nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57nindex.php?page=treesubj&link=29047_18630يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
استئناف أو اعتراض ، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه ، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رسلها ، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به ، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=37وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=43ولو كانوا لا يبصرون . فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم ، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به ، ولذلك كان الخطاب هنا عاما لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي توجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول . وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب بـ يا أيها الناس التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمعنى أن
nindex.php?page=treesubj&link=29568القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة .
ويجوز أن يكون خطابا للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن بـ يا أيها الناس فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدى ورحمة للمؤمنين إدماجا وتسجيلا على المشركين
[ ص: 201 ] بأنهم حرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور ، فانتفع المؤمنون بذلك .
وافتتاح الكلام بقد لتأكيده ; لأن في المخاطبين كثيرا ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن .
والمجيء : مستعمل مجازا في الإعلام بالشيء ، كما استعمل للبلوغ أيضا ، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر ، يقال : بلغني خبر كذا ، ويقال أيضا : جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا . وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز .
والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرئ عليهم ، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي : أنه موعظة ، وأنه شفاء لما في الصدور ، وأنه هدى ، وأنه رحمة للمؤمنين .
والموعظة : الوعظ ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر . وقد مضى الكلام عليها عند قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=63فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء ، وعند قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145موعظة وتفصيلا لكل شيء في سورة الأعراف . ووصفها بـ من ربكم للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها .
والشفاء تقدم عند قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=14ويشف صدور قوم مؤمنين في سورة " براءة " . وحقيقته : زوال المرض والألم ، ومجازه : زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس ، وهذا هو المراد هنا .
والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال .
والهدى : تقدم في قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين في طالع سورة البقرة ، وأصله : الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود . ومجازه : بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة .
والرحمة تقدمت في تفسير البسملة .
[ ص: 202 ] وقد أومأ
nindex.php?page=treesubj&link=29568وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن ، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء ، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها ، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة ، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكس له المرض ، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليما وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وصبا ، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلا لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها ، فزواجر القرآن ومواعظه يشبه بنصح الطبيب على وجه المكنية ، وإبطاله العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية ، وتعاليمه الدينية وآدابه تشبه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية ، وعبر عنها بالهدى ، ورحمته للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية . ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا ، ويصح أن تجعل تخييلا كأظفار المنية . ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها ، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم بتكرير النصح والإرشاد - بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع .
فالأوصاف الثلاثة الأول ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك من قبلها وعمل بها ، ومن أعرض عنها ونبذها ، إلا أن وصفه بكونه هدى لما كان وصفا بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع . والوصف الرابع وهو الرحمة خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأول فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة . وهو ينظر إلى قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . فقيد للمؤمنين متعلق بـ " رحمة " بلا شبهة وقد خصه به جمهور
[ ص: 203 ] المفسرين . ومن المحققين من جعله قيدا لـ هدى ورحمة ناظرا إلى قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون .
والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له ; لأن الموعظة هي الكلام المحذر من الضر ولهذا عقبت بقوله : من ربكم فكانت عامة لمن خوطب بـ يا أيها الناس . وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء ولكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله .
وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حصلت له حقيقتهما وأما لمن لم تحصل له آثارهما فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق . وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82شفاء ورحمة للمؤمنين ، وصرح في آية البقرة بأنه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين ، فالأظهر أن قيد للمؤمنين راجع إلى هدى ورحمة معا على قاعدة القيد الوارد بعد مفردات ، وأما رجوعه إلى شفاء فمحتمل ; لأن وصف شفاء قد عقب بقيد
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57لما في الصدور فانقطع عن الوصفين اللذين بعده ، ولأن تعريف الصدور باللام يقتضي العموم ، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله . وهو إطلاق كثير . وصدر به اللسان والقاموس ، وجعلوا منه قوله - تعالى - في شأن العسل
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فيه شفاء للناس
وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57قد جاءتكم فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة . ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم ، كما دل عليه قوله بعده
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=58قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا أي المؤمنون . وعبر عن الهدى بالفضل في قوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس ، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين ، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم .
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57nindex.php?page=treesubj&link=29047_18630يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
اسْتِئْنَافٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ غَرَضٌ جَدِيدٌ وَهُوَ خِطَابُ جَمِيعِ النَّاسِ بِالتَّعْرِيفِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي جِدَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْآتِيَ بِهِ صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا ، وَمَا ذُيِّلَ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَتَحْقِيقِ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ ، فَالْكَلَامُ الْآنَ مُنْعَطِفٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=37وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=43وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ . فَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى خِطَابِ جَمِيعِ النَّاسِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنَافِعِ الصَّالِحَةِ لَهُمْ ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخِطَابُ هُنَا عَامًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَوْجِيهَهُ لِخُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ضَمَائِرَ تَعُودُ إِلَيْهِمْ أَوْ أَوْصَافٍ لَهُمْ أَوْ صِلَاتِ مَوْصُولٍ . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ بِـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29568الْقُرْآنَ مَوْعِظَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَإِنَّمَا انْتَفَعَ بِمَوْعِظَتِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَاهْتَدَوْا وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ بِنَاءً عَلَى الْأَكْثَرِ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ بِـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَيَكُونَ ذِكْرُ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِدْمَاجًا وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ
[ ص: 201 ] بِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَةِ الْقُرْآنِ وَشِفَائِهِ لِمَا فِي الصُّدُورِ ، فَانْتَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ .
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِقَدْ لِتَأْكِيدِهِ ; لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لِلْقُرْآنِ .
وَالْمَجِيءُ : مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لِلْبُلُوغِ أَيْضًا ، إِلَّا أَنَّ الْبُلُوغَ أَشْهَرُ فِي هَذَا وَأَكْثَرُ ، يُقَالُ : بَلَغَنِي خَبَرُ كَذَا ، وَيُقَالُ أَيْضًا : جَاءَنِي خَبَرُ كَذَا أَوْ أَتَانِي خَبَرُ كَذَا . وَإِطْلَاقُ الْمَجِيءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعَزُّ .
وَالْمُرَادُ بِمَا جَاءَهُمْ وَبَلَغَهُمْ هُوَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ هِيَ أُصُولُ كَمَالِهِ وَخَصَائِصِهِ وَهِيَ : أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ ، وَأَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ، وَأَنَّهُ هُدًى ، وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ .
وَالْمَوْعِظَةُ : الْوَعْظُ ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ نُصْحٌ وَتَحْذِيرٌ مِمَّا يَضُرُّ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=63فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ . وَوَصَفَهَا بـِ مِنْ رَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا بَالِغَةٌ غَايَةَ كَمَالِ أَمْثَالِهَا .
وَالشِّفَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=14وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " . وَحَقِيقَتُهُ : زَوَالُ الْمَرَضِ وَالْأَلَمِ ، وَمَجَازُهُ : زَوَالُ النَّقَائِصِ وَالضَّلَالَاتِ وَمَا فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا .
وَالْمُرَادُ بِالصُّدُورِ النُّفُوسُ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ .
وَالْهُدَى : تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَأَصْلُهُ : الدَّالَّةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ . وَمَجَازُهُ : بَيَانُ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْحَقَّةِ .
وَالرَّحْمَةُ تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ .
[ ص: 202 ] وَقَدْ أَوْمَأَ
nindex.php?page=treesubj&link=29568وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالشِّفَاءِ إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ النُّفُوسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ ، وَإِلَى مَا جَاءَ بِهِ بِحَالِ الْمُعْتَلِّ السَّقِيمِ الَّذِي تَغَيَّرَ نِظَامُ مِزَاجِهِ عَنْ حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ فَأَصْبَحَ مُضْطَرِبَ الْأَحْوَالِ خَائِرَ الْقُوَى فَهُوَ يَتَرَقَّبُ الطَّبِيبَ الَّذِي يُدَبِّرُ لَهُ بِالشِّفَاءِ ، وَلَا بُدَّ لِلطَّبِيبِ مِنْ مَوْعِظَةٍ لِلْمَرِيضِ يُحَذِّرُهُ بِهَا مِمَّا هُوَ سَبَبُ نَشْءِ عِلَّتِهِ وَدَوَامِهَا ، ثُمَّ يَنْعَتُ لَهُ الدَّوَاءَ الَّذِي بِهِ شِفَاؤُهُ مِنَ الْعِلَّةِ ، ثُمَّ يَصِفُ لَهُ النِّظَامَ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ سُلُوكُهُ لِتَدُومَ لَهُ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَلَا يَنْتَكِسَ لَهُ الْمَرَضُ ، فَإِنْ هُوَ انْتَصَحَ بِنَصَائِحِ الطَّبِيبِ أَصْبَحَ مُعَافًى سَلِيمًا وَحَيِيَ حَيَاةً طَيِّبَةً لَا يَعْتَوِرُهُ أَلَمٌ وَلَا يَشْتَكِي وَصَبًا ، وَقَدْ كَانَ هَذَا التَّمْثِيلُ لِكَمَالِهِ قَابِلًا لِتَفْرِيقِ تَشْبِيهِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا ، فَزَوَاجِرُ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظُهُ يُشَبَّهُ بِنُصْحِ الطَّبِيبِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ ، وَإِبْطَالُهُ الْعَقَائِدَ الضَّالَّةَ يُشَبَّهُ بِنَعْتِ الدَّوَاءِ لِلشِّفَاءِ مِنَ الْمَضَارِّ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِيَّةِ ، وَتَعَالِيمُهُ الدِّينِيَّةُ وَآدَابُهُ تُشَبَّهُ بِقَوَاعِدِ حِفْظِ الصِّحَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ ، وَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْهُدَى ، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالَمِينَ تُشَبَّهُ بِالْعَيْشِ فِي سَلَامَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَلْفَاظَ الْمَكْنِيَّةِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقَائِقِ مَعَانِيِهَا كَمَا هُنَا ، وَيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ تَخْيِيلًا كَأَظْفَارِ الْمَنِيَّةِ . ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ شَأْنِ بَاعِثِ الْقُرْآنِ بِالطَّبِيبِ الْعَلِيمِ بِالْأَدْوَاءِ وَأَدْوِيَتِهَا ، وَيَقُومُ مِنْ ذَلِكَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ تَلَقِّي النَّاسِ لِلْقُرْآنِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ وَمُعَالَجَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ بِتَكْرِيرِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ - بِهَيْئَةِ الْمَرْضَى بَيْنَ يَدَيِ الطَّبِيبِ وَهُوَ يَصِفُ لَهُمْ مَا فِيهِ بُرْؤُهُمْ وَصَلَاحُ أَمْزِجَتِهِمْ فَمِنْهُمُ الْقَابِلُ الْمُنْتَفِعُ وَمِنْهُمُ الْمُتَعَاصِي الْمُمْتَنِعُ .
فَالْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ثَابِتَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ قَبِلَهَا وَعَمِلَ بِهَا ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَنَبَذَهَا ، إِلَّا أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى لَمَّا كَانَ وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ الْمُقْتَضِي لِلْمُبَالَغَةِ بِحَيْثُ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُدَى كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حُصُولُ الْهُدَى بِهِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونَ فِي قِرَانِ الْوَصْفِ الرَّابِعِ . وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ وَهُوَ الرَّحْمَةُ خَاصٌّ بِمَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فَانْتَفَعَ بِهَا فَكَانَ الْقُرْآنُ رَحْمَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا . فَقَيْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِـ " رَحْمَةٌ " بِلَا شُبْهَةٍ وَقَدْ خَصَّهُ بِهِ جُمْهُورُ
[ ص: 203 ] الْمُفَسِّرِينَ . وَمِنَ الْمُحَقِّقِينَ مَنْ جَعَلَهُ قَيْدًا لِـ هُدًى وَرَحْمَةٌ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ هُدًى لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ .
وَالْوَجْهُ أَنَّ كَوْنَهُ مَوْعِظَةً وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ ; لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ هِيَ الْكَلَامُ الْمُحَذِّرُ مِنَ الضُّرِّ وَلِهَذَا عُقِّبَتْ بِقَوْلِهِ : مِنْ رَبِّكُمْ فَكَانَتْ عَامَّةً لِمَنْ خُوطِبَ بـِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ . وَأَمَّا كَوْنُهُ شِفَاءً فَهُوَ فِي ذَاتِهِ صَالِحٌ لِلشِّفَاءِ وَلَكِنَّ الشِّفَاءَ بِالدَّوَاءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنِ اسْتَعْمَلَهُ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى وَرَحْمَةً فَإِنَّ تَمَامَ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِهِمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَتُهُمَا وَأَمَّا لِمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ آثَارُهُمَا فَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِهِمَا بِمَعْنَى صَلَاحِيَتِهِ لِذَلِكَ وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْقُوَّةِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ . وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَصَرَّحَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِأَنَّهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَيْدَ لِلْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ إِلَى هُدًى وَرَحْمَةٌ مَعًا عَلَى قَاعِدَةِ الْقَيْدِ الْوَارِدِ بَعْدَ مُفْرَدَاتِ ، وَأَمَّا رُجُوعُهُ إِلَى شِفَاءٍ فَمُحْتَمَلٌ ; لِأَنَّ وَصْفَ شِفَاءٍ قَدْ عُقِّبَ بِقَيْدِ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57لِمَا فِي الصُّدُورِ فَانْقَطَعَ عَنِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ ، وَلِأَنَّ تَعْرِيفَ الصُّدُورِ بِاللَّامِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ ، فَلْيُحْمَلِ الشِّفَاءُ عَلَى مَعْنَى الدَّوَاءِ الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لِلشِّفَاءِ لِلَّذِي يَتَنَاوَلُهُ . وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ . وَصُدِّرَ بِهِ اللِّسَانُ وَالْقَامُوسُ ، وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي شَأْنِ الْعَسَلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ
وَأَمَّا تَعْلِيقُ فِعْلِ الْمَجِيءِ بِضَمِيرِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=57قَدْ جَاءَتْكُمْ فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمُ الْمَقْصُودَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ . ثُمَّ وَقَعَ التَّفْصِيلُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُ تَلَقِّيهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=58قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أَيِ الْمُؤْمِنُونَ . وَعَبَّرَ عَنِ الْهُدَى بِالْفَضْلِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا فَعَمَّمَ فِي مَجِيءِ الْبُرْهَانِ وَإِنْزَالِ النُّورِ جَمِيعَ النَّاسِ ، وَخَصَّصَ فِي الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْبَلَاغَةِ وَصِحَّةِ التَّقْسِيمِ .