الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )

                          ذهب الذين ينظرون من القرآن في جمله وآياته مفككة منفصلا بعضها عن بعض ; التماسا لسبب النزول في كل آية أو جملة أو كلمة ، ولا ينظرون إليه في سياق جمله وكمال نظمه إلى أن الأمر بالاستعانة في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ) هو للاستعانة على أمر الآخرة والاستعداد لها ، وأن المراد بالصبر فيه الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس ، واعتمده البيضاوي وغيره ، أو على الطاعات ، وبهذا صرح ( الجلال ) ، وقد أورد قوله الأستاذ الإمام وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام . والتحقيق أنه عام في كل عمل نفسي أو بدني أو ترك يشق على النفس ، كما يدل عليه حذف متعلقه ، والمعنى : استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره ، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عز وجل وتصغر بمناجاته فيها كل المشاق وأعمها المصائب المذكورة في الآيات بعده ، ولا سيما الأعمال العامة النفع كالجهاد المشار إليه في الآية التالية . وقد بين شيخنا أهم مواضعه التي يدل عليها السياق مع بيان التناسب بين الآيات ووجه الاتصال بما مثاله موضحا .

                          [ ص: 28 ] ذكر الله تعالى افتتان الناس بتحويل القبلة ، وتقدم شرح ما دلت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة ، وإزالة شبه الفاتنين والمفتونين ، وإقامة الحجج على المشاغبين ، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين ، ومنها إتمام النعمة ، والبشارة بالاستيلاء على مكة ، وكون ذلك طرقا للهداية ، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميز به المؤمن الصادق من المسلم المنافق ، فهي تظهر الثابت على الحق المطمئن به ، وتفضح المنافق المرائي فيه بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه ، أو انقلابه ناكصا على عقبيه ، ثم شبه هذه النعمة التامة بالنعمة الكبرى وهي إرسال الرسول فيهم ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة ، وتأكيد أمر القبلة ما يليق بتلك الحالة . وقفى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم ; للإيذان بأن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء من الناس بصورة النقمة هو في نفسه أجل منة وأكبر نعمة .

                          لا جرم أن تلك النعم التي يجب ذكرها وشكرها للمنعم جل شأنه كانت تقرن بضروب من البلاء وأنواع من المصائب ، أكبرها ما يلاقيه أهل الحق من مقاومة الباطل وأحزابه ، وأصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه ، أليس من النسب القريب بين الكلام ومن كمال الإرشاد في هذا المقام ، أن يرد بعد الأمر بالشكر أمر آخر بالصبر ، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذاك ؟ بلى إن هذه الآيات متصلة بما قبلها ، متممة للإرشاد فيها ، وقد هدى سبحانه بلطفه إلى علاج الداء قبل بيانه ، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة ، ووعد على ذلك بمعونته الإلهية ، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحق والدعوة إلى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم ، فهو سبحانه وتعالى يأمرهم بالصبر على ذلك كله ، لا أن الآية في الانقطاع إلى العبادة والصبر على الطاعة مطلقا بحيث يكون القاعد عن الجهاد بنفسه وماله ، أو السعي لعياله - اعتكافا في مسجد أو انزواء في خلوة - عاملا بها .

                          كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد ، وكانت الأمم كلها مناوئة لهم ، فالمشركون أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وما فتئوا يغيرون عليهم ، ويصدون الناس عنهم ، ثم كانوا يلاقون في مهاجرهم ما يلاقون من عداوة أهل الكتاب ومكرهم ، ومن مراوغة المنافقين وكيدهم ، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا في مقاومة ذلك كله وفي سائر ما يعرض لهم من المصائب بالصبر والصلاة . أما الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار ، وهذا يدل على عظم أمره ، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق ; إذ لا بد للداعي إلى الحق منه ، والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكة الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة .

                          [ ص: 29 ] فضيلة هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس ، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليها ، وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة ، أو تأييد فضيلة ، أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم ; لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل من الناس بالمقاومة والمحادة ; التي يعوز فيها الصبر ، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره ، ومصارعة الشدائد ، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر وإن كان في أول الأمر متكلفا ، ومتى رسخت الملكة يسمى صاحبها صبورا وصبارا ، وليس كل محتمل للمكروه من الصابرين الذين أخبر الله في هذه الآية أنه معهم وبشرهم في الآية الآتية وأثنى عليهم في آيات كثيرة ; بل لا بد من العمل للحق والثبات فيه كما قدمنا ; لأن الفضائل لا تتحقق إلا بما يصدر عنها من الأعمال الاختيارية التي هي مناط الجزاء ، بل الصبر نفسه ملكة اكتسابية ; ولذلك أمر الله تعالى به ، وإنما يكون الامتثال بتعويد النفس احتمال المكاره والشدائد في سبيل الحق ، وعلى ذلك جرى النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه عليهم الرضوان ، حتى فازوا بعاقبة الصبر المحمودة ونصرهم الله تعالى مع قلتهم وضعفهم على جميع الأمم مع قوتها وكثرتها ، وإنما كان ذلك بالصبر ; لأن الله تعالى جعله سببا للنجاة من الخسر ، كما جاء في سورة العصر .

                          المتحمل للمكروه مع السآمة والضجر لا يعد صابرا ، وهذا هو شأن منتحلي العلم ومدعي الصلاح في هذا الزمان ، تراهم أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يهوون ، على أن عنوان صلاحهم واستمساكهم بعروة الدين هو جرس الذكر وحركات الأعضاء في الصلاة ، وما كان للمصلي ولا للذاكر أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله تعالى ، وهو جل ثناؤه يبريء المصلين من الجزع الذي هو ضد الصبر بقوله : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) ( 70 : 19 - 22 ) إلخ ، وقد جعل ذكره مع الثبات في البأساء في قرن ، إذ قال : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) ( 8 : 45 ) وقد قرن في الآية التي نفسرها الصلاة بالصبر وجعل الأمرين معا ذريعة الاستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحق من الشدائد .

                          ولو كان هؤلاء الأدعياء مصلين لكانوا من الصابرين ، وإنما تلك حركات تعودوها فهم يكررونها ساهين عنها ، أو يقصدون بها قلوب الناس يبتغون عندها المكانة الرفيعة بالدين لما يترتب على ذلك من المنافع والفوائد الدنيوية التي لا يعقلون سواها ، فيجب على كل مؤمن أن يعود نفسه احتمال المكاره ، ويحاول تحصيل ملكة الصبر عندما تعرض له أسبابه ، فمن لم يستعن على عمله بالصبر لا يتم له أمر ، ولا يثبت على عمل ، ولا سيما الأعمال العظيمة كتربية الأمم والانتقال بها من حال إلى حال ; لذلك ترى كثيرين يشرعون في الأعمال العظيمة [ ص: 30 ] فيعوزهم الصبر فيقفون عند الخطوة الثانية . ومن يزعم أنه عاجز عن تحصيل هذه الملكة فهو خائن لنفسه جاهل بما أودع الله فيه من الاستعداد ، فهو باحتقاره لنفسه محتقر نعمة الله تعالى عليه ، وهو بهذا الإحساس بالعجز قد سجل على نفسه الحرمان من جميع الفضائل .

                          وجه الحاجة إلى الاستعانة بالصبر على تأييد الحق والقيام بأعبائه ظاهر جلي ، وأما الحاجة إلى الاستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلا للمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون . تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ، ووصف ذويها بفضلى الصفات وهي التوجه إلى الله تعالى ومناجاته ، وحضور القلب معه سبحانه واستغراقه في الشعور بهيبته وجلاله وكمال سلطانه . تلك الصلاة التي قال فيها جل ذكره : (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ( 2 : 45 ) وقال فيها : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ( 29 : 45 ) وليست هي الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصة ، التي يسهل على كل صبي مميز أن يتعودها ، والتي نشاهد من المعتادين لها الإصرار على الفواحش والمنكرات ، واجتراح الآثام والسيئات ، وأي قيمة لتلك الحركات الخفيفة في نفسها حتى يصفها رب العزة والجلال بالكبر إلا على الخاشعين ، إنما جعلت تلك الحركات والأقوال صورة للصلاة لتكون وسيلة لتذكير الغافلين ، وتنبيه الذاهلين ، ودافعا يدفع المصلي إلى ذلك التوجه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه حتى يستسهل في سبيله كل صعب ، ويستخف بكل كرب ، ويسهل عليه عند ذلك احتمال كل بلاء ، ومقاومة كل عناء ، فإنه لا يتصور شيئا يعترض في سبيله إلا ويرى سيده ومولاه أكبر منه ، فهو لا يزال يقول : الله أكبر ، حتى لا يبقى في نفسه شيء كبير ، إلا ما كان مرضيا لله العلي الكبير ، الذي يلجأ إليه في الحوادث ، ويفزع إليه عند الكوارث .

                          ثم قال : ( إن الله مع الصابرين ) ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم ، وقالوا : إن المعية هنا معية المعونة ، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر ، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء .

                          وقال الأستاذ الإمام : إن من سنة الله تعالى أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار ، وهذا إنما يكون بالصبر ، فمن صبر فهو على سنة الله ، والله معه بما جعل هذا الصبر سببا للظفر ; لأنه يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح ، ومن لم يصبر فليس الله معه ; لأنه تنكب سنته ، ولن يثبت فيبلغ غايته .

                          علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته من المقاومات وتثبيط الهمم ، وما يقوله لهم الناس في ذلك ، وما يقول الضعفاء في أنفسهم : كيف تبذل هذه النفوس وتستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلها ؟ وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل [ ص: 31 ] تعزيز رجل في دعوته ؟ وغير ذلك مما كانوا يسمعونه من المنافقين والكافرين ، وربما أثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطئوا النصر ، فعلمهم الله سبحانه وتعالى ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس ، ومقاومة الشبهات والوساوس . فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية