الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          جزاء من كسب السيئات.

                                                          * * *

                                                          قال تعالى:

                                                          والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ ص: 3554 ] هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون

                                                          * * *

                                                          والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

                                                          يبين سبحانه جزاء الذين كسبوا السيئات - بعد أن بين جزاء الذين أحسنوا:

                                                          والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها (الواو) تعطف هذه الجملة على ما قبلها وهو جزاء المحسنين; وتقدير القول وجزاء الذين كسبوا السيئات سيئة بمثلها [ ص: 3555 ]

                                                          (الباء) للمقابلة فإذا كان المحسنون يجازون بالحسنى وزيادة، فحسب المشركين أن تجازى السيئة بمثلها، كما يقول تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها

                                                          والمثل كثير إزاء ما ارتكبوا; فالشرك مثله من الجزاء كبير فلا حاجة إلى الزيادة، وقد ذكر سبحانه وتعالى هنا كلمتين نرى فيهما:

                                                          أولا: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون الكلمة لا تدل على مجرد ارتكاب الذنوب، بل تدل على أن هذه الذنوب أشربت بها نفوسهم وكسبتها قلوبهم حتى صارت وكأنها كالجبلة لهم إن لم تكن كالفطرة منهم.

                                                          وفي اكتساب السيئات قال سبحانه: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

                                                          ثانيا: كلمة (بمثلها) أي: بمثل السيئة، وهذا في المقابلة والمشاكلة اللفظية فالجزاء ليس سيئة إنما هو العدالة التي ليست سيئة في ذاتها، كقوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

                                                          ولكثرة سيئاتهم وتضافرها أظلمت بها نفوسهم، ويوم الحساب تظهر ظلمة القلوب ظلاما في وجوههم، ولذا قال تعالى: وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما

                                                          هنا تشبيه واستعارة، أما الاستعارة فهي قوله تعالى: قطعا من الليل مظلما وفيها يبدو الليل كأنه الثوب الأسود الذي قطع قطعا.

                                                          وأما التشبيه في قوله تعالى: كأنما أغشيت أي: ألبست وأغطيت بقطع مظلمة، وهذا تصوير لسواد وجوههم بما اقترفوا، فقلوبهم المظلمة تكسو وجوههم بالظلام، وفي هذا التصوير الحسي تصوير معنوي لنفوسهم. [ ص: 3556 ]

                                                          ثم ختم الله تعالى بعذابهم فقال: أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون أولئك الذين أشركوا وظلموا وهم أصحاب النار يلازموها ملازمة الصاحب لصاحبه وهم خالدون فيها، وقد تأكد خلودهم بضمير الفعل، كما تأكد اختصاصهم بها بتقديم الجار والمجرور على (خالدون)، أي: هم وحدهم الخالدون فيها.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية