الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان حالهم في الإقبال على العاجلة لكونها حاصلة والإعراض عن العاقبة لأنها غائبة متشابها لحال من كان قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية، بين لهم ذلك وختم ببيان سوء أحوالهم وقبح مآلهم بتلاشي أعمالهم فقال ملتفتا إلى أسلوب الخطاب لأنه أوقع في باب العتاب وأقعد في استجلاب المصالح للمتاب: كالذين أي: حاصل ما مضى من أمركم أيها المنافقون أنكم مثل الذين; ولما كان فاعل ما يذكر إنما هو بعض من مضى أثبت الجار فقال: من قبلكم أي: من الأمم الخالية، ثم شرع في شرح حالهم وذكر وجه الشبه فقال: كانوا أشد منكم قوة لأن الزمان كان إذ ذاك أقرب إلى سن الشباب وأكثر أموالا وأولادا وهذا ناظر إلى قوله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فاستمتعوا أي: طلبوا المتاع والانتفاع في الدنيا بغاية الرغبة معرضين عن العقبى بخلاقهم أي: نصيبهم الذي قدره الله وخلقه لهم، وكان الأليق بهم أن يتبلغوا به في السفر الذي لا بد منه إلى الآخرة فاستمتعتم بخلاقكم أي: كالمقتفين لآثارهم والقاصدين لنارهم كما استمتع وفي الإتيان بقوله: الذين ولما كانوا لم يستغرقوا الزمن الماضي أثبت الجار فقال: من قبلكم بخلاقهم ظاهرا غير مضمر تنبيها على ذمهم بقلة النظر لنفسهم المستلزم لقلة عقولهم حيث كانوا دونهم في القوة أبدانا وأموالا وأولادا لم يكفوا عن الاستمتاع [ ص: 523 ] والخوض خوفا مما محق أولئك الأحزاب على قوتهم من العذاب من غير أن ينفعهم سبب من الأسباب وخضتم أي: ذهبتم في أقوالكم وأفعالكم خبطا على غير سنن قويم كالذي أي: كخوضهم الذي خاضوا وهو ناظر إلى قولهم إنما كنا نخوض ونلعب قال أبو حيان : وهو مستعار من الخوض في الماء ولا يستعمل إلا في الباطل؛ لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض، ومنه قوله: صلى الله عليه وسلم: "رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة".

                                                                                                                                                                                                                                      ولما آذن هذا النظم لهم بالخسارة، حصل التشوف إلى عاقبة أمرهم فأخبر عن ذلك بقوله: أولئك أي: البعداء من الخير، والظاهر أنه إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد حبطت أي: فسدت فبطلت أعمالهم في الدنيا أي: بزوالها عنهم ونسيان لذاتها والآخرة أي: وفي الدار الباقية لأنهم لم يسعوا لها سعيها; وزاد في التنبيه على بعدهم مما قصدوا لأنفسهم من النفع فقال: وأولئك هم أي: خاصة الخاسرون أي: لا خاسر في الحقيقة غيرهم لأنهم خسروا خلاقهم في الدارين فخسروا أنفسهم فلا أخسر ممن تشبه بهم، ولعل في الالتفات إلى مقام الخطاب أيضا إشارة إلى تحذير كل سامع من مثل هذه الحال لصحة أن يكون مرادا بهذا المقال، [ ص: 524 ] فإن من أسرار القرآن في إعجازه أن تكون عبارته متوجهة إلى شيء وإشارته شاملة لغيره من حيث اتصافه بعلة ذلك الحال أو غير ذلك من الخلال; قال الإمام أبو الحسن الحرالي في آخر عروة المفتاح في بيان تناول كلية القرآن لكلية الآية ولكل قارئ يقرؤه من أهل الفهم والإيقان: اعلم أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن نبأ عن جميع الأكوان، وأن جميع ما أنبأ عنه من أمر آدم إلى زمان محمد عليهما السلام من أمر النبوات والرسالات والخلافات وأصناف الملوك والفراعنة والطغاة وأصناف الجناة وجميع ما أصابهم من المثوبات والمثلات في يوم آدم عليه السلام إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ستة آلاف سنة ونحوها كل ذلك يتكرر بجملته في يوم محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ألف سنة أو نحوها أعدادا بأعداد وأحوالا بأحوال في خير أو شر، لكل من الماضين مثل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة كما قال صلى الله عليه وسلم "لكل نبي قبلي في أمتي نظير" ثم ذكر صلى الله عليه وسلم نظراء؛ "مثل إبراهيم كأبي بكر ، ومثل موسى كعمر، ومثل هارون كعثمان ، ومثل نوح كعلي، ومثل عيسى كأبي ذر " وقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف النظراء من أمتي بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم كافرهم ومؤمنهم ممن كان وممن هو كائن وممن سيكون بعد، ولو شئت أن أسميهم لفعلت".

                                                                                                                                                                                                                                      فما صد أكثر هذه الأمة عن فهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين من أهل [ ص: 525 ] الأديان أجمعين أن ذلك إنما مقصوده الأخبار والقصص فقط، كلا وليس كذلك! إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إلى خاتمته منطبقا على هذه الأمة وأئمتها هداتها وضلالها، فحينئذ ينفتح له باب الفهم ويضيء له نور العلم ويتجه له حال الخشية ويرى في أصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية وإنه كما قيل في المثل السائر:


                                                                                                                                                                                                                                      إياك أعني واسمعي يا جارة.



                                                                                                                                                                                                                                      ثم إذا شهد انطباق القرآن على كلية الأمة فكان بذلك عالما ينفتح له باب ترق، فيترقى سمعه إلى أن يجد جميع كلية القرآن المنطبق على كلية الأمة منطبقا على ذاته في أحوال نفسه وتقلباته وتصرفات أفعاله وازدحام خواطره حتى يسمع القرآن منطبقا عليه فينتفع بسماع جميعه ويعتبر بأي آية سمعها منه فيطلب موقعها في نفسه فيجدها بوجه ما رغبة كانت أو رهبة تقريبا كانت أو تبعيدا إلى أرفع الغايات أو إلى أنزل الدركات، فيكون بذلك عارفا، هذا مقصود التنبيه في هذا الفصل جملة، ولنتخذ لذلك مثالا يرشد لتفهم ذلك الانطباق على كلية الأمة علما وعلى خصوص ذات القارئ السامع [ ص: 526 ] عرفانا، فاعلم أن أصول الأديان المزدوجة التي لم تترق إلى ثبات حقائق المؤمنين فمن فوقهم من المحسنين والموقنين التي جملتها تحت حياطة الملك والجزاء والمداينة، الذين تروعهم رائعة الموت أولا ثم رائعة القيامة ثانيا إلى ما يشتمل عليه يوم الدين من أهوال المواقف الخمسين التي كل موقف منها ألف من السنين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فعدد هذه الأديان سبعة، ما من دين منها إلا ويوجد في صنف من أصناف هذه الأمة، وتجده المعتبر في نفسه في وقت ما بقلة أو كثرة، بدوام أو خطرة، بضعف أو شدة على إثر دين غالب أو عن لمح عين زائل، وهذه الأديان السبعة هي دين " الذين آمنوا " من هذه الأمة ولم يتحققوا لحقيقة الإيمان فيكونوا من المؤمنين الذين صار الإيمان وصفا ثابتا في قلوبهم، الموحدين المتبرئين من الحول والقوة، المتحققين لمعناه، إقدارا لله عليهم بما شاء لا بما يشاؤون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون أولئك هم المؤمنون حقا وأما الذين آمنوا فهم الذين لا يثبتون على حال إيمانهم ولكن تارة وتارة، ولذلك هم المنادون والمنهيون والمأمورون في جميع القرآن الذين يتكرر عليهم النداء في السورة الواحدة مرات عديدة من نحو ما بين قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين إلى قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه [ ص: 527 ] إلى ما بين ذلك من نحو قوله تعالى: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا فهؤلاء هم أهل دين ثابت ينتظمون به مع من ليس له ثبات من ماضي الأديان المنتظمين مع من له أصل في الصحة من الأديان الثلاثة في نحو قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر المنتظمين أيضا مع المغيرين لأديانهم والمفترين لدين لم ينزل الله به من سلطان في نحو قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا فهذا هو الدين الأول; وأما الدين الثاني فهو دين الذين هادوا، والذين منهم الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها والذين ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه والذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، والذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، والذين يأكلون الربا وقد نهوا عنه، والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وأما الدين الثالث فدين الذين قالوا: إنا نصارى، الذين منهم الذين ضلوا عن سواء السبيل الذين غلوا في دينهم وقالوا على الله غير الحق واتخذوا رهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وأما الدين الرابع فدين الصابئة الذين منهم متألهو النجوم عباد الشمس والقمر والكواكب ومغيروهم، هم بالترتيب أول من عبد محسوسا [ ص: 528 ] سماويا; وأما الدين الخامس فدين المجوس الثنوية الذين جعلوا إلهين اثنين: نورا وظلمة، وعبدوا محسوسا آفاقيا، وأما الدين السادس فدين الذين أشركوا وهم الذين عبدوا محسوسا أرضيا غير مصور، وهم الوثنية أو مصورا وهم الصنمية - فهذه الأديان الستة الموفية لعد الست لما جاء فيه; وأما الدين السابع فاعلم أن الله سبحانه جعل السابع أبدا جامعا لستة خيرا كانت أو شرا، فالدين السابع هو دين المنافقين الذين ظاهرهم مع الذين آمنوا وباطنهم مع أحد سائر الأديان الخمسة المذكورة إلى أدنى دين مشركها الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم. فهذه الأديان السبعة متكررة بكليتها في هذه الأمة بنحو مما وقع قبل في الأمم الماضية، وهو مضمون الحديث الجامع لذكر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم "لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل في حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟" وما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هو من مضمون قوله تعالى: كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا وأهل هذه الأديان السبعة -أو منهم- عمرة دركات جهنم السبع على ترتيبهم، والناجون [ ص: 529 ] بالكلية الفائزون هم المؤمنون فمن فوقهم من المحسنين والموقنين، ومزيد تفضيل في ذلك وتثنية قول بما ينبه عليه بحول الله تعالى من جهات تتبع طوائف من هذه الأمة سنن من تقدمهم في ذلك، أما وجه تكرار دين الذين أشركوا في هذه الأمة فباتخاذهم أصناما وآلهة يعبدونها من دون الله محسوسة جمادية كما اتخذ المشركون الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب واتخذت هذه الأمة بوجه ألطف وأخفى أصناما وأوثانا فإنها اتخذت الدينار والدرهم أصناما والسبائك والنقر أوثانا من حيث إن الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة، قال صلى الله عليه وسلم: "صنم أمتي الدينار والدرهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة عجل، وعجل أمتي الدينار والدرهم" فلا فرق بين ظن المشرك أن الصنم الذي صنعه بيده ينفعه وظن المفتونين من هذه الأمة أن ما اكتسبوا من الدينار والدرهم ينفعهم حتى يشير مثلهم: ما ينفعك إلا درهمك.

                                                                                                                                                                                                                                      يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم فما من آية نزلت في المشركين في ذكر أحوالهم وتبيين ضلالهم وتفاصيل سرهم وإعلانهم إلا وهي منطبقة على كل مفتون بديناره ودرهمه، فموقع قول المشركين في أصنامهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى مثله موقع نظيره من قول المفتون: ما أحب المال إلا لأعمل [ ص: 530 ] الخير وأستعين به على وجوه البر، ولو أراد البر لكان ترك التكسب والتمول له أبر: قال صلى الله عليه وسلم "إنما أهلك من كان قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم" فكل من أحبهما وأعجب بجمعهما فهو مشرك هذه الأمة وهما لاته وعزاه اللتان تبطلان عليه قول لا إله إلا الله؛ لأنه تأله ماله; قال صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله نجاة لعباد الله من عذاب الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم" فمن وجد من هذا مسة فليسمع جميع ما أنزل في المشركين من القرآن منطبقا عليه ومنزلا إليه وحافا به حتى يخلصه الله من شركه كما خلص من أخرجه من الظلمات إلى النور من الأولين، فتخلص هذا المشرك بما له من ظلمته التي غشيت ضعيف إيمانه إلى صفاء نور الإيمان في مضمون قوله تعالى: ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور فهذا وجه تفضيل يبين نحوا من تكرر دين الشرك في هذه الأمة، وأما وجه وقوع المجوسية، ونظيرها في هذه الأمة فإطباق الناس على رؤية الأفعال من أنفسهم خيرها وشرها وإسنادهم أفعال الله إلى خلقه حيث استحكمت عقائدهم على أن فلانا فاعل خير، وفلانا فاعل شر، وفلانا يعطي، وفلانا يمنع، وفلانا خير مني، وفلانا أعطاني، حتى ملؤوا الدواوين من الأشعار والخطب والرسائل أمداحا لخلق الله على ما لم يفعلوا وذما لهم [ ص: 531 ] على ما لم يمنعوا، يحمدون الخلق على رزق الله ويذمونهم على ما لم يؤته الله ويلحدون في أسمائه حتى يكتب بعضهم لبعض: "سيدي وسندي وأسنى عددي عبدك ومملوكك" يبطلون بذلك أخوة الإيمان ويكفرون تسوية خلق الرحمن ويدعون لأنفسهم أفعال الله فيقولون: فعلنا وصنعنا وأحسنا وعاقبنا - كلمة نمرودية، آتاهم ما لم يشعروا باختصاص الله فيه بأمر كالذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك حين قال: أنا أحيي وأميت، وهذه هي المجوسية الصرف والقدرية المحضة التي لا يصح دين الإسلام معها؛ لأن المسلم من أسلم الخلق والأمر لربه.

                                                                                                                                                                                                                                      أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ألا له الخلق والأمر وما سوى ذلك قدرية وهي مجوسية هذه الأمة حيث جعلوا للعبد شركة في فعل الرب وجعلوا له معه تعالى قدرة وقوة ومشيئة واختيارا وتدبيرا ولم يعلموا أن التقدير منع التدبير، وأنه تعالى هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض; قال صلى الله عليه وسلم "القدرية مجوس هذه الأمة" فكل ما أنزل الله عز وجل في القرآن الجامع لذكر جميع الملل والأديان مما عزاه لمن وزع الأفعال بين الحق والخلق من كلام ذي فرعنة أو نمرودية أو ذي سلطان فللمعتقد المدح والذم حظ منه على حسب توغلهم واستغراقهم في الذين زعموا أنهم فيهم شركاء فخافوهم ورجوهم، فكل خائف من الخلق أو راج منهم من عداد الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة [ ص: 532 ] فهم من مجوس هذه الأمة، فليسمع السامع ما يقرأه من ذلك حجة عليه ليسأل الله تعالى التخلص منها وليعلم أن ذلك لم يزل حجة عليه وإن كان لم يشعر به قبل. فهذا وجه من وقوع المجوسية في هذه الأمة، وأما وجه وقوع الصابئة ونظيرها في هذه الأمة - فما غلب على أكثرهم وخصوصا ملوكها وسلاطينها وذوو الرئاسة منها من النظر في النجوم والعمل بحسب ما تظهره هيئتها عندهم من سعد ونحس والاستمطار بالنجوم والاعتماد على الأنواء وإقبال القلب على الآثار الفلكية قضاء بها وحكما بحسب ما جرى عليه الخليون الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون من العناية بها، قال صلى الله عليه وسلم: "أربعة من أمتي هن بهم كفر وليسوا بتاركيهن" - فذكر منها الاستمطار بالنجوم فالمتعلق خوفهم ورجاؤهم بالآثار الفلكية هم صابئة هذه الأمة كما أن المتعلق خوفهم ورجاؤهم بأنفسهم وغيرهم من الخلق هم مجوس هذه الأمة، وكما أن المتعلق تشوفهم ورجاؤهم بدرهمهم ودينارهم هم مشركو هذه الأمة وما انطوى عليه سر كل طائفة منهم مما تعلق به خوفهم ورجاؤهم فهو ربهم ومعبودهم الذي إليه تصرف جميع أعمالهم، واسم كل امرئ مكتوب على وجه ما اطمأن به قلبه، فكل ما أنزل في القرآن من تزييف آراء الصابئة فهو حجة عليه [ ص: 533 ] حيث يقرؤه أو يسمعه من حيث لا يشعر حتى يقرأ قوم القرآن وهو نذير لهم بين يدي عذاب شديد وهم لا يشعرون ويحسبون أنهم يرحمون به وهم الأخسرون.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يزيد الظالمين إلا خسارا فمما يختص بهذه الطائفة المتصبئة ما هو نحو قوله تعالى: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين - الآيات. في ذكر الكوكب والقمر والشمس إلى آيات ذكر التسخير لهن نحو قوله تعالى: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره وسخر لكم الشمس والقمر دائبين هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وأنه هو رب الشعرى كل ذلك ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة إلى المسخر القاهر فوق عباده الذي استوى على جميعها، فهذا وجه من وقوع الصائبة في الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة، وأما وجه وقوع ما غلب على هذه الأمة وكثر فيها وفشا في أعمالها وأحوالها من تمادي طوائف منهم على نظير ما كان عليه اليهود والنصارى في اختلافهم وغلبة أحوالهم -ملوكهم وسلاطينهم- على أحوال أنبيائهم وعلمائهم وأوليائهم فهو الذي حذرته هذه الأمة وأشعر أولو الفهم [ ص: 534 ] بوقوعه فيهم بنحو ما في مضمون قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وما أنبأ به صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم" وفي بعض طرقه: "حتى لو كان فيهم من أتى أمه جهارا لكان فيكم ذلك، قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟" وإنما قوي وكثر في هذه الأمة حال هاتين الملتين لما آتاهما الله من الكتاب والعلم والحكمة فاختلفوا فيها بالأغراض والأهواء وإيثار عرض الدنيا، وسامحوا الملوك والولاة وحللوا لهم ما حرم الله وحرموا لهم ما حلل الله، وتوصلوا بهم إلى أغراضهم في الاعتداء على من حسدوه من أهل الصدق والتقوم، وكثر البغي بينهم فاستقر حالهم على مثل حالهم، وسلطت عليهم عقوبات مثل عقوباتهم، وتمادى ذلك فيهم منذ تبدلت الخلافة ملكا إلى أن تضع الحرب أوزارها وتصير الملل كلها ملة واحدة ويرجع الافتراق إلى ألفة التوحيد، فكل من اقتطع واقتصر من هذه الشريعة المحمدية الجامعة للظاهر والباطن حظا مختصا من ظاهر أو باطن ولم يجمع بينهما في علمه وحاله وعرفانه فهو بما لزم الظاهر الشرعي دون حقيقة باطنه من يهود هذه الأمة كالمقيمين لظواهر الأحوال الظاهرة التي بها تستمر الدنيا على حسب ما يرضي ملوك الوقت وسلاطينهم، المضيعين لأعمال السرائر، المنكرين لأحوال أهل الحقائق الشاهد عليهم تعلق خوفهم ورجائهم بأهل الدنيا، المؤثرين لعرض هذا الأدنى، فبهذا ظهرت أحوال اليهود في هذه الأمة، مر [ ص: 535 ] الأعراب مع النبي صلى الله عليه وسلم بسدرة خضراء نضرة، وكان لأهل الجاهلية سدرة يعظمونها ويجتمعون عندها وينيطون بها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا هذه السدرة ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال صلى الله عليه وسلم: "قلتموها ورب الكعبة كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنها السنن" فحيث ظهرت أحداث اليهود من البغي والحسد وتعظيم ما ظهر تعظيمه من حيث الدنيا واستحقار ضعفاء المؤمنين فهنالك أعلام اليهودية ظاهرة، وكذلك أيضا من اقتصر من هذه الشريعة الجامعة المحمدية على باطن من إصلاح حال أو قلب مع تضييع ظاهر الأمر ومجامع الخير وتعاضد الإسلام واكتفى بما استبطن وتهاون بما استظهر فهو من نصارى هذه الأمة، ليس بصاحب فرقان فكيف أن يكون صاحب قرآن، وذلك أن هذا الدين الجامع إنما يقوم بمعالم إسلام ظاهرة وشعار إيمان في القلوب وأحوال نفس باطنة وحقائق إحسان شهودية، لا يشهد المحسن مع الله سواه ولا يؤمن المؤمن مع الله بغيره، ولا يخضع المسلم إلى شيء دونه، فبذلك يتم، وقد التزم بمعالم الإسلام طوائف يسمون المتفقهة، والتزم بشعائر الإيمان طوائف يسمون الأصوليين والمتكلمين، وترامى إلى الإحسان طوائف يسمون المتصوفة، فمتى كان المتفقه منكرا لصدق [ ص: 536 ] أحوال الصوفية لما لعله يراه من خلل في أحوال المتصوفة فقد تسنن بسنن اليهودية، ومتى كان المتصوف غير مجل للفقهاء لما لعله يراه من خلل في أحوال المتفقه فقد تسنن بسنن النصارى، وكذلك حال المتكلم بين الفرقتين لأيهما مال، وإنما أئمة الدين الذين جمع الله لهم إقامة معالم الإسلام وإيمان أهل الإيمان وشهود أهل الإحسان، تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتأتم بهم الصوفية، وتظهر أنوار قلوبهم على ظلم المتشابهات فيأتم بهم أهل الإيمان، وتبدو في أعمالهم معالم الإسلام تامة فيأتم بهم أهل الإسلام وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "أفضل الناس مؤمن في خلق حسن وشر الناس كافر في خلق سيئ" فأولو الفرقان جامعون ومستبصرون فمن اقتصر على ظاهر وأنكر باطنا لزمته مذام اليهود فيما أنزل من القرآن فيهم بحسب توغله واقتصاره، ومن اقتصر على باطن دون ظاهر لزمته مذام النصارى فيما أنزل من القرآن فيهم; يذكر أن رجلا من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها: دلني على موضع طاهر أصلي فيه، فقال الراهب: طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت، قال ذلك الصالح المسلم: فخجلت منه، فاعلم أن كل واحد من هذين الحالين ليس حال صاحب فرقان ولا حال صاحب قرآن؛ لأن صاحب القرآن لا يخجل لهذا القول لأنه حاله، وقلبه مطهر مما سوى الله، [ ص: 537 ] ومع ذلك لابد أن ينظف ظاهره؛ لأن الله سبحانه كما أنه الباطن فيحب صفاء البواطن فإنه الظاهر يحب صلاح الظواهر، فصاحب القرآن إذا دعي إلى صفاء باطن أجاب ولم يتلعثم وإذا دعي إلى صلاح ظاهر أجاب ولم يتلكأ لقيامه بالفرقان وحق القرآن، يذكر أن ملكا رحمه الله دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبي: يا شيخ! قم فاركع، فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك فقال: خشيت أن أكون من الذين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون

                                                                                                                                                                                                                                      ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على سقاية زمزم وقد صنع العباس رضي الله عنه أحواضا من شراب فضيخ التمر والمسلمون يردون عليه وقد خاضوا فيه بأيديهم، فأهوى النبي صلى الله عليه وسلم يشرب من شرابهم، فقال له العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! ألا نسقيك من شراب لنا في أسقية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أشرب من هذه ألتمس بركة أيدي المسلمين"، فشرب منه صلى الله عليه وسلم. فصاحب القرآن يعبد الله تبارك وتعالى بقلبه وجسمه لا يقتصر على ظاهر دون باطن، ولا على باطن دون ظاهر، ولا على أول دون آخر ولا على آخر دون أول; قال صلى الله عليه وسلم "أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره" فمن حق القارئ أن يعتبر القرآن نفسه ويلحظ مواضع مذامه للفرق ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان [ ص: 538 ] الستة في هذه الأمة، وأما وجه وقوع النفاق وأحوال المنافقين فهي داهية القراء وآفة الخليفة; قال صلى الله عليه وسلم "أكثر منافقي أمتي قراؤها" وقال بعض كبار التابعين: أدركت سبعين ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. وأصل مداخله على الخلق من إيثار حرمة الخلق على حرمة الحق جهلا بالله عز وجل واغترارا بالناس، فليزم لذلك محاسنة أولي البر والصدق ظاهرا ويكرههم بقلبه باطنا، ويتبع ذلك من الذبذبة بين الحالين ما وصف الله تعالى من أحوالهم وما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من علاماتهم حتى قال صلى الله عليه وسلم: "بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما" وكما قال تبارك وتعالى: ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ينظر المنافق إلى ما يستسقط به فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم، كما روي أن الله يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته، والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوئ أهل المساوئ فكيف بمعايب أهل المحاسن! ومن أظهر علامات المنافق تبرمه بأعمال الصادق كما ذكر، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله، وعن ذلك المنافق غماز لماز بخيل جبان مرتاع، مستثقل في مجامع الخير أجنبي منها، مستخف في مواطن الشر متقدم فيها، طلق اللسان بالغيبة والبهتان، ثقيل اللسان عن مداومة ذكر الله تبارك وتعالى، عم عن ذكر [ ص: 539 ] الله عز وجل في كل حال، ناظر إلى الناس بكل وجه، وهو مع ذلك يصانعهم ولا يصادقهم، يأخذ من الدين ما ينفعه في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى، ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في العقبى مما لا يضر في الدنيا، فهذا وجه من وقوع شياع النفاق في هذه الأمة، فلذلك من حق القارئ أن يستشعر مواقع أي القرآن من نفسه في ذات قلبه وفي أحوال نفسه وأعمال بدنه وفي سره مع ربه وفي علانيته مع خلقه؛ فإنه بذلك يجد القرآن كله منطبقا عليه خاصا به حتى كأن جميعه لم ينزل إلا إليه حتى إذا رغب في أمر رغب هو فيه من وجه ولا يقول: هذا إنما أنزل في كذا، وإذا رهب القرآن من أمر رهبه من وجه ما، وإذا أعلى فكذلك وإذا أسفل فكذلك، ولا يقول: هذا إنما أنزل في كذا حتى يجد لكل القرآن موقعا في عمله أي عمل كان ومحلا في نفسه أي حال كان ومشعرا لقلبه أي ملحظ كان، فيستمع القرآن بلاغا من الله سبحانه وتعالى إليه بلا واسطة بينه وبينه، فعند ذلك يوشك أن يكون ممن يقشعر له جلده ابتداء ثم تلين له جلده وقلبه انتهاء، وربما يجد من الله سبحانه وتعالى نفح رحمة يفتح له بابا إلى التخلق بالقرآن أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وبذلك هو ذو الخلق العظيم - والله واسع عليم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية