الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، وأطيعوا رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة ، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته ، كما : -

9851 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . [ ص: 496 ]

فقال بعضهم : ذلك أمر من الله باتباع سنته .

ذكر من قال ذلك :

9852 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " قال : طاعة الرسول اتباع سنته .

9853 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " قال : طاعة الرسول : اتباع الكتاب والسنة .

9854 - وحدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ، عن عطاء مثله .

وقال آخرون : ذلك أمر من الله بطاعة الرسول في حياته .

ذكر من قال ذلك :

9855 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، إن كان حيا .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : هو أمر من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى ، وبعد وفاته باتباع سنته . وذلك أن الله عم بالأمر بطاعته ، ولم يخصص بذلك في حال دون حال ، فهو على العموم حتى يخص ذلك ما يجب التسليم له .

واختلف أهل التأويل في : "أولي الأمر " الذين أمر الله عباده بطاعتهم في هذه الآية . [ ص: 497 ]

فقال بعضهم : هم الأمراء .

ذكر من قال ذلك :

9856 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال : هم الأمراء .

9857 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم : نزلت في رجل بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على سرية .

9858 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبيد الله بن مسلم بن هرمز ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في السرية . [ ص: 498 ]

9859 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث قال : سأل مسلمة ميمون بن مهران عن قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال : أصحاب السرايا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .

9860 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال . قال أبي : هم السلاطين . قال وقال ابن زيد في قوله : وأولي الأمر منكم ، قال أبي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطاعة الطاعة ، وفي الطاعة بلاء . وقال : ولو شاء الله لجعل الأمر في الأنبياء يعني : لقد جعلت [ الأمر ] إليهم - والأنبياء معهم - ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن زكريا ؟

9861 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية عليها خالد بن الوليد ، وفيها عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا ، وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم ، فأصبحوا قد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا [ ص: 499 ] متاعهم ، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر ، فأتاه فقال : يا أبا اليقظان ، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت ، فهل إسلامي نافعي غدا ، وإلا هربت ؟ قال عمار : بل هو ينفعك ، فأقم ، فأقام ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل ، فأخذه وأخذ ماله . فبلغ عمارا الخبر ، فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل ، فإنه قد أسلم ، وهو في أمان مني . فقال خالد : وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير . فاستبا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال خالد : يا رسول الله ، أتترك هذا العبد الأجدع يسبني ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا خالد لا تسب عمارا ؛ فإنه من سب عمارا سبه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله ، ومن لعن عمارا لعنه الله . فغضب عمار فقام ، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه ، فرضي عنه ، فأنزل الله - تعالى - قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " .

وقال آخرون : هم أهل العلم والفقه .

ذكر من قال ذلك :

9862 - حدثني سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن علي بن صالح ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله . . . . . [ ص: 500 ]

9863 - . . . . قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن الأعمش ، عن مجاهد في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، قال : أولي الفقه منكم .

9864 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، قال : أولي الفقه والعلم .

9865 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح : وأولي الأمر منكم ، قال : أولي الفقه في الدين والعقل .

9866 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

9867 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم : يعني أهل الفقه والدين .

9868 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد : وأولي الأمر منكم ، قال : أهل العلم .

9869 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء بن السائب في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال : أولي العلم والفقه . [ ص: 501 ]

9870 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء : وأولي الأمر منكم ، قال : الفقهاء والعلماء .

9871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : وأولي الأمر منكم ، قال : هم العلماء .

9872 - قال : وأخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وأولي الأمر منكم ، قال : هم أهل الفقه والعلم .

9873 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وأولي الأمر منكم ، قال : هم أهل العلم ، ألا ترى أنه يقول : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [ سورة النساء : 83 ] ؟

وقال آخرون : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - .

ذكر من قال ذلك :

9874 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال : كان مجاهد يقول : أصحاب محمد قال : وربما قال : أولي العقل والفقه ودين الله .

وقال آخرون : هم أبو بكر وعمر رحمهما الله .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 502 ]

9875 - حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال : حدثنا حفص بن عمر العدني قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال : أبو بكر وعمر .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان [ لله ] طاعة ، وللمسلمين مصلحة ، كالذي : -

9876 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال : حدثنا ابن أبي فديك قال : حدثني عبد الله بن محمد بن عروة ، عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : سيليكم بعدي ولاة ، فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق ، وصلوا وراءهم ، فإن أحسنوا فلكم ولهم ، وإن أساءوا فلكم وعليهم . [ ص: 503 ]

9877 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله قال : أخبرني نافع ، عن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فمن أمر بمعصية فلا طاعة .

9878 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثني خالد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه .

فإذ كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل ، وكان الله قد أمر بقوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " بطاعة ذوي أمرنا كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم - تعالى ذكره - من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولوه المسلمين دون غيرهم من الناس ، وإن كان فرضا القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله ، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية ، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم ، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية . [ ص: 504 ]

وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية