الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ السلم جار على وفق القياس ]

وأما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس توهم دخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا تبع ما ليس عندك } فإنه بيع معدوم ، والقياس يمنع منه ، والصواب أنه على وفق القياس ، فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا ، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة ، وقد تقدم أنه على وفق القياس ، وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا ، والبائع والمشتري منها على غرر ، من أفسد القياس صورة ومعنى ، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه ، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع .

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام { لا تبع ما ليس عندك } فيحمل على معنيين : أحدهما : أن يبيع عينا معينة وهي ليست عنده ، بل ملك للغير ، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري .

والثاني : أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة ، وهذا أشبه ، فليس عنده حسا ولا معنى ، فيكون قد باعه شيئا لا يدري هل [ ص: 302 ] يحصل له أم لا ؟

وهذا يتناول أمورا :

أحدها : بيع عين معينة ليست عنده .

الثاني : السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه .

الثالث : السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته [ عادة ] ، فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دين من الديون ، وهو كالابتياع بثمن مؤجل ، فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وبين الآخر ؟ فهذا محض القياس والمصلحة ، وقد قال - تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } وهذا يعم الثمن والمثمن ، وهذا هو الذي فهمه ترجمان القرآن من القرآن عبد الله بن عباس فقال : أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله ، وقرأ هذه الآية .

فثبت أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة ، وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها ، فشرط فيه قبض الثمن في الحال ، إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين بغير فائدة ، ولهذا سمي سلما لتسليم الثمن ، فإذا أخر الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه ، وكثرت المخاطرة ، ودخلت المعاملة في حد الغرر ، ولذلك منع الشارع أن يشترط فيه كونه من حائط معين ; لأنه قد يتخلف فيمتنع التسليم .

والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم ، لكن ضيقوا ما وسع الله ، وشرطوا ما لم يشرطه ، وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة .

أما القياس فإنه أحد العوضين ، فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن ، وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس ، إذ الحاجة التي لأجلها شرع الله ورسوله السلم الارتفاق من الجانبين ، هذا يرتفق بتعجيل الثمن ، وهذا يرتفق برخص الثمن ، وهذا قد يكون في منقطع الجنس كما قد يكون في متصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد .

التالي السابق


الخدمات العلمية