد القياس صورة ومعنى ، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه ، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=showalam&ids=137لحكيم بن حزام {
nindex.php?page=hadith&LINKID=29937لا تبع ما ليس عندك } فيحمل على معنيين : أحدهما : أن يبيع عينا معينة وهي ليست عنده ، بل ملك للغير ، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري .
والثاني : أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة ، وهذا أشبه ، فليس عنده حسا ولا معنى ، فيكون قد باعه شيئا لا يدري هل
[ ص: 302 ] يحصل له أم لا ؟
وهذا يتناول أمورا :
أحدها : بيع عين معينة ليست عنده .
الثاني : السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه .
الثالث : السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته [ عادة ] ، فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دين من الديون ، وهو كالابتياع بثمن مؤجل ، فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وبين الآخر ؟ فهذا محض القياس والمصلحة ، وقد قال - تعالى - : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } وهذا يعم الثمن والمثمن ، وهذا هو الذي فهمه ترجمان القرآن من القرآن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس فقال : أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله ، وقرأ هذه الآية .
فثبت أن إباحة
nindex.php?page=treesubj&link=4951السلم على وفق القياس والمصلحة ، وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها ، فشرط فيه قبض الثمن في الحال ، إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين بغير فائدة ، ولهذا سمي سلما لتسليم الثمن ، فإذا أخر الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه ، وكثرت المخاطرة ، ودخلت المعاملة في حد الغرر ، ولذلك منع الشارع أن يشترط فيه كونه من حائط معين ; لأنه قد يتخلف فيمتنع التسليم .
والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم ، لكن ضيقوا ما وسع الله ، وشرطوا ما لم يشرطه ، وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة .
أما القياس فإنه أحد العوضين ، فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن ، وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس ، إذ الحاجة التي لأجلها شرع الله ورسوله السلم الارتفاق من الجانبين ، هذا يرتفق بتعجيل الثمن ، وهذا يرتفق برخص الثمن ، وهذا قد يكون في منقطع الجنس كما قد يكون في متصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد .
فَصْلٌ [ السَّلَمُ جَارٍ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ]
وَأَمَّا السَّلَمُ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ تَوَهَّمَ دُخُولَهُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=29936لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ } فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ ، وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ مِنْهُ ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّهُ بَيْعٌ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَالِبًا ، وَهُوَ كَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ، وَقِيَاسُ السَّلَمِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ الْمَعْدُومَةِ الَّتِي لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَمْ لَا ، وَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْهَا عَلَى غَرَرٍ ، مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعُقَلَاءَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ إلَيْهِ فِي مَغْلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ .
وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=showalam&ids=137لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=29937لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ } فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً وَهِيَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ ، بَلْ مِلْكٌ لِلْغَيْرِ ، فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا وَتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي .
وَالثَّانِي : أَنْ يُرِيدَ بَيْعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ حِسًّا وَلَا مَعْنًى ، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ
[ ص: 302 ] يَحْصُلُ لَهُ أَمْ لَا ؟
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ أُمُورًا :
أَحَدُهَا : بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ عِنْدَهُ .
الثَّانِي : السَّلَمُ الْحَالُّ فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ .
الثَّالِثُ : السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَوْفِيَتِهِ [ عَادَةً ] ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَوْفِيَتِهِ عَادَةً فَهُوَ دَيْنٌ مِنْ الدُّيُونِ ، وَهُوَ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْآخَرِ ؟ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وَهَذَا يَعُمُّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ مِنْ الْقُرْآنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ حَلَالٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ .
فَثَبَتَ أَنَّ إبَاحَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=4951السَّلَمِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَشُرِعَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَعْدَلِهَا ، فَشُرِطَ فِيهِ قَبْضُ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ ، إذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَحَصَلَ شُغْلُ الذِّمَّتَيْنِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ سَلَمًا لِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا أُخِّرَ الثَّمَنُ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ ، وَكَثُرَتْ الْمُخَاطَرَةُ ، وَدَخَلَتْ الْمُعَامَلَةُ فِي حَدِّ الْغَرَرِ ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّارِعُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ كَوْنُهُ مِنْ حَائِطٍ مُعَيَّنٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّفُ فَيَمْتَنِعُ التَّسْلِيمُ .
وَاَلَّذِينَ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْجِنْسِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ قَصَدُوا بِهِ إبْعَادَهُ مِنْ الْغَرَرِ بِإِمْكَانِ التَّسْلِيمِ ، لَكِنْ ضَيَّقُوا مَا وَسَّعَ اللَّهُ ، وَشَرَطُوا مَا لَمْ يَشْرِطْهُ ، وَخَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ الْقِيَاسِ وَالْمَصْلَحَةِ .
أَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ دَوَامُهُ وَوُجُودُهُ كَالثَّمَنِ ، وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ تَعْطِيلَ مَصَالِحِ النَّاسِ ، إذْ الْحَاجَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ السَّلَمَ الِارْتِفَاقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، هَذَا يَرْتَفِقُ بِتَعْجِيلِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا يَرْتَفِقُ بِرُخْصِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ فِي مُنْقَطِعِ الْجِنْسِ كَمَا قَدْ يَكُونُ فِي مُتَّصِلِهِ فَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَقْوَمُهُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ .