الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1284 - مسألة : ومن غصب آخر مالا ، أو خانه فيه ، أو أقرضه فمات ولم يشهد له به ، ولا بينة له ، أوله بينة فظفر للذي حقه قبله بمال ، أو ائتمنه عليه سواء كان من نوع [ ص: 491 ] ماله عنده ، أو من غير نوعه ، وكل ذلك سواء - وفرض عليه أن يأخذه ويجتهد في معرفة ثمنه ، فإذا عرف أقصاه باع منه بقدر حقه ، فإن كان في ذلك ضرر : فإن شاء باعه وإن شاء أخذه لنفسه حلالا .

                                                                                                                                                                                          وسواء كان ما ظفر له به جارية ، أو عبدا ، أو عقارا ، أو غير ذلك ، فإن وفى بماله قبله فذاك وإن لم يف بقي حقه فيما لم ينتصف منه ، وإن فضل فضل رده إليه أو إلى ورثته ، فإن لم يفعل ذلك فهو عاص لله عز وجل إلا أن يحلله ويبريه فهو مأجور .

                                                                                                                                                                                          وسواء كان قد خاصمه أو لم يخاصمه ، استحلفه أو لم يستحلفه فإن طولب بذلك وخاف إن أقر أن يغرم فلينكر وليحلف ، وهو مأجور في ذلك .

                                                                                                                                                                                          وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهما .

                                                                                                                                                                                          وكذلك عندنا كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول الله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقوله تعالى : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } .

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } .

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى : { والحرمات قصاص } .

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود نا أحمد بن يونس نا زهير بن معاوية نا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين { أن هندا أم معاوية جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وبني ، فهل علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا ؟ قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } . [ ص: 492 ] وقد ذكرنا { قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك } وهذا إطلاق منه صلى الله عليه وسلم لصاحب الحق على ما وجد للذي له عليه الحق .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا الليث هو ابن سعد - حدثني يزيد هو ابن أبي حبيب - عن أبي الخير هو مرثد بن عبد الله اليزني - عن عقبة بن عامر الجهني [ قال ] : { قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا ، فما ترى فيه ؟ فقال لنا عليه السلام : إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف } وهو قول علي بن أبي طالب ، وابن سيرين . روينا من طريق خالد الحذاء عنه أنه قال : إن أخذ الرجل منك شيئا فخذ منه مثله - ومن طريق سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال : إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : لا تخن من خانك ، فإن أخذت منه مثل ما أخذ منك فليس عليك بأس .

                                                                                                                                                                                          وعن عطاء حيث وجدت متاعك فخذه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما قولنا : إن لم يفعل فهو عاص لله تعالى ، فلقول الله عز وجل : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو ، أو مسلم ، أو ذمي ، فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين ، لم يعن على البر والتقوى بل أعان على الإثم والعدوان ، هذا أمر يعلم ضرورة .

                                                                                                                                                                                          وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من رأى منكم منكرا أن يغيره بيده إن استطاع } فمن قدر على كف الظلم وقطعه وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر فلم يفعل فقد عصى الله عز وجل وخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يحلله من حق نفسه فقد أحسن بلا خلاف ، والدلائل على هذا تكثر جدا .

                                                                                                                                                                                          وخالفنا في هذا قوم - : فقالت طائفة : لا يأخذ منه شيئا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : إن ظفر بعين ماله فليأخذه وإلا فلا يأخذ غيره . [ ص: 493 ] وقالت طائفة : إن وجد من نوع ما أخذ منه فليأخذ وإلا فلا يأخذ غير نوعه . واحتجت هذه الطوائف بما رويناه من طريق يوسف بن ماهك قال : كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم ، فأدركت لهم من مالهم مثلها ، قلت : اقبض الألف الذي ذهبوا بها منك ; قال : لا ، حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { أد إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } ونحوه - : عن طلق بن غنام عن شريك ، وقيس هو ابن الربيع - عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد بن حميد عن هاشم بن القاسم عن المبارك بن فضالة عن الحسن { قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم كان لي حق على رجل فجحدني فدان له عندي حق أفأجحده ؟ قال : لا ، أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن رجل من بني سدوس يقال له : ديسم قلنا لبشير بن الخصاصية : لنا جيران ما تشذ لنا قاصية إلا ذهبوا بها وإنه يمضي لنا من أمواله أشياء فنذهب بها ؟ قال : لا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا - وكل هذا لا شيء - : أما حديث فلان عن أبيه ناهيك بهذا السند ، ليت شعري من فلان ؟ ونبرأ إلى الله تعالى من كل دين أخذ عن فلان الذي لا يدري من هو ، ولا ما اسمه ، ولا من أبوه ولا اسمه .

                                                                                                                                                                                          والآخر طلق بن غنام عن شريك ، وقيس بن الربيع ، وكلهم ضعيف .

                                                                                                                                                                                          والثالث مرسل ، وفيه المبارك بن فضالة وليس بالقوي .

                                                                                                                                                                                          وحديث بشير عن رجل يسمى ديسما مجهول .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صحت لما كان فيها حجة ; لأن نصها { لا تخن من خانك ، وأد الأمانة إلى من ائتمنك } وليس انتصاف المرء من حقه خيانة ، بل هو حق واجب ، وإنكار منكر ، وإنما الخيانة أن تخون بالظلم والباطل من لا حق لك عنده ، ولا من افترض الله تعالى عليه أن يخرج إليك من حقك ، أو من مثله إن عدم حقك ، وليس رد المظلمة أداء أمانة ، بل هو عون على الخيانة . [ ص: 494 ] ثم لا حجة في هذه الأخبار إلا لمن منع من الانتصاف جملة ، وأما من قسم فأباح أخذ ما وجد من نوع ماله فقط فمخالف لهذه الآثار ولغيرها - .

                                                                                                                                                                                          وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          تم " كتاب التفليس " والحمد لله رب العالمين

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية