الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          فصل وإن باع أو آجر مسلم داره من كافر ، فنقل المروذي : لا تباع ، يضرب فيها بالناقوس وينصب فيها الصلبان ؟ واستعظم ذلك وشدد فيه ، ونقل أبو الحارث : لا أرى ذلك ، يبيعها من مسلم أحب إلي ، وقيل له في رواية إبراهيم بن الحارث عن إجارتها من ذمي يعلم أنه يشرب فيها الخمر ويشرك فيها ، فقال : كان ابن عون لا يكري إلا من أهل الذمة ، يقول : نرغبهم ، قيل له : كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا قال : لا ، ولكنه أراد أنه كره أن يرغب المسلمين ، وجعل يعجب من ابن عون ، وكذا نقل الأثرم ، وسأله مهنا : يكري المجوسي داره أو دكانه وهو يعلم أنهم يزنون ؟ فقال : كان ابن عون لا يرى أن يكري المسلم يقول : أرغبهم بأخذ الغلة ، ويكري غير المسلمين ، قال الخلال : [ ص: 445 ] كل من حكى عنه في الكراء : فإنما أجاب على قول ابن عون ، ولم ينقل له فيه قول ، وقد رواه إبراهيم معجبا بقول ابن عون ، و الذي رووه عنه في البيع أنه كرهه كراهة شديدة ، فلو نقل لأبي عبد الله قول في السكنى كان السكنى والبيع عندي واحدا ، والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله لا تباع منه ، والأمر عندي لا تباع منه ولا تكرى ; لأنه معنى واحد ، ثم روى الخلال أن أبا بكر قال لأحمد : حدثني أبو سعيد الأشج : سمعت أبا خالد الأحمر يقول : حفص باع دار حصين بن عبد الرحمن عابد أهل الكوفة من عون البصري ، فقال له أحمد : حفص ؟ فقال : نعم ، فعجب أحمد ، يعني من حفص بن غياث ، قال الخلال : وهذا تقوية لمذهب أبي عبد الله ، فإذا كان يكره بيعها من فاسق فكذلك من كافر ، فإن الذمي يقر ، والفاسق لا يقر ، ولكن ما يفعله الذمي فيها أعظم .

                                                                                                          وقال أبو بكر عبد العزيز : لا فرق بين البيع والإجارة عنده ، فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع البيع منع الإجارة ، قال شيخنا ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك : قال ابن أبي موسى : كره أحمد أن يبيع ، داره من ذمي يكفر فيها ويستبيح المحظورات ، فإن فعل لم يبطل البيع وكذا قال الآمدي وأطلق الكراهة مقتصرا عليها ، ومقتضى ما سبق من كلام الخلال وصاحبه تحريم ذلك ، قاله شيخنا .

                                                                                                          وقال القاضي : لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه بيت نار أو كنيسة ، أو يبيع فيه الخمر [ سواء شرط أن [ ص: 446 ] يبيع فيه الخمر أو لم يشترط ، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر ] وقد قال أحمد : لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر فيها ، يبيعها من مسلم أحب إلي .

                                                                                                          وقال أيضا في نصارى وقفوا ضيعة لهم للبيعة : لا يستأجرها الرجل المسلم منهم ، يعينهم على ما هم فيه ، قال شيخنا : فقد حرم القاضي إجارتها لمن يعلم أنه يبيع فيها الخمر ، مستشهدا على ذلك بنص أحمد على أنه لا يبيعها لكافر ، ولا يكتري وقف الكنيسة ، وذلك يقتضي أن المنع عنده في هاتين الصورتين منع تحريم ، قال القاضي في أثناء المسألة : فإن قيل : أليس قد أجاز أحمد إجارتها من أهل الذمة مع علمه بأنهم يفعلون ذلك فيها ؟ قيل : المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عون وعجب منه ، وهذا يقتضي أن القاضي لا يجوز إجارتها من ذمي ، وظاهر رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث جواز ذلك ، فإن إعجابه بالفعل دليل على جوازه عنده ، واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين ، ذكره شيخنا .

                                                                                                          وقال : الفرق بين البيع والإجارة أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة عارضت مصلحة ، وهي صرف إرغاب المطالبة بالكراء عن المسلم وإنزاله بالكفار ، كإقراره بالجزية ، فإنه إقرار لكافر ، لكن جاز لما تضمنه من المصلحة ، ولذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة ، وهذه المصلحة منتفية في البيع ، قال : فيصير في المسألة أربعة أقوال ، وظاهر كلام من [ ص: 447 ] لم يخص هذه المسألة بالذكر كالشيخ وغيره الجواز ( م 18 ) كما أن ظاهر كلام الأكثر فيما إذا ملكوا دارا عالية من مسلم لم تنقض أنه لا يبطل البيع ونحوه ، كما أن ظاهر كلامهم في تخصيص الأرض العشرية بالذكر جواز غيرها ، ويدل عليه أن الملبوس يكفر فيه الذمي ويعصي ، فمقتضى ما سبق المنع تحريما أو كراهة ، ومن المعلوم أن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم يباع لهم من غير نكير شائعا ، لم يتورع منه أحد ، وكالمأكول والمشروب ، فإن قيل : هذا محل حاجة وضرورة ، قيل : الغرض في غيرها ، مع أن الملبوس لا بد منه ، وكذا الإيواء [ ص: 448 ] والسكن ، [ وإن ] قيل : هو كمسألتنا ، قيل هذا مع العلم ببطلانه : لا نعلم به قائلا ، والله أعلم . وقد قال أحمد رحمه الله في المجوس : لا تبن لهم ، وقال له ابن منصور : سئل الأوزاعي عن الرجل يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصارى ، فكره ذلك ، فقال أحمد : ما أحسن ما قال ; لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس . ويتوجه في هاتين المسألتين ما سبق من الخلاف ، ويدل عليه نصه في استئجار وقف الكنيسة ، وقوله : " إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر " ، ليس هذا على ظاهره ، والله أعلم .

                                                                                                          [ ص: 447 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 447 ] ( مسألة 18 ) قوله : وإن باع أو آجر مسلم داره من كافر ، فنقل المروذي : لا تباع ، يضرب فيها بالناقوس وينصب فيها الصلبان ؟ واستعظم ذلك وشدد فيه ، ونقل أبو الحارث : لا أرى ذلك ، يبيعها من مسلم أحب إلي ، قال الخلال : الأمر عندي لا تباع منه ولا تكرى ، لأنه معنى واحد .

                                                                                                          وقال أبو بكر عبد العزيز : لا فرق بين البيع والإجارة ، وإذا منع البيع منع الإجارة ، قال شيخنا يعني الشيخ تقي الدين ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك : قال ابن أبي موسى : كره أحمد أن يبيع داره من ذمي يكفر فيها ويستبيح المحظورات ، فإن فعل لم يبطل البيع ، وكذا قال الآمدي وأطلق الكراهة مقتصرا عليها ، ومقتضى ما سبق من كلام الخلال وصاحبه تحريم ذلك ، قاله شيخنا .

                                                                                                          وقال القاضي : لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه بيت نار أو كنيسة أو يبيع فيه الخمر ، قال شيخنا : فقد حرم القاضي إجارتها لمن يعلم أنه يبيع فيها الخمر ، مستشهدا على ذلك بنص أحمد ، وذلك يقتضي أن المنع عنده في هاتين الصورتين منع تحريم . وظاهر كلام من لم يخص هذه المسألة بالذكر كالشيخ وغيره الجواز ، انتهى ، قلت : هذا هو الصواب مع الكراهة ، وقد استشهد المصنف لذلك بمسائل ، ومال إليه ، والله أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية