الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان صلى الله عليه وسلم معروفا بكثرة الاحتمال وشدة اللين المشير إليه عفا الله عنك لم أذنت لهم للمبالغة في استجلابهم والحرص على نجاة جميع الخلق فكان معروفا بالاستغفار لهم تارة على وجه الخصوص بسؤالهم عند اعتذارهم وحلفهم وتارة على وجه العموم عند استغفاره لجميع المسلمين، أخبره تعالى من عاقبة أمره بما يزهده [ ص: 557 ] فيهم ليعرض عنهم أصلا ورأسا؛ لأنهم تجاوزوا حق الله في ترك الجهاد ومنع الصدقة وحقه صلى الله عليه وسلم في لمزه في الصدقات ووصفه بما يجل عنه إلى حقوق المجاهدين الذين هو سبحانه خليفتهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم مع ما سبق في علمه للمنافقين من أنه لا يغفر لهم فقال: استغفر أي: اطلب الغفران لهم أو لا تستغفر لهم أي: استوى في أمرهم استغفارك لهم وتركه إن تستغفر أي: تسأل الغفران لهم سبعين مرة أي: على سبيل الحقيقة أو المبالغة; ولما كان الإخبار باستواء الأمرين: الاستغفار وتركه ربما كان مسببا عن الغفران وربما كان مسببا عن الخسران، عينه في هذا الثاني فقال: فلن يغفر الله أي: الذي قضى بشقائهم وهو الذي لا يرد أمره لهم وهو يحتمل أن يكون جوابا للأمر، وجواب الشرط محذوف لدلالته عليه، والمراد بالسبعين على ما ظهر في المآل المبالغة في أنه لا يغفر لهم لشيء من الأشياء ولو غفر لهم لشيء لكان لقبول شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، والعرب تبالغ بما فيه لفظ السبعة؛ لأنها غاية مستقصاة جامعة لأكثر أقسام العدد، وهي تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم والأعضاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على رشدهم ونفعهم، [ ص: 558 ] وكان حقيقة نظم الآية التخيير في الاستغفار وتركه ونفي المغفرة بالاستغفار بالعدد المحصور في سبعين، جعل صلى الله عليه وسلم الآية مقيدة لما في سورة المنافقين فاستغفر لابن أبي وصلى عليه وقام على قبره وصرح بأنه لو يعلم أنه لو زاد على السبعين قبل لزاد، واستعظم عمر رضي الله عنه ذلك منه صلى الله عليه وسلم وشرع يمسكه بثوبه ويقول: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك! لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من الفوائد وجليل العوائد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول لما نزل النهي الصريح: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: تفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملا وإلا لأنكر الله الصلاة عليه، وفي موافقة الله تعالى لعمر رضي الله عنه منقبة شريفة له، وقد وافقه الله تعالى مع هذا في أشياء كثيرة، روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه; وفي رواية في اللباس، فأعطاه قميصه وقال: إذا فرغت فآذنا، فلما فرغ آذنه فجاء، وفي رواية: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 559 ] ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيده على السبعين; وفي رواية: لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأنزل الله عز وجل: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إلى: وهم فاسقون فترك الصلاة عليهم، قال: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله ورسوله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وله في أواخر الجهاد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه، قال ابن عيينة : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه، وفي رواية عنه في اللباس أنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي بعد ما أدخل قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فكأن ابنه رضي الله عنه استحى من أن يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم به لما كان يعلم من نفاقه، أو آذنه صلى الله عليه وسلم به فصادف منه شغلا فدفنه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 560 ] بعد إدخاله القبر وقبل تمام الدفن فأخرجه تطييبا لخاطر ابنه الرجل الصالح ودفعا لما قد يتوهمه من إحنة عليه وتأليفا لغيره، فقد روي أنه قال صلى الله عليه وسلم: إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب، فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أنه هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في قميصه، وتعطفه عليه أدعى إلى تراحم المسلمين وتعاطف بعضهم على بعض، وقوله: وألبسه قميصه - بالواو لا ينافي الرواية الأولى، وتحمل الرواية الأولى على أنه وعده إعطاء القميص لمانع كان من التنجيز وقت السؤال، فحمل الجزم بالإعطاء على الوعد الصادق ثم أنجزه بعد إخراجه من القبر - والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ووردت هذه الآية على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما تقدم من أحوال المنافقين كان انتهاكا لحرمة الله أو لحق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيه أنه يهينهم بالإماتة على النفاق، فكان يكفي فيه استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وأما هذان القسمان فأحدهما أخبر بأنه يميتهم منافقين، والثاني انتهك حرمة المخلصين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فهل ينفعهم الاستغفار لهم؟ فكأنه قيل: استوى الاستغفار وعدمه في أنه لا ينفعهم، وختمها بعلة عدم المغفرة في قوله: [ ص: 561 ] ذلك أي: الأمر الذي يبعد فعله من الحكيم الكريم بأنهم كفروا بالله أي: وهو الملك الأعظم ورسوله أي: فهم لا يستأهلون الغفران لأنهم لم يهتدوا لإصرارهم على الفسق وهو معنى قائم بهم في الزيادة على السبعين كما هو قائم بهم في الاقتصار على السبعين والله أي: المحيط علما وقدرة لا يهدي القوم الفاسقين أي: أنه لا يهديهم لأنه جبلهم على الفسق، وكل من لا يهديه لأنه جلبه على الفسق لا يغفر له، فهو لا يغفر لهم لما علم منهم مما لا يعلمه غيره، فهو تمهيد لعذر النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره قبل العلم بالطبع الذي لا يمكن معه رجوع.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية