الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
[ ص: 323 ] سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية عن nindex.php?page=treesubj&link=28785_29426قوم يقولون : كلام الناس وغيرهم قديم - سواء كان صدقا أو كذبا فحشا أو غير فحش نظما أو نثرا - ولا فرق بين كلام الله وكلامهم في القدم إلا من جهة الثواب . وقال قوم منهم - بل أكثرهم - : أصوات الحمير والكلاب كذلك ولما قرئ عليهم ما نقل عن الإمام أحمد ردا على قولهم تأولوا ذلك وقالوا : بأن أحمد إنما قال ذلك خوفا من الناس فهل هؤلاء مصيبون أو مخطئون ؟ وهل على ولي الأمر وفقه الله تعالى زجرهم عن ذلك أم لا ؟ وهل يكفرون بالإصرار على ذلك أم لا ؟ وهل الذي نقل عن أحمد حق كما زعموا أم لا فأجاب رضي الله عنه
الحمد لله . بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأ محرما بإجماع المسلمين وقد قالوا منكرا من القول وزورا ; بل كفرا ومحالا يجب نهيهم عنه ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك جزاء بما [ ص: 324 ] كسبوا نكالا من الله ; فإن هذا القول مخالف للعقل والدين مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين وهي " بدعة شنيعة " لم يقلها أحد قط من علماء المسلمين : لا علماء السنة ولا علماء البدعة ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول ; ولكن عرض لمن قالها شبهة ونحن نبينها إن شاء الله تعالى .
ولا يحتاج في مثل هذا الكلام الذي فساده معلوم ببداءة العقول أن يحتج له بنقل عن إمام من الأئمة إلا من جهة بيان أن رده وإنكاره منقول عن الأئمة وأن قائله مخالف للأمة مبتدع في الدين ; ولتزول بذلك شبهة من يتوهم أن قولهم من لوازم قول أحد من السلف ويعلم أنهم مخالفون لمذاهب الأئمة المقتدى بهم المعظمين ; وليتبين أن نقيض قولهم منصوص عن الأئمة المتبعين في السنة وليس ذلك مما سكتوا عنه نفيا وإثباتا .
وأنه لا ريب أن الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ومن قبله وبعده من الأئمة نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق - نصا مطلقا - بل نص أحمد وكثير من الأئمة على " أفعال العباد " عموما وعلى " كلام الآدميين " خصوصا ولم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لهؤلاء المبتدعة المخالفين حتى لا يقول قائل منهم أو من غيرهم : إنه لا يقال مخلوق ولا غير مخلوق لأجل شبهتهم أو لكون الكلام في [ ص: 325 ] ذلك بدعة بل nindex.php?page=treesubj&link=28785_29426القول بأن كلام الآدميين مخلوق غير قديم منصوص عن الأئمة المتفق على إمامتهم في الدين والسنة .
فمنهم من نص عليه لما تكلم في " مسائل القدر " و " خلق أفعال العباد " ومنهم من نص عليه لما تكلم في " مسألة تلاوة العباد للقرآن واللفظ به " ومنهم من نص عليه محتجا به على الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق . فروى أبو بكر أحمد بن هارون الخلال - وهو الذي جمع نصوص أحمد في أصول الدين وأصول الفقه وفي أبواب الفقه كلها وفي الآداب والأخلاق والزهد والرقائق وفي علل الحديث وفي التاريخ وغير ذلك من علوم الإسلام .
روي - في " كتاب السنة " في الكلام على اللفظية عن أبي بكر ابن زنجويه قال : سمعت nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل يقول : nindex.php?page=treesubj&link=28744_29454_29455من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع لا يكلم . قال الخلال : وأخبرنا nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود السجستاني قال : سمعت nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله يتكلم في " اللفظية " وينكر عليهم كلامهم وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر " اللفظية " وبدعهم وقال الخلال : سمعت ابن صدقة قال سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال سمعت رجلا سأل nindex.php?page=showalam&ids=17116معتمر بن سليمان أن لنا [ ص: 326 ] إماما قدريا أصلي خلفه قال : من زعم أن لفظه غير مخلوق بمنزلة من زعم أن سماء الله غير مخلوقة قال الخلال : وأخبرني أبو بكر المروزي حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثني مسدد قال : كنت عند يحيى القطان وجاء يحيى بن إسحاق بن توبة العنبري فقال له يحيى حدث هذا يعني مسددا كيف قال nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد فيها ؟ - أي " مسألتنا " - فقال سألت nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد عمن قال : كلام الناس ليس بمخلوق فقال هذا كلام أهل الكفر وقال nindex.php?page=showalam&ids=17303يحيى بن إسحاق سألت nindex.php?page=showalam&ids=17116معتمر بن سليمان عمن قال كلام الناس ليس بمخلوق فقال هذا كفر .
فهذه الآثار ونحوها مما اعتمد عليها المشهورون بالسنة كالمروذي والخلال وغيرهما وكذلك الإمام أبو عبد الله ابن بطة يعتمد في كتابه " الإبانة الكبير " على هذه الآثار ونحوهما .
قلت : nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام في السنة في طبقة مالك والثوري والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة والليث بن سعد في الزمان والإمامة بل هو عند علماء السنة أقعد بالسنة من الثوري وإن كان الثوري أكثر علما منه وزهدا وعند علماء الحديث أحفظ للحديث من nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة وإن كان حماد أشهر بالزهد وأكثر دعاء إلى السنة وهو إمام البصرة في ذلك الزمان الذي كانت البصرة فيه مجمع علم الإسلام وكان علماء الأمة وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل في ذلك العصر [ ص: 327 ] الذي هو عصر تابعي التابعين هؤلاء المسلمين ونحوهم وهم من القرن الثالث الممدوح .
و nindex.php?page=showalam&ids=17116 " المعتمر بن سليمان " أحد الأئمة الأعلام أيضا وهو دون nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد ابن زيد وقد أدركه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما وهو أحد شيوخ الإمام أحمد وأما nindex.php?page=showalam&ids=15743 " حماد بن زيد " ففات الإمام أحمد فقال : فاتني nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد فعوضني الله بإسماعيل بن علية وفاتني مالك بن أنس فعوضني الله سفيان بن عيينة .
وأما " يحيى بن سعيد القطان " فهو أحد علماء السنة وهو إمام أهل الحديث في معرفة صحته وعلله ورجاله وضبطه حتى قال أحمد : ما رأيت بعيني مثله يعني في ذلك الفن وعنه أخذ ذلك nindex.php?page=showalam&ids=16604علي بن المديني وعن علي أخذ ذلك البخاري صاحب الصحيح وقد ذكر الترمذي أنه لم ير في معرفة علل الحديث مثل محمد بن إسماعيل البخاري .
وهؤلاء العلماء الأئمة أنكروا على nindex.php?page=treesubj&link=28785من قال كلام الآدميين ولفظهم غير مخلوق لما نبغت " القدرية " المبتدعة وزعموا أن أفعال العباد غير مخلوقة لله : لا أقوالهم ولا سائر أعمالهم : لا خيرها ولا شرها ; بل يقولون : هي محدثة أحدثها العبد وليست مخلوقة لأحد أو يقولون : العبد خلقها كما أنه أحدثها ; فإنهم قد يتنازعون في إثبات [ ص: 328 ] خلق لغير الله ومع هذا فلم يكن بين الأمة نزاع في أنها محدثة كائنة بعد أن لم تكن ولم يقل أحد : إنها قديمة ; ولكن " القدرية " من المعتزلة وغيرهم اعتقدوا أن الأفعال الاختيارية وما يتولد عنها من أفعال الملائكة والجن والإنس - الطاعات والمعاصي - لم يخلقها الله . قالوا : لأنه لو خلقها للزم أن يكون العبد مجبورا وأن يرتفع التكليف والوعد والوعيد والثواب والعقاب ; ولأن العبد يعلم أنه هو الذي يحدث أفعاله علما ضروريا وعللوا ذلك بأدلة نظرية .
فلما ابتدعوا هذه " المقالة " أنكرها أئمة السنة كما أنكر الصحابة رضوان الله عليهم أول هذه البدعة لما نبغت القدرية في أواخر عصر الصحابة فرد عليهم ابن عمر وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=105وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة .
وأما صفة الله تعالى فهي داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة فإذا قلت : عبدت الله ودعوت الله و { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد } فهذا الاسم لا يخرج عنه شيء من صفاته من علمه ورحمته وكلامه وسائر صفاته ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=597362 : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=36247من حلف بغير الله فقد أشرك } وقد ثبت عنه : " nindex.php?page=treesubj&link=16359الحلف بعزة الله " والحلف بقوله : " لعمر الله " فعلم أن ذلك ليس حلفا بغير الله فأعطوا هذه الآيات المنصوصة حقها في اتباع عمومها الذي قد صرحت به في أن الله خالق كل شيء ; إذ قد علم أن الله ليس هو داخلا في المخلوق وعلم أن صفاته ليست خارجة عن مسمى اسمه .
هذا مع أن nindex.php?page=treesubj&link=29510_28778أهل السنة يقولون إن العبد له مشيئة وقدرة وإرادة وهو فاعل لفعله حقيقة وينهون عن إطلاق " الجبر " فإن لفظ " الجبر " يشعر أن الله أجبر العبد على خلاف مراد العبد كما تجبر المرأة على النكاح ; وليس كذلك ; بل العبد مختار يفعل باختياره ومشيئته ورضاه ومحبته ليس مجبورا عديم الإرادة والله خالق هذا [ ص: 332 ] كله ; فإن هذه الأمور من المحدثات الممكنات فالدلالة على أن الله خالقها كالدلالة على أنه خالق غيرها من المحدثات وليس هذا موضع الكلام على هذا فإن ذلك له موضع آخر .
وإنما الغرض هنا أن الأئمة ردوا على من جعل أقوال العباد وأفعالهم خارجة عن خلق الله وجعلوا ذلك بمنزلة من جعل السماء والأرض ليس مخلوقة لله . هذا مع أن أولئك المبتدعين كانوا يقولون إنها محدثة ليست قديمة فكيف إذا قيل : إنها قديمة فإن ذلك يصير ضلالين بل ثلاث ضلالات .
( أحدها جعل المحدث المصنوع صفة لله قديمة مضاهاة للنصارى ونحوهم .
و ( الثاني إخراج مخلوق الله ومقدوره عن خلقه وقدرته كما قالته القدرية مضاهاة للمجوس ونحوهم .
و ( الثالث إخراج فعل العبد ومقدوره وكسبه عن أن يكون مقدورا له وكسبا وفعلا مضاهاة للجبرية القدرية المشركية فهذا كان وجه كلام أولئك الأئمة في هذا .
ثم لما حدثت بدعة " اللفظية " احتج أئمة ذلك العصر في جملة [ ص: 333 ] ما احتجوا به بكلام أولئك السلف مثل البخاري الإمام صاحب " الصحيح " ومثل أبي بكر المروزي الإمام صاحب الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وخلق كثير في زمنه ومثل أبي بكر الخلال ونحوه . فاستدل هؤلاء الأئمة وغيرهم على بطلان قول nindex.php?page=treesubj&link=28785من يقول : إن فعل العبد أو صفاته المتعلقة بصفات الله غير مخلوقة بما دل على أن أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة . فروى البخاري عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان قال ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة . وروى المروزي صاحب الإمام أحمد والخلال ما تقدم ذكره من كلام الأئمة من النص على خلق كلام الآدميين وأفعالهم .
وسيأتي إن شاء الله نصوص الإمام أحمد في ذلك فإن القصد هنا التنبيه على الأصل الذي تشعب منه تفرق الأمة في هذا الموضع وهو " مسألة اللفظ " .
فصل و " nindex.php?page=treesubj&link=29463مسألة اللفظ بالقرآن " قد اضطرب فيها أقوام لهم علم وفضل ودين وعقل وجرت بسببها مخاصمات ومهاجرات بين أهل الحديث والسنة حتى قال nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة كلاما معناه لم يختلف أهل الحديث في شيء من [ ص: 334 ] مذاهبهم إلا في " مسألة اللفظ " . وبين أن سبب ذلك لما وقع فيها من الغموض والنزاع بينهم في كثير من المواضع لفظي ولم يكن بين الناس نزاع في أن كلام العباد الذي لم ينزله الله تعالى أنه محدث مخلوق وإن كان الكلام في " حروف الهجاء " وفي " أسماء المحدثات " فيه نزاع هو الذي أوقع هؤلاء الجهال في ما ارتكبوه من المحال كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى .
ومن الناس من كفر بهم وكذب : مثل الأمم الذين قص الله علينا أخبارهم من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وفرعون [ ص: 335 ] ومشركي العرب وكل من لم يؤمن بأصل الرسالة من الهند والبراهمة وغيرهم والترك والسودان وغيرهم من الأمم الأميين الذين لا كتاب لهم - سواء كانوا مكذبين للرسل أو معرضين عن اتباعهم ; فإن nindex.php?page=treesubj&link=28745_28801الكفر عدم الإيمان بالله ورسله سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب بل شك وريب أو إعراض عن هذا كله حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة وإن كان الكافر المكذب أعظم كفرا وكذلك الجاحد المكذب حسدا مع استيقان صدق الرسل والسور المكية كلها خطاب مع هؤلاء .
وكمن آمن ببعض صفات الرسالة وكفر ببعض : من الصابئين الفلاسفة ونحوهم : الذين قد يقرون بأصل الرسالة ; لكن يجعلون الرسول بمنزلة الملك العادل : الذي قد وضع قانونا لقومه أو يقولون : إن الرسالة للعامة دون الخاصة أو في الأمور العملية دون العلمية أو في الأمور التي يشترك فيها الناس دون الخصائص التي يمتاز بها الكمل [ ص: 337 ] ويقرون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث الجملة ويعظمونه ويقولون : اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يرد إلى الأرض ناموس أعظم من ناموسه ; لكنهم مع هذا يكفرون ببعض ما جاء به : مثل أن يسوغوا اتباع غير دينه من اليهودية والنصرانية وقد يسوغون الشرك أيضا للعامة أو للخاصة : مثل أن يسوغوا دعوة الكواكب وعبادتها والسجود لها وقد يكذبون في الباطن بأشياء مما أخبر بها ويزعمون أن ما أخبر به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هي أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما لا يجوز إظهاره وإبانة حقيقته ; وذلك أنهم يجوزون كذبه لمصلحة العامة بزعمهم .
وقد يزعمون أن حقيقة العلم بالله تؤخذ من غير ما جاء به الرسول وأن من الناس من يكون أعلم بالله منه أو أفضل منه ونحو ذلك من المقالات وهذا الضرب ما زال موجودا لا سيما مع القرامطة الباطنية : من الإسماعيلية والنصيرية والملوك العبيدية : الذين كانوا يدعون الخلافة ومع الخرمية والمزدكية وأمثالهم من الطوائف وهؤلاء خواصهم أكفر من اليهود والنصارى ومن الغالية الذين يقولون بإلهية علي ونحوه من البشر أو نبوته وهم منافقون زنادقة ; لكن في كثير من أتباعهم من يظن أنه مؤمن بالكتب والرسل لما لبسوا عليه أصل قولهم أو وافقهم في قول بعضهم دون بعض وأكثر هؤلاء يميلون إلى الرافضة ومنهم [ ص: 338 ] من ينتسب إلى التصوف ومنهم من ينتسب إلى الكلام ومنهم من يدخل مع الفقهاء في مذاهبهم . وهذا الضرب يكثر في الدول الجاهلية البعيدين عن معرفة الإسلام والتزامه كما كانوا كثيرين في دولة الديلم والعبيديين ونحوهم وكما يكثرون في دولة الجهال من الترك ونحوهم من الجهال الذين آمنوا بالرسالة من حيث الجملة من غير علم بتفاصيل ما جاء به الرسول لأن الجهال من الترك وغيرهم بهذا الضرب أشبه منهم بغيرهم ; فإن هؤلاء لا يوجبون اتباع الرسول على جميع أهل الأرض ; لكنهم قد يرون اتباعه أحسن من اتباع غيره فيتبعونه على سبيل الاستحباب أو يتبعون بعض ما جاء به أو لا يتبعونه بحال . وهم في ذلك مقرون له ولأتباعه .
فإنه صنع صنع الفيلسوف المخالف للرسل في تفكيره أولا : الذي هو طلب الانتقال من تصور طرفي القضية إلى المبادئ الموجبة للتصديق ليظفر بالحد الأوسط ثم قدر ثانيا والتقدير هو " القياس " وهو الانتقال من المبادئ إلى المطلوب بالقياس المنطقي الشمولي ; ولعمري [ ص: 344 ] إنه لصواب إذا صحت مقدماته وإن كانت النتيجة في الأغلب أمورا كلية ذهنية ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان كالعلوم الرياضية من الأعداد والمقادير ; فإن العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن الأجسام إنما يوجد في الذهن لكن أنى وأكثر مقدماته في الإلهيات دعاوى يدعى فيها بعموم ؟ وأن القضية من المسلمات بلا حجة ومتى لم يكن في القياس قضية كلية معلومة لم تفد المطلوب وهم يلبسون المهملات التي هي في معنى الجزئيات بالكليات العامة المسلمات أو يدعى فيها العموم بنوع من قياس التمثيل .
ومعلوم أنه لا بد في كل قياس من " قضية كلية " وعامة " القضايا الكلية " التي لهم فيها المطالب الإلهية لا يعلم كونها كلية عامة ; إذ عمومها لا يعلم إلا بمجرد قياس التمثيل الذي قد يكون من أفسد القياس المقتضي لتشبيه الله بخلقه كما يقولون : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وليس معهم إلا تشبيه خالق السموات والأرض ورب العالمين بالطبائع كطبيعة الماء والنار مع أن الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات وفي المنطق أيضا الذين يجعلون قضية الأنواع مركبة منه وهو " الجنس " و " الفصل " لا حقيقة لها ولا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع .
وبينا أن ما يثبتونه من العقليات التي هي " الجواهر العقلية " المجردة [ ص: 345 ] عن المادة وهي العقل والنفس والمادة والصورة التي ليست بجسم ولا عرض لا حقيقة لها في الخارج وإنما تقدر في الأذهان لا في الأعيان وكذلك ما يثبتونه من الواحد الذي يصفون به واجب الوجود ومن الواحد الذي يجعلون الأنواع تتركب منه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان " والقياس العقلي " الذي يحتجون به لا بد فيه من قضية كلية .
والقياس نوعان " قياس الشمول " و " قياس التمثيل " .
والناس متنازعون في مسمى " القياس " فقيل هو حقيقة في التمثيل مجاز في الشمول كما ذكر ذلك أبو حامد وأبو محمد المقدسي وغيرهما وقيل : هو حقيقة في عكس ذلك كما قاله ابن حزم وغيره من نفاة قياس التمثيل وقيل : بل اسم القياس يتناولهما وهذا قول جمهور الناس .
واسم " القياس العقلي " يدخل فيه هذا وهذا ; لكن من الناس من ظن أن " قياس التمثيل " لا يفيد اليقين ولا يستعمل في العقليات كما ذهب إليه أبو المعالي وأبو حامد والرازي وأبو محمد والآمدي وآخرون من أهل المنطق . وأما الجمهور فعندهم كلا القياسين سواء وهذا هو الصواب ; فإن مآل القياسين إلى شيء واحد وإنما يختلف بترتيب [ ص: 346 ] الدليل . فإن القائل إذا قال : النبيذ المتنازع فيه حرام ; لأنه مسكر فكان حراما قياسا على خمر العنب فلا بد له أن يثبت أن السكر هو مناط التحريم وهو الذي يسمى في قياس التمثيل " مناطا " و " علة " . و " أمارة " و " مشتركا " و " وضعا " ونحو ذلك .
ولا بد في القياس الصحيح من أن يقيم دليلا على أن السكر مناط التحريم بحيث إذا وجد السكر وجد التحريم فإذا صاغ الدليل بقياس الشمول فإن النبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالسكر في هذا النظم هو الحد الأوسط المكرر وهو العلة في قياس التمثيل ولا بد له في هذا القياس من أن يثبت هذه القضية الكلية الكبرى وهي قوله : كل مسكر حرام فما به ثبتت هذه القضية في هذا النظم يثبت به أنه مناط التحريم في ذلك النظم لا فرق بينهما .
وإذا قال القائل : إثبات تأثير الوصف وكونه مناط الحكم هو عمدة القياس وهو جواب " سؤال المطالبة " وبيان كون الوصف بالشمول هو مناط الحكم وهذا لا يثبت إلا بأدلة ظنية .
قيل له : وإثبات عموم القضية الكبرى في قياس الشمول هو عمدة القياس ; فإن الصغرى في الغالب تكون معلومة كما يكون ثبوت الوصف في الفرع معلوما وإذا كان ثبوت الوصف في الفرع قد يحتاج إلى دليل كما قيل تحتاج [ ص: 347 ] المقدمة الصغرى إلى دليل وإثبات المقدمة الكبرى لا يتأتى إلا بأدلة ظنية ونفس ما به يثبت عموم القضية يثبت تأثير الوصف المشترك لا فرق بينهما أصلا واستعمال كلا القياسين في الأمور الإلهية لا يكون إلا على وجه الأولى والأحرى .
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أن ما يستفاد ب " القياس الشمولي " في عامة الأمور قد يستفاد بدون ذلك فتعلم أحكام الجزئيات الداخلة في القياس بدون معرفة حكم القضية الكلية كما إذا قيل : الكل أعظم من الجزء والضدان لا يجتمعان فما من كل معين وضدين معنيين إلا وإذا علم أن هذا جزء هذا وأن هذا ضد هذا علم أن هذا أعظم من هذا وأن هذا لا يجامع هذا [ ص: 348 ] بدون أن يخطر بالبال قضية كلية أن كل ضدين لا يجتمعان وأن كل كل فهو أعظم من جزء . وكذلك إذا قيل النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فما من نقيضين يعرف أنهما نقيضان إلا ويعرف أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان بدون أن يستحضر أن كل نقيضين لا يجتمعان [ ولا يرتفعان ] .
فعامة المطالب يستغنى فيها عن القياس المنطقي المتضمن للكبرى الذي لا بد فيه من قضية كلية [ و ] الأمور المعينات لا تعلم بمجرد القياس العقلي وإنما يعلم بالقياس القدر المشترك بينها وبين غيرها وهم يسلمون ذلك وبينا أن الأدلة الدالة على الصانع هي آيات تدل بنفسها على نفسه المقدسة وبينا الفرق بين دلالة الآيات ودلالة القياس وأن الأدلة أكمل وأنفع وطريقة القياس تابعة لها ودونها في المنفعة والكمال والقرآن جاء بهذه وهذه ومعرفة الإلهيات والنبوات وغيرها فتلك الطريقة أكمل وأتم .
وهؤلاء يزعمون أنه لا ينال مطلوب فطري إلا بطريقة القياس الذي لا بد فيه من قضية كلية والقضية الكلية لا تفيد إلا أمرا كليا عقليا لا تفيد معرفة شيء معين وكل موجود فهو معين فكيف يقول عاقل مع هذا أنه لا ينال علم إلا بهذه الطريق ثم إنهم في ضلالهم يظنون أن علم الأنبياء بل وعلم الرب سبحانه إنما حصل [ ص: 349 ] بواسطة القياس المنطقي وأن النبي له قوة حدسية يظفر بالحد الأوسط في القياس المنطقي بدون معلم فيكون أكمل من غيره فيجعلون علمه بالغيب من هذا الباب ولم يدرك بمثل هذا القياس علوم طبيعية أو حسابية ونحو ذلك فمن أين أنه لا ينال علم إلا به ؟ ومن أين أنه لا مواد يقينية إلا ما يدعيه المدعي مما عنده من الحدسيات المعتادة الظاهرة والباطنة والبديهيات المعتادة والمتواترات والمجربات المعتادة . والحدسيات المعتادة والحس الباطن والظاهر والتجربة ونحو ذلك لا يعلم بمجرده إلا أمر معين جزئي وذلك لا يصلح أن يكون مقدمة في القياس ولكن يعلم في العموم إما بواسطة قياس تمثيل وإما بعلم ضروري يحدثه الله في القلب ابتداء وإذا أحدث علما ضروريا عاما لأفراد فإحداث العلم ببعض تلك الأفراد سهل فقل أن يستفاد بطريقهم علم بنتيجة إلا والعلم بالنتيجة فيه ممكن بالطريق الذي به عرفت المقدمات أو أسهل فلا يكون في قياسهم إلا زيادة تطويل وتهويل وتضليل .
وقد بسطنا الكلام على " المنطق اليوناني " بما فيه من حق وباطل ونافع وضار في غير هذا الموضع . ونفي العلم إلا بهذا القياس ونفي كون القياس يقينيا إلا بهذه المقدمات قول بلا علم وتكذيب بما لم يحط المكذب بعلمه ; ولهذا كانت الطريقة النبوية السلفية أن يستعمل في العلوم الإلهية " قياس الأولى " كما قال الله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60ولله المثل الأعلى } إذ لا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولا يتماثلان في شيء من الأشياء بل يعلم أن كل كمال - لا نقص فيه بوجه - ثبت للمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه وأمثال هذه " الأقيسة العقلية " التي من نوع الأمثال المضروبة في القرآن ولله المثل الأعلى وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع .
فلما كان الكفار بالرسالة على ما ذكر جاء في الكفار ببعضها من شاركهم في بعض ذلك : فأنكرت الجهمية أن يكون الله يتكلم أو يقول أو يحب أو يبغض وأنكروا سائر صفاته التي جاءت بها الرسل فأنكروا بعض حقيقة الرسالة التي هي كلام الله وأنكروا بعض ما في الرسالة من صفات الله .
وأول من أظهر ذلك في الإسلام - وإن كان ذلك موجودا قبل الإسلام في أمم أخرى - nindex.php?page=showalam&ids=14005الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان وكان على ما قيل من أهل حران وكان فيهم أئمة الفلاسفة ومنهم تعلم أبو نصر الفارابي كثيرا مما تعلم من الفلسفة على ما ذكره عبد اللطيف بن يوسف البغدادي فضحى بالجعد خالد بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين وهم بقايا التابعين في وقته : مثل الحسن البصري وغيره الذين حمدوه على ما فعل وشكروا ذلك فقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم ; فإني مضح بالجعد [ ص: 351 ] ابن درهم ; إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما - تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا - ثم نزل فذبحه .
وبنوا ذلك على قاعدة مبتدعة الصابئين المكذبين ببعض ما جاءت به الرسل الذين لا يصفون الرب إلا بالصفات السلبية أو الإضافية أو المركبة منهما وهم في هذا التعطيل موافقون في الحقيقة لفرعون رئيس الكفار الذي جحد الصانع بالكلية ; فإن جحود صفاته مستلزم لجحود ذاته ; ولهذا وافقوا فرعون في تكذيبه لموسى بأن ربه فوق السموات حيث قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=36يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=37أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم الذي صدق موسى لما عرج به إلى ربه وأخبر أنه وجد موسى هناك وأنه جعل يختلف بين ربه وبين موسى فمحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السموات وفرعون كذبه في ذلك . والناس إما محمدي موسوي وإما فرعوني ; إذ فرعون كذب موسى في أن الله فوق وكذبه في أن الله كلمه كما أنكر وجود الصانع ومحمد صدق موسى في هذا كله .
وهؤلاء الصابئة المحضة من المتفلسفة يقولون : إن الله ليس له كلام في الحقيقة ; لكن كلامه - عند من أظهر الإقرار بالرسل منهم - ما يفيض على نفوس الأنبياء وهو أنه محدث في نفوسهم من غير أن [ ص: 352 ] يكون في الخارج عن نفوسهم لله عندهم كلام وهكذا كان الجهم يقول أولا : إن الله لا كلام له ثم احتاج أن يطلق أن له كلاما لأجل المسلمين فيقول : هو مجاز ; ولهذا كان nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره من الأئمة يعلمون مقصودهم وأن غرضهم التعطيل وأنهم زنادقة و " الزنديق " المنافق .
ولهذا تجد مصنفات الأئمة يصفونهم فيها بالزندقة كما صنف nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " الرد على الزنادقة والجهمية " وكما ترجم البخاري آخر كتاب الصحيح ب " كتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية " وكان nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك يقول : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية .
وتقول الصابئة المحضة - الذين آمنوا في الظاهر وآمنوا في الباطن ببعض الكتاب - كلام الله اسم لما يفيض على قلب النبي من " العقل الفعال " أو غيره و " ملائكة الله " اسم لما يتشكل في نفسه من الصور النورانية وقد يقولون : إن جبريل هو " العقل الفعال " أو هو ما يتمثل في نفسه من الصور الخيالية كما يراه النائم ; ولهذا يقول هؤلاء : إن خاصة النبي التخييل وأن الأنبياء أظهروا خلاف ما أبطنوه لمصلحة العامة ولم يفيدوا بكلامهم علما ; لكن تخييلا ينتفع به العامة ويجعلون هذا من أفضل الأمور ويمدحون الأنبياء بذلك ويعظمونهم [ ص: 353 ] وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع أخر .
وعندهم ليس خارجا عن نفس النبي كلام ولا ملك كما يزعمه من يزعمه من المتفلسفة والصابئة المشركين وزعموا أنهم مؤمنون وقالوا إنهم يجمعون بين النبوة والفلسفة كما يفعل الفارابي nindex.php?page=showalam&ids=13251وابن سينا وغيرهما من المتفلسفة والقرامطة الباطنية من الإسماعيلية ونحوهم الذين أخذوا معاني المتفلسفة الروم والفرس فأخرجوها في قالب التشيع والرفض . والإمامية والزيدية وغيرهم من الشيعة يعلمون أنهم كفار .
ومثل ابن سبعين وأمثاله ممن أظهر التصوف على طريقة هؤلاء فهو يأخذ معانيهم يكسوها عبارات الصوفية والصوفية العارفون يعلمون أنهم كفار وإن شيوخ الصوفية الكبار nindex.php?page=showalam&ids=14919كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم nindex.php?page=showalam&ids=12032وأبي سليمان الداراني وعمرو بن عثمان الشبلي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي ونحوهم - رضي الله عنهم - كانوا من أعظم الناس تكفيرا لهؤلاء ; فإن قول هؤلاء الزنادقة - وإن كان فيه إيمان من وجه آخر - فهؤلاء موافقون في الحقيقة لمقدمهم الوحيد الذي قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=25إن هذا إلا قول البشر } لكن ذاك كفر به كله ظاهرا وباطنا وهؤلاء قد يؤمنون به ظاهرا وقد يؤمنون باطنا ببعض صفاته : من أنه مطاع عظيم وأنه رئيس النوع الإنساني وأن هذا الكلام الذي [ ص: 354 ] جاء به كلام عظيم القدر صادر عن نفس صافية كاملة العلم والعمل لها ثلاث خصائص تتفرد بها عن غيرها .
خصيصة قوة الحدس والعلم وخصيصة قوة التأثير في العالم السفلي بنفسه وخصيصة قوة التخيل المطابق للحقائق بحيث يسمع في نفسه الأصوات ويرى من الصور ما يكون خيالا للحقائق وأنه يجوز إضافة كلامه إلى الله وتسميته كلام الله حيث هو أمر به أمرا خياليا . وفي الحقيقة عندهم ما يفيض على سائر النفوس الصافية من العلوم والكلمات هي أيضا كلام الله مثل ما أنه كلام الله ; لكن هو أشرف وخطابه دل على أنه رسول الخلق تجب عليهم طاعته التي أخبرت بها الرسل لكن يطلقون عليه أنه متكلم ; ولهذا يقولون : إن " النبوة " مكتسبة فطمع غير واحد منهم أن يصير نبيا كما طمع السهروردي وابن سبعين وغيرهما من الملحدين .
وقد بينا أصول أقوالهم وفسادها في غير هذا الموضع مثل كلامنا على إبطال قولهم : إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية .
وأما " المعتزلة " ونحوهم فيوافقونهم في أن الله لا يتكلم في الحقيقة التي يعلم الناس أن صاحبها يتكلم [ بل كلامه ] منفصل عنه ويزعمون أن ذلك حقيقة وليس كلامه عندهم إلا أنه خلق في الهواء أو غيره [ ص: 355 ] أصواتا يسمعها من يشاء من ملائكته وأنبيائه من غير أن يقوم بنفسه كلام لا معنى ولا حروف وهم يتنازعون في ذلك المخلوق هل هو جسم أو عرض أو لا يوصف بواحد منهما .
ولما ظهر هؤلاء تكلم السلف من التابعين وتابعيهم في تكفيرهم والرد عليهم بما هو مشهور عند السلف واطلع الأئمة الحذاق من العلماء على أن حقيقة قول هؤلاء هو التعطيل والزندقة وإن كان عوامهم لا يفهمون ذلك كما اطلعوا على أن حقيقة قول القرامطة والإسماعيلية هو التعطيل والزندقة وإن كان عوامهم إنما يدينون بالرفض وجرت فتنة الجهمية كما امتحنت الأئمة وأقام " nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " إمام السنة وصديق الأمة في وقته وخليفة المرسلين ووارث النبيين فثبت الله به الإسلام والقرآن وحفظ به على الأمة العلم والإيمان ودفع به أهل الكفر والنفاق والطغيان الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض .
فاستقر أهل السنة وجماهير الأمة وأهل الجماعة وأعلام الملة في شرقها وغربها على الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله وجاء به خاتم النبيين مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وهو أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله وإن nindex.php?page=treesubj&link=28744_28721كلام الله لا يكون مخلوقا منفصلا عنه كما لا يكون كلام المتكلم منفصلا عنه ; فإن هذا جحود لكلامه الذي [ ص: 356 ] هو رسالته ودفع لحقيقة ما أنبأت به الرسل وعلمته أممهم وإلحاد في أسماء الله وآياته وتمثيل له بالمعدوم والموات ; فإن الحياة والعلم والقدرة والكلام ونحو ذلك صفات كمال والرب تعالى أحق بكل كمال فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه كيف وهو خالق الكمال للكاملين .
و " أيضا " فمن لم يتصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة والكلام وغير ذلك فإما أن يكون قابلا للاتصاف بذلك ولم يتصف به أو غير قابل للاتصاف به . فإن قبله ولم يتصف به كان موصوفا بصفات النقص : كالموت والجهل والعمى والصمم والعجز والبكم باتفاق العقلاء ; فإنهم متفقون على أن القابل لهذا ولهذا متى لم يتصف بأحدهما اتصف بالآخر وإن قيل : إنه لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها . فالحيوان الذي يكون تارة سميعا وتارة أصم وتارة بصيرا وتارة أعمى وتارة متكلما وتارة أخرس أكمل من الجماد الذي لا يقبل أن يكون لا هذا ولا هذا .
فمن لم يصفه بصفات الكمال لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص . وذلك أن " المتفلسفة " [ ص: 357 ] اصطلحوا على تقسيم " المتقابلين بالنفي والإثبات " إلى النقيضين وإلى ما يسمونه " العدم والملكة " ف " العدم " عندهم سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كالعمى والخرس ; فإنه عدم البصر والكلام عما من شأنه أن يكون بصيرا متكلما . فأما الجماد فلا يسمونه لا بهذا ولا بهذا .
" وشبهتهم " لبست على طائفة من أهل النظر فظنوا أنه إذا لم يوصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن يتصف بصفات النقص لأنهما متقابلان تقابل " العدم والملكة " لا تقابل النقيضين .
ويقال لهم : " ثانيا " النظر في المعاني العقلية ومعلوم أن عدم هذه الصفات يستلزم النقص الثابت بعدمها .
ويقال لهم " ثالثا " : إذا قلتم لا يتصف بواحد منهما لكونه لا يقبل ذلك فهذا النقص أعظم من نقص العمى والصمم والبكم ; فإنما لا يقبل [ ص: 358 ] الاتصاف بصفات الكمال أنقص ممن هو قابل لها يمكن اتصافه بها ; فإنه منه بدأ ; لا كما يقوله الصابئة ومن وافقهم من الجهمية : إنه ابتدأ من نفس النبي أو من " العقل الفعال " أو من " الهواء " بل هو تنزيل من حكيم حميد وإنه إليه يعود إذا أسري به من المصاحف والصدور .
وصار " nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " علما لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف : كلهم يوافقه في جمل أقواله وأصول مذاهبه ; لأنه حفظ على الأمة الإيمان الموروث والأصول النبوية - ممن أراد أن يحرفها ويبدلها - ولم يشرع دينا لم يأذن الله به والذي قاله هو الذي يقوله سائر الأئمة الأعيان حتى إن أعيان أقواله منصوصة عن أعيانهم ; لكن جمع متفرقها وجاهد مخالفها وأظهر دلالة الكتاب والسنة عليها ومقالاته ومقالات الأئمة قبله وبعده في الجهمية كثيرة مشهورة .
" والجهمية " هم نفاة صفات الله المتبعون للصابئة الضالة . وصارت فروع التجهم تجول في نفوس كثير من الناس . فقال بعض من كان معروفا بالسنة والحديث : ولا نقول مخلوق ولا غير مخلوق بل نقف وباطن أكثرهم موافق للمخلوقية ولكن كان المؤمنون أشد رهبة في صدورهم من الله .
[ ص: 359 ] و " طائفة أخرى " قالت : نقول كلام الله الذي لم ينزله غير مخلوق وأما القرآن الذي أنزله على رسوله وتلاه جبريل ومحمد والمؤمنون فهو مخلوق وهؤلاء هم " اللفظية " . فصارت الأمة تفزع إلى إمامها إذ ذاك فيقول لهم أحمد : افترقت الجهمية على " ثلاث فرق " فرقة تقول : القرآن مخلوق وفرقة تقول كلام الله وتسكت وفرقة تقول : ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة . فإن حقيقة قول هؤلاء أن القرآن الذي نزل به جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قرآن مخلوق لم يتكلم الله به وكان لهؤلاء شبهة كون أفعالنا وأصواتنا مخلوقة ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا . وربما قال بعضهم ما عندنا إلا ألفاظنا وتلاوتنا وما في الأرض قرآن إلا هذا . وهذا مخلوق .
فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة فوقعوا في البدعة . وردوا باطلا بباطل وقابلوا الفاسد بالفاسد فقالوا : تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة وألفاظنا به غير مخلوقة ; لأن هذا هو القرآن . والقرآن غير مخلوق ولم يفرقوا بين الاسم المطلق والاسم المقيد في الدلالة وبين حال المسمى إذا كان مجردا وحاله إذا كان مقرونا مقيدا . فأنكر nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد أيضا على من قال : إن تلاوة العباد وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم غير مخلوقة وأمر بهجران هؤلاء كما جهم الأولين وبدعهم . والنقل عنه [ ص: 360 ] بذلك من رواية ابنه عبد الله وصالح والمروذي وفوران وأبي طالب وأبي بكر بن صدقة وخلق كثير من أصحابه وأتباعه .
وقد قام أخص أتباعه " أبو بكر المروذي " بعد مماته في ذلك وجمع كلامه وكلام الأئمة من أصحابه وغيرهم : مثل عبد الوهاب الوراق والأثرم وأبي داود السجستاني والفضل بن زياد ومثنى بن جامع الأنباري ومحمد بن إسحاق الصنعاني ومحمد بن سهل بن عسكر وغير هؤلاء من علماء الإسلام . وبين بدعة هؤلاء الذين يقولون إن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة .
وقد ذكر ذلك الخلال في " كتاب السنة " وبسط القول في ذلك . قال الخلال : أخبرني أبو بكر المروذي قال : بلغ nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله عن أبي طالب أنه كتب إلى أهل نصيبين : أن لفظي بالقرآن غير مخلوق قال أبو بكر : فجاءنا nindex.php?page=showalam&ids=16207صالح بن أحمد فقال : قوموا إلى أبي فجئنا فدخلنا على nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله فإذا هو غضبان شديد الغضب قد تبين الغضب في وجهه فقال : اذهب فجئني بأبي طالب فجئت به فقعد بين يدي nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله وهو يرعد فقال : كتبت إلى أهل نصيبين تخبرهم عني أني قلت : لفظي بالقرآن غير مخلوق فقال : إنما حكيت عن نفسي قال : فلا يحل هذا عنك ولا عن نفسي فما سمعت عالما قال هذا . قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله : القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فقيل لأبي طالب : اخرج وأخبر [ ص: 361 ] أن nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله قد نهى أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق . فخرج أبو طالب فلقي جماعة من المحدثين فأخبرهم : أن nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله نهاه أن يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق .
ومع هذا فكل واحدة من " الطائفتين " الذين يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق والذين يقولون لفظنا وتلاوتنا مخلوقة ينتحل nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله وتحكي قولها عنه وتزعم أنه كان على مقالتها لأنه إمام مقبول عند الجميع ; ولأن الحق الذي مع كل طائفة يقوله أحمد والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد . فمحمد بن داود المصيصي أحد علماء الحديث وأحد شيوخ أبي داود وجماعة في زمانه كأبي حاتم الرازي وغيره nindex.php?page=treesubj&link=29463يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتبعهم طائفة على ذلك : كأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي عبد الله بن منده وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري وأبي العلاء الهمداني وأبي الفرج المقدسي وغير هؤلاء يقولون : إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ويروون ذلك عن أحمد وأنه رجع إلى ذلك كما ذكره أبو نصر في كتابه " الإبانة " وهي روايات ضعيفة بأسانيد مجهولة لا تعارض ما تواتر عنه عند خواص أصحابه وأهل بيته والعلماء الثقات لا سيما وقد علم أنه في حياته خطأ أبا طالب في النقل عنه حتى رده أحمد عن ذلك وغضب عليه غضبا شديدا .
[ ص: 362 ] وقد رأيت بعض هؤلاء طعن في تلك النقول الثابتة عنه ومنهم من حرفها لفظا وأما تحريف معانيها فذهب إليه طوائف فأما الذين ثبتوا النقل عنه ووافقوه على إنكاره الأمرين وهم جمهور أهل السنة ومن انتسب إليهم من أهل الكلام كأبي الحسن الأشعري وأمثاله فإنه ذكر في " مقالات أهل السنة والحديث " إنهم ينكرون على من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ومن قال : لفظي به غير مخلوق وأنه يقول بذلك .
لكن من هؤلاء من تأول كلام أحمد وغيره في ذلك بأنه منع أن يقال : إن القرآن يلفظ به وهذا قاله الأشعري Multitarajem.php?tid=12604,12605وابن الباقلاني nindex.php?page=showalam&ids=14953والقاضي أبو يعلى وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وأمثاله .
ثم هؤلاء الذين تأولوا كلامه على ذلك منهم من قال : المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق كما فعل ذلك الأشعري وأتباعه . ومنهم من قال : بل المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي به غير مخلوق كما فعل ذلك القاضي nindex.php?page=showalam&ids=12737وابن الزاغوني وأمثالهما ; فإن أحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقا حروفه . أو معانيه أو أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن وأن كلام الله إذا عبر عنه بالعربية يكون قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية يكون هو التوراة وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله أو أن يطلق [ ص: 363 ] القول على ما هو كلام الله بأنه مخلوق وأحمد والأئمة ينكرون على من يجعل شيئا من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق . فضلا عن أن يكون قديما وكلام أحمد في " مسألة التلاوة والإيمان والقرآن " من نمط واحد منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق ; لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق ولما فيه من الذريعة ومنع أيضا إطلاق القول بأنه غير مخلوق لما في ذلك من البدعة والضلال .
ولما كان أحمد قد صار هو إمام السنة كان من جاء بعده ممن ينتسب إلى السنة ينتحله إماما كما ذكر ذلك الأشعري في " كتاب الإبانة " وغيره فقال إن قال قائل : قد أنكرتم قول " الجهمية " و " المعتزلة " و " الخوارج " و " الروافض " و " المرجئة " فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون .
قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله أحمد بن حنبل " قائلون ولما خالفه مجانبون ; فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين وذكر جملا من المقالات .
[ ص: 364 ] فلهذا صار من بعده متنازعين في هذا الباب . " فالطائفة " الذين يقولون لفظنا وتلاوتنا غير مخلوقة ينتسبون إليه ويزعمون أن هذا آخر قوليه أو يطعنون فيما يناقض ذلك عنه أو يتأولون كلامه بما لم يرده .
و " الطائفة " الذين يقولون إن التلاوة مخلوقة والقرآن المنزل الذي نزل به جبريل مخلوق وإن الله لم يتكلم بحروف القرآن : يقولون : إن هذا قول أحمد وأنهم موافقوه كما فعل ذلك أبو الحسن الأشعري . فيما ذكره عن أحمد وفسر به كلامه وذكر أنه موافقه وكما ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في تنزيه أصحابه من مخالفة السنة وأئمتها nindex.php?page=showalam&ids=12251كالإمام أحمد وكما فعله nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المعروف في ذلك وكما فعله nindex.php?page=showalam&ids=12002أبو ذر الهروي والقاضي عبد الوهاب المالكي وكما فعله أبو بكر البيهقي في الاعتقاد في مناقب nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد . وروي عنه أنه قال لفظي بالقرآن مخلوق وتأول ما استفاض عنه من الإنكار على من قال لفظي بالقرآن [ غير ] مخلوق على أنه أراد الجهمي المحض الذي يزعم أن القرآن الذي لم ينزل مخلوق .
وكذلك أيضا افترى بعض الناس على البخاري الإمام صاحب " الصحيح " أنه كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق وجعلوه من " اللفظية " حتى وقع بينه وبين أصحابه : مثل nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى الذهلي [ ص: 365 ] وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم بسبب ذلك وكان في القضية أهواء وظنون حتى صنف " كتاب خلق الأفعال " وذكر فيه ما رواه عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة . وذكر فيه ما يوافق ما ذكره في آخر كتابه " الصحيح " من أن nindex.php?page=treesubj&link=29463_29453القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يتكلم بصوت وينادي بصوت . وساق في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآثار ما ليس هذا موضع بسطه وبين الفرق بين الصوت الذي ينادي الله به وبين الصوت الذي يسمع من العباد وأن الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من القارئ وبين دلائل ذلك وأن أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة والله تعالى بفعله وكلامه غير مخلوق .
وقال في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=2ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } إن حدثه ليس كحدث المخلوقين . وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=597365إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } وذكر عن علماء السلف : أن خلق الرب للعالم ليس هو المخلوق ; بل فعله القائم به غير مخلوق وذكر عن نعيم بن حماد الخزاعي : أن الفعل من لوازم الحياة وأن الحي لا يكون إلا فعالا . إلى غير ذلك من المعاني التي تدل على علمه وعلم السلف بالحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول .
[ ص: 366 ] وذكر أن كل واحدة من طائفتي " اللفظية المثبتة والنافية " تنتحل nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله وأن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل كثير مما ينقل عنه كذب وأنهم لم يفهموا بعض كلامه لدقته وغموضه وأن الذي قاله وقاله nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد هو قول الأئمة والعلماء وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة .
ورأيت بخط nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى - رحمه الله - على ظهر " كتاب العدة " بخطه قال : نقلت من آخر " كتاب الرسالة " للبخاري في أن القراءة غير المقروء . وقال : وقع عندي عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجها كلها يخالف بعضها بعضا والصحيح عندي أنه قال ما سمعت عالما يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق قال وافترق أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل على نحو من خمسين . قال أبو عبد الله البخاري قال ابن حنبل " اللفظي " الذي يقول : القرآن بألفاظنا مخلوق .
وكان " أيضا " قد نبغ في أواخر عصر nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله من الكلابية ونحوهم - أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري : الذي صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهو من متكلمة الصفاتية وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة ; لكن فيها نوع من البدعة ; لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته ; ولكن له في الرد على الجهمية - نفاة الصفات والعلو - من الدلائل والحجج وبسط القول ما بين به فضله [ ص: 367 ] في هذا الباب وإفساده لمذاهب نفاة الصفات بأنواع من الأدلة والخطاب وصار ما ذكره معونة ونصيرا وتخليصا من شبههم لكثير من أولي الألباب حتى صار قدوة وإماما لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها ; وإن كانوا قد شركوهم في بعض أصولهم الفاسدة : التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول .
وكان ممن اتبعه الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي ثم أبو الحسن الأشعري وأبو الحسن بن مهدي الطبري وأبو العباس الضبعي وأبو سليمان الدمشقي وأبو حاتم البستي وغير هؤلاء : المثبتين للصفات المنتسبين إلى السنة والحديث المتلقبين بنظار أهل الحديث .
وسلك طريقة nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب - في الفرق بين " الصفات اللازمة " كالحياة و " الصفات الاختيارية " وأن الرب يقوم به الأول دون الثاني - كثير من المتأخرين : من أصحاب مالك والشافعي وأحمد : كالتميميين أبي الحسن التميمي وابنه nindex.php?page=showalam&ids=11894أبي الفضل التميمي وابن ابنه رزق الله التميمي وعلى عقيدة الفضل التي ذكر أنها عقيدة أحمد اعتمد أبو بكر البيهقي فيما ذكره من مناقب أحمد من الاعتقاد .
وكذلك سلك طريقة nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب هذه أبو الحسن بن سالم وأتباعه [ ص: 368 ] " السالمية " nindex.php?page=showalam&ids=14953والقاضي أبو يعلى وأتباعه : Multitarajem.php?tid=13371,13372كابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وهي طريقة أبي المعالي الجويني وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم ; لكنهم افترقوا في القرآن وفي بعض المسائل على قولين - بعد اشتراكهم في الفرق الذي قرره nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب - كما قد بسط كلام هؤلاء في مواضع أخر .
nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب ويحذرون عن أصحابه وهذا هو سبب تحذير nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية .
ولما ظهر هؤلاء ظهر حينئذ من المنتسبين إلى إثبات الصفات من يقول : إن الله لم يتكلم بصوت فأنكر أحمد ذلك وجهم من يقوله وقال : هؤلاء الزنادقة إنما يدورون على التعطيل وروى الآثار في أن الله يتكلم بصوت وكذلك أنكر على من يقول إن الحروف مخلوقة قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في " كتاب السنة " : قلت لأبي : إن ههنا من يقول إن الله لا يتكلم بصوت فقال : يا بني هؤلاء جهمية زنادقة إنما يدورون على التعطيل وذكر الآثار في خلاف قولهم .
[ ص: 369 ] وكذلك البخاري صاحب " الصحيح " وسائر الأئمة أنكروا ذلك أيضا وروى البخاري في آخر " الصحيح " وفي " كتاب خلق الأفعال " ما جاء في ذلك من الآثار وبين الفرق بين صوت الله الذي يتكلم به وبين أصوات العباد بالقرآن موافقة منه nindex.php?page=showalam&ids=12251للإمام أحمد وغيره من الأئمة حيث بين أن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الآثار وأن ذلك ليس صوت العبد بالقراءة ; بل ذلك هو صوت العبد كما قد نص على ذلك كله في مواضع وعامة أئمة السنة والحديث على هذا الإثبات والتفريق : لا يوافقون قول من يزعم أن الكلام ليس فيه حرف ولا صوت ولا يوافقون قول من يزعم أن الصوت المسموع من القراء وألفاظهم قديمة ولا يقولون : إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات .
وقد كتبت كلام " nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " ونصوصه وكلام الأئمة قبله وبعده في غير هذا الموضع ; فإن جواب هذه " المسألة " لا يحتمل البسط الكثير ; ولم يكن في كلام nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ولا الأئمة أن الصوت الذي تكلم الله به قديم ; بل يقولون لم يزل الله متكلما وقد يقولون nindex.php?page=treesubj&link=28743لم يزل الله متكلما إذا شاء بما شاء كما يقول ذلك nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وابن المبارك وغيرهما .
وكذلك قد تنازع الناس في زمنهم وبعده - من أصحابهم وغيرهم - في nindex.php?page=treesubj&link=28744_29453معنى كون القرآن غير مخلوق هل المراد به أن نفس الكلام قديم [ ص: 370 ] أزلي كالعلم ؟ أو أن الله لم يزل موصوفا بأنه متكلم إذا شاء ؟ على قولين . ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة وأبو بكر عبد العزيز في " كتاب الشافي " عن أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وذكرهما أبو عبد الله ابن حامد في كتابه " أصول الدين " . والنزاع في ذلك بين سائر طوائف السنة والحديث وهذا مبني على أصل " الصفات الفعلية الاختيارية " والنزاع فيه بين جميع الطوائف من أهل الحديث والسنة والفقه والتصوف ومن دخل معهم من أهل المذاهب الأربعة وبين سائر الفرق حتى بين الفلاسفة أيضا وقد حققت ذلك في غير هذا الموضع .
وهذا منشأ نزاع الذين وافقوا السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ; فإن هؤلاء nindex.php?page=treesubj&link=28743_28783تنازعوا في أن الرب هل يتكلم بمشيئته وقدرته ؟ على قولين . فالذين وافقوا nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب قالوا : إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ; بل كلامه لازم لذاته كحياته ثم من هؤلاء من عرف أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة العين فلم يمكنه أن يقول : القديم هو الحروف والأصوات ; لأنها لا تكون إلا متعاقبة والصوت لا يبقى زمانين فضلا عن أن يكون قديما . فقال : القديم هو معنى واحد لامتناع معاني لا نهاية لها وامتناع التخصيص بعدد دون عدد . فقالوا : هو معنى واحد وقالوا : إن الله لا يتكلم بالكلام العربي والعبري وقالوا : إن معنى التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله معنى واحد [ ص: 371 ] ومعنى آية الكرسي وآية الدين معنى واحد . إلى غير ذلك من اللوازم التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل ومن هؤلاء من عرف أن الله تكلم بالقرآن العربي والتوراة العبرية وأنه نادى موسى بصوت وينادي عباده بصوت وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه ; لكن اعتقدوا مع ذلك أنه قديم العين وأن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته . فالتزموا أنه حروف وأصوات قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال وقالوا : إن الباء لم تسبق السين والسين لم تسبق الميم وأن جميع الحروف مقترنة بعضها ببعض اقترانا قديما أزليا لم يزل ولا يزال وقالوا : هي مترتبة في حقيقتها وماهيتها غير مترتبة في وجودها . وقال كثير منهم : إنها مع ذلك شيء واحد إلى غير ذلك من " اللوازم " التي يقول جمهور العقلاء إنها معلومة الفساد بضرورة العقل .
ومن هؤلاء من يقول : هو قديم ولا يفهم معنى القديم . فإذا سئل عن ذلك قال : هي قديمة في العلم ولا يعلم أن المخلوقات كالسماء والأرض بهذه المثابة مع أنها مخلوقة ومنهم من يقول : قديم بمعنى أنه متقدم على غيره ولا يعرف أن الذين قالوا : إنه مخلوق لا ينازعون في أنه قديم بهذا المعنى ومنهم من يقول : إن مرادنا بأنه قديم أنه غير مخلوق ولا يفهم أنه مع ذلك يكون أزليا لم يزل وهؤلاء سمعوا [ ص: 372 ] ممن يوافقهم على أنه غير مخلوق : قالوا هو قديم فوافقوا على أنه قديم ولم يتصوروا ما يقولونه .
كما أن من الناس من قال : هو غير مخلوق وأراد بذلك أنه غير مكذوب وهذا مما لم يتنازع فيه الناس كما لم يتنازعوا في أنه قديم بمعنى أنه متقدم على غيره .
و " القول الثاني " قول من يقول إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته مع أن كلامه غير مخلوق . وهذا قول جماهير أهل السنة والنظر وأئمة السنة والحديث لكن من هؤلاء من اعتقد أن الله لم يكن يمكنه أن يتكلم في الأزل بمشيئته كما لم يكن يمكنه عندهم أن يفعل في الأزل شيئا فالتزموا أنه تكلم بمشيئته بعد أن لم يكن متكلما كما أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث والسنة .
وأما السلف والأئمة فقالوا : إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وإن كان مع ذلك قديم النوع - بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء ; فإن الكلام صفة كمال ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون متكلما بمشيئته وقدرته ومن لا يزال متكلما بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكنا له بعد أن يكون ممتنعا منه أو قدر أن ذلك ممكن فكيف إذا [ ص: 373 ] كان ممتنعا ؟ لامتناع أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن وأن يكون التكلم والفعل ممكنا بعد أن كان غير ممكن ؟ كما قد بسط هذا في مواضع أخر .
وكانت " اللفظية الخلقية " من أهل الحديث nindex.php?page=treesubj&link=29463يقولون : نقول : إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وإن التلاوة غير المتلو . والقراءة غير المقروء . و " اللفظية المثبتة " nindex.php?page=treesubj&link=29463_29460يقولون : نقول : إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة والتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء . وأما المنصوص الصريح عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وأعيان أصحابه وسائر أئمة السنة والحديث فلا يقولون مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا يقولون التلاوة هي المتلو مطلقا ولا غير المتلو مطلقا كما لا nindex.php?page=treesubj&link=29448يقولون : الاسم هو المسمى ولا غير المسمى .
وذلك أن " التلاوة والقراءة " كاللفظ قد يراد به مصدر تلا يتلو تلاوة وقرأ يقرأ قراءة ولفظ يلفظ لفظا ومسمى المصدر هو فعل العبد وحركاته وهذا المراد باسم التلاوة والقراءة واللفظ مخلوق وليس ذلك هو القول المسموع : الذي هو المتلو . وقد يراد باللفظ الملفوظ وبالتلاوة المتلو وبالقراءة المقروء وهو القول المسموع وذلك هو المتلو ومعلوم أن القرآن المتلو : الذي يتلوه العبد ويلفظ [ ص: 374 ] به غير مخلوق وقد يراد بذلك مجموع الأمرين . فلا يجوز إطلاق الخلق على الجميع ولا نفي الخلق عن الجميع .
وصار " nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب " يريد بالتلاوة القرآن العربي وبالمتلو المعنى القائم بالذات وهؤلاء إذا قالوا : التلاوة غير المتلو وهي مخلوقة : كأن مرادهم أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي بل عندهم أن القرآن العربي مخلوق . وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة والحديث . ويظن هؤلاء أنهم يوافقون البخاري أو غيره ممن قد يفرق بين التلاوة والمتلو وليس الأمر كذلك .
ومن الآخرين من يقول : " التلاوة " هي المتلو ويريد بذلك أن نفس ما تكلم الله به من الحروف والأصوات هو الأصوات المسموعة من القراء حتى يجعل الصوت المسموع من العبد هو صوت الرب وهؤلاء يقولون : نفس صوت المخلوق وصفته هي عين صفة الخالق وهؤلاء " اتحادية حلولية في الصفات " يشبهون النصارى من بعض الوجوه وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة .
ويظن هؤلاء أنهم يوافقون أحمد وإسحاق وغيرهما ممن ينكر على " اللفظية " وليس الأمر كذلك ; فلهذا كان المنصوص عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وأئمة السنة والحديث أنه لا يقال : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ولا غير [ ص: 375 ] مخلوقة . ولا أن التلاوة هي المتلو مطلقا ولا غير المتلو مطلقا ; فإن اسم القول والكلام قد يتناول هذا وهذا ; ولهذا يجعل الكلام قسيما للعمل ليس قسما منه في مثل قوله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=10إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } . وقد يجعل قسما منه كما في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=92فوربك لنسألنهم أجمعين } { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=134عما كانوا يعملون } . قال طائفة من السلف عن قول لا إله إلا الله ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { nindex.php?page=hadith&LINKID=24968لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فقال رجل لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل } ولهذا تنازع أصحاب أحمد فيمن حلف لا يعمل اليوم عملا هل يحنث بالكلام ؟ على قولين . ذكرهما nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى وغيره .
ولم تكن " اللفظية الخلقية " ينكرون كون القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وأن الله يتكلم بصوت ; بل قد يقولون : القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه ; فإن الله يتكلم بصوت كما نص عليه أحمد والبخاري وغيرهما من الأئمة وكما جاءت به الآثار ; ولكن يقولون المنزل إلى الأرض من الحروف والمعاني ليس هو نفس كلام الله الذي ليس بمخلوق ; بل ربما سموها حكاية عن كلام الله كما يقوله nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب أو عبارة عن كلام الله كما يقوله الأشعري وربما سموها كلام الله ; لأن المعنى مفهوم عندهم .
[ ص: 376 ] ولكن لما حدث أبو محمد بن كلاب وناظر المعتزلة بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولا - هم واضعوها : من امتناع تكلمه تعالى بالحروف وامتناع قيام " الصفات الاختيارية " بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك ; لأن ذلك يستلزم أنه لم يخل من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث - اضطره ذلك إلى أن يقول : ليس كلام الله إلا مجرد المعنى وإن الحروف ليست من كلام الله وتابعه على ذلك أبو الحسن الأشعري ; وإن تنازعا في أن الرب كان في الأزل آمرا ناهيا أو صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن . وفي أن " الكلام " هل هو صفة واحدة كما يقوله الأشعري أو خمس صفات كما يقوله nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب .
وصار هؤلاء مخالفين لأئمة السنة والحديث في شيئين . ( أحدهما أن نصف القرآن من كلام الله والنصف الآخر ليس كلام الله عندهم ; بل خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ أو أحدثه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء في كونهم جعلوا نصف القرآن مخلوقا موافقين لمن قال بخلقه ; لكن هؤلاء يقولون : إن هذا النصف المخلوق كلام الله وأولئك يقولون : هو مخلوق منفصل عن الله وهو كلامه ; لكن أولئك لا يجعلون لله كلاما متصلا به قائما بنفسه ولا معاني ولا حروفا . وهؤلاء يقولون : لله كلام قائم به [ ص: 377 ] متصل به هو معنى . فصار أولئك أشد بدعة في نفيهم حقيقة الكلام عن الله وفي جعلهم كلام الله مخلوقا . وهؤلاء أشد بدعة في إخراجهم ما هو من كلام الله عن أن يكون من كلام الله وصاروا في هذا موافقين الوحيد في بعض قوله لا في كله وهو قولهم : إن نصف القرآن ليس قول الله : بل قول البشر .
وأما على قول طائفة جعلته في الموضعين جبريل فيكون الجواب هو الثاني والإثبات في الحقيقة حجة لمن يقول إنما يتكلم بكلام الله ويقول قوله ; لأنه جعل الرسول يقول قول الله الذي أرسله به والمعنى يراد من هذا قطعا كما أريد منه اللفظ أيضا . وأيضا فإن هؤلاء جعلوا الكلام الذي يتصف الله به معنى واحدا وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة وإن عبر عنه بالسريانية كان هو الإنجيل وهذا مما أجمع جمهور العقلاء على أن فساده معلوم بالضرورة .
و " المعنى الثاني " الذي خالفوا فيه أهل السنة والجماعة nindex.php?page=treesubj&link=29463_29455_28744قولهم إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله لا حروفه ولا معانيه بل هو مخلوق عندهم ويقولون : هو عبارة عن المعنى القائم بالنفس ; لأن [ ص: 379 ] العبارة لا تشبه المعبر عنه ; بخلاف الحكاية والمحكي وهذا فيه من زيادة البدع ما لم يكن في قول " اللفظية " من أهل الحديث الذين أنكر عليهم أئمة السنة وقالوا هم " جهمية " إذ جعلوا الحروف من إحداث الرسول وليست مما تكلم الله به بحال وقالوا : إنه ليس لله في الأرض كلام ولم يكن أيضا في " اللفظية " القدماء الذين يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق من يقول إن صوت العبد غير مخلوق أو أن الصوت القديم يسمع من العبد أو أن هذا الصوت صوت الله أو يسمع معه صوت الله ; وإنما أحدث هذا أيضا المتطرفون منهم كما أحدث المتطرفون من أولئك أن حروف القرآن ليست كلام الله ; فإن هاتين " البدعتين " الشنيعتين لم تكونا بعد ظهرتا في أولئك المنحرفين الذين أنكر nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره قولهم من الطائفتين وأن القرآن ليس إلا مجرد معنى قائم بالنفس وذلك المعنى إليه يعود كلام الله من التوراة والإنجيل والقرآن .
و " الأخرى " قد رأت حروف القرآن من كلام الله وأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه وأن المعنى الواحد يمتنع أن يكون هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وأنه يمتنع أن يكون مدلول التوراة والإنجيل والقرآن واحدا وعلموا أنا إذا ترجمنا التوراة بالعربية لم يصر معناها معنى القرآن وأن هذه الأقوال معلومة الفساد [ ص: 380 ] بالضرورة عارضها بعضها ; لأن القرآن حرف وصوت واعتقد بعضهم أنه ليس القرآن والكلام إلا مجرد الحروف والأصوات وأولئك يقولون ليس الكلام إلا مجرد المعنى القائم بالنفس .
وكلا هذين السلبين الجحودين الحادثين خلاف ما كان عليه الأئمة nindex.php?page=showalam&ids=12251كالإمام أحمد وغيره من الأئمة وأعيان العلماء من سائر الطوائف . فإن الكلام عندهم اسم للحروف والمعاني جميعا كما أن " الإنسان " الناطق المتكلم اسم للجسد والروح جميعا ومن قال : إن الإنسان ليس إلا هذه الجملة المشاهدة فهو بمنزلة من قال ليس الكلام إلا الأصوات المقطعة ومن قال : إن الإنسان ليس إلا لطيفة وراء هذا الجسد فهو بمنزلة من قال : إن الكلام ليس إلا معنى وراء هذه الحروف والأصوات وكلاهما جحد لبعض حقائق مسميات الأسماء وإنكار لحدود ما أنزل الله على رسوله .
فصل ثم إن فروخ " اللفظية النافية " الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله تروي عن منازعيها أنهم يقولون : nindex.php?page=treesubj&link=29463_29462القرآن ليس هو إلا الأصوات المسموعة من العبد وإلا المداد المكتوب في الورق [ ص: 381 ] وإن هذه الأصوات وهذا المداد قديمان وهذا القول ما قاله أحد ممن يقول إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات ; بل أنكروا ذلك وردوه وكذبوا من نقل عنهم : أن المداد قديم ولكن هذا القول قد يقوله الجهال المتطرفون كما يحكى عن أعيانهم مثل سكان بعض الجبال : أن الورق والجلد والوتد وما أحاط به من الحائط كلام الله أو ما يشبه هذا اللغو من القول الذي لا يقوله مسلم ولا عاقل .
وفروخ " اللفظية المثبتة " الذين يقولون إن nindex.php?page=treesubj&link=29462_29463القرآن ليس إلا الحروف والصوت : تحكي عن منازعيها : أن القرآن ليس محفوظا في القلوب ولا متلوا بالألسن ولا مكتوبا في المصاحف وهذا أيضا ليس قولا لأولئك ; بل هم متفقون على أن القرآن محفوظ في القلوب متلو بالألسنة مكتوب في المصاحف لكن جهالهم وغاليتهم إذا تدبروا حقيقة قول مقتصديهم - إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنه ليس إلا معنى واحد قائم بالذات وأصوات العباد ومداد المصحف يدل على ذلك المعنى وأنه ليس لله في الأرض كلام في الحقيقة وليس في الأرض إلا ما هو دال على كلام الله ولم يقل إلا ما هو دال على كلام الله وكلام الله إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتكلم الرب بمشيئته وقدرته ; إلى [ ص: 382 ] أمثال ذلك من حقائق قول المقتصدين - أسقطوا حرمة المصحف وربما داسوه ووطئوه وربما كتبوه بالعذرة أو غيرها .
وهؤلاء أشد كفرا ونفاقا ممن يقول الجلد والورق كلام الله ; فإن أولئك آمنوا بالحق وبزيادة من الباطل وهؤلاء كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله فسوف يعلمون ; إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون .
وأما أهل العلم بالمقالة وأهل الإيمان بالشريعة فيعظمون المصحف ويعرفون حرمته ويوجبون له ما أوجبته الشريعة من الأحكام فإنه كان في قولهم نوع من الخطأ والبدعة وفي مذهبهم من التجهم والضلال ما أنكروا به بعض صفات الله وبعض صفات كلامه ورسله وجحدوا بعض ما أنزل الله على رسله وصاروا مخانيث للجهمية الذكور المنكرين لجميع الصفات لكنهم مع ذلك متأولون قاصدون الحق .
وهم مع تجهمهم هذا يقولون : إن القرآن مكتوب في المصحف مثل ما أن الله مكتوب في المصحف وإنه متلو بالألسن مثل ما أن الله مذكور بالألسن ومحفوظ في القلوب مثل ما أن الله معلوم بالقلوب وهذا القول فيه نوع من الضلال والنفاق والجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله [ ما فيه ] وهو الذي أوقع الجهال في الاستخفاف بحرمة [ ص: 383 ] آيات الله وأسمائه حتى ألحدوا في أسمائه وآياته .
كما أن إطلاق الأولين : أنه ليس للقرآن حقيقة إلا الحروف والأصوات ولا يفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت القارئ وأن القرآن قديم أوقع الجهال منهم والكاذبين عليهم في نقلهم عنهم : أن أصوات العباد والمداد الذي في المصحف قديم وأن الحروف التي هي كلام الله هي المداد وإن كانوا لم يقولوا ذلك ; بل أنكروه ; كما فرق الله بين الكلمات والمداد في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } فإن هؤلاء غلطوا " غلطين " غلطا في مذهبهم وغلطا في الشريعة .
أما الغلط في " تصوير مذهبهم " فكان الواجب أن يقولوا : إن القرآن في المصحف مثل ما أن العلم والمعاني في الورق فكما يقال : العلم في هذا الكتاب يقال : الكلام في هذا الكتاب ; لأن الكلام عندهم هو المعنى القائم بالذات فيصور له المثل بالعلم القائم بالذات لا بالذات نفسها .
وأما الغلط في " الشريعة " فيقال لهم : إن القرآن في المصاحف مثل ما أن اسم الله في المصاحف ; فإن القرآن كلام : فهو محفوظ بالقلوب كما يحفظ الكلام بالقلوب وهو مذكور بالألسنة كما يذكر [ ص: 384 ] الكلام بالألسنة وهو مكتوب في المصاحف والأوراق كما أن الكلام يكتب في المصاحف والأوراق والكلام الذي هو اللفظ يطابق المعنى ويدل عليه والمعنى يطابق الحقائق الموجودة .
فمن nindex.php?page=treesubj&link=29463قال : إن القرآن محفوظ كما أن الله معلوم وهو متلو كما أن الله مذكور ومكتوب كما أن الرسول مكتوب فقد أخطأ القياس والتمثيل بدرجتين : فإنه جعل وجود الموجودات القائمة بأنفسها بمنزلة وجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها والمسلمون يعلمون nindex.php?page=treesubj&link=29453_29462_29463الفرق بين قوله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=77إنه لقرآن كريم } { nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=78في كتاب مكنون } وبين قوله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=196وإنه لفي زبر الأولين } . فإن nindex.php?page=treesubj&link=29453_29463القرآن لم ينزل على أحد قبل محمد : لا لفظه ولا جميع معانيه ولكن أنزل الله ذكره والخبر عنه كما أنزل ذكر محمد والخبر عنه فذكر القرآن في زبر الأولين كما أن ذكر محمد في زبر الأولين وهو مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل . فالله ورسوله معلوم بالقلوب مذكور بالألسن مكتوب في المصحف كما أن القرآن معلوم لمن قبلنا مذكور لهم مكتوب عندهم وإنما ذاك ذكره والخبر عنه وأما نحن فنفس القرآن أنزل إلينا ونفس القرآن مكتوب في مصاحفنا كما أن نفس القرآن في الكتاب المكنون وهو في الصحف المطهرة .
فإن هذه المرتبة تتقدم وجود المخلوقات عند الله وعند من شاء من خلقه ; وإن كانت قد تتأخر أيضا ; ف { nindex.php?page=hadith&LINKID=597367إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة } رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال ابن عباس في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=29إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } إن الله يأمر الملائكة بأن تنسخ من اللوح المحفوظ ما كتبه من القدر ويأمر الحفظة أن تكتب أعمال بني آدم فتقابل بين النسختين فتكونان سواء ثم يقول ابن عباس : ألستم قوما عربا ؟ وهل تكون النسخة إلا من أصل ؟ .
والتقدير والكتابة تكون تفصيلا بعد جملة . فالله تعالى لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يظهر ذلك التقدير للملائكة ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره كما يظهر لهم ذلك من كل مولود كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=112246يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم [ ص: 388 ] يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد } وفي طريق آخر وفي رواية { nindex.php?page=hadith&LINKID=597368ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال : اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح } .
فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح : أن الملك يؤمر بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد بعد خلق جسد ابن آدم وقبل نفخ الروح فيه . فكان ما كتبه الله من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه من هذا الجنس كما في الحديث الآخر الذي في المسند وغيره عن nindex.php?page=showalam&ids=143العرباض بن سارية { nindex.php?page=hadith&LINKID=597369عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته } وهذا وأمثاله من وجود الأعيان في الصحف .
وأما وجود الكلام في الصحف فنوع آخر ; ولهذا حكى nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة من مذهب أهل الحديث والسنة : أن nindex.php?page=treesubj&link=29453_29463القرآن في المصحف حقيقة لا مجازا كما يقوله بعض المتكلمة وإحدى " الجهميات " التي أنكرها أحمد وأعظمها nindex.php?page=treesubj&link=29455قول من زعم أن القرآن ليس في الصدور ولا في المصاحف وأن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى كما حكي له ذلك عن موسى [ ص: 389 ] ابن عقبة الصوري - أحد كتبة الحديث إذ ذاك ; ليس هو صاحب المغازي ; فإن ذلك قديم من أصحاب التابعين - فأعظم ذلك أحمد وذكر النصوص والآثار الواردة وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=69348استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها } ومثل قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70127الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب } وغير ذلك .
وليس الغرض هنا إلا التنبيه اللطيف .
ومن قال : إن هذا شبه قول النصارى فلم يعرف قول النصارى ولا قول المسلمين أو علم وجحد ; وذلك أن النصارى تقول : إن الكلمة وهي جوهر إله عندهم ورب معبود تدرع الناسوت واتحد به كاتحاد الماء واللبن أو حل فيه حلول الماء في الظرف أو اختلط به اختلاط النار والحديد والمسلمون لا يقولون إن القرآن جوهر قائم بنفسه معبود وإنما هو كلام الله الذي تكلم به ولا يقولون اتحد بالبشر .
وأما إطلاق حلوله في المصاحف والصدور فكثير من المنتسبين إلى السنة الخراسانيين وغيرهم يطلق ذلك ومنهم من العراقيين وغيرهم من ينفي ذلك ويقول : هو فيه على وجه الظهور لا على وجه الحلول [ ص: 390 ] ومنهم من لا يثبته ولا ينفيه بل يقول : القرآن في القلوب والمصاحف لا يقال هو حال ولا غير حال ; لما في النفي والإثبات من إيهام معنى فاسد وكما يقول ذلك طوائف من الشاميين وغيرهم ولا نزاع بينهم : أن nindex.php?page=treesubj&link=28743_29453كلام الله لا يفارق ذات الله وأنه لا يباينه كلامه ولا شيء من صفاته ; بل ليس شيء من صفة موصوف تباين موصوفها وتنتقل إلى غيره فكيف يتوهم عاقل أن كلام الله يباينه وينتقل إلى غيره ؟ ولهذا قال nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : كلام الله من الله ليس ببائن منه وقد جاء في الأحاديث والآثار : " أنه منه بدأ ومنه خرج " ومعنى ذلك أنه هو المتكلم به لم يخرج من غيره ولا يقتضي ذلك أنه باينه وانتقل عنه فقد قال سبحانه في حق المخلوقين : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=5كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محله وقد علم الناس جميعهم أن نقل الكلام وتحويله هو معنى تبليغه كما قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67بلغ ما أنزل إليك من ربك } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=28ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=597370نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه } وقال { nindex.php?page=hadith&LINKID=16 : بلغوا عني ولو آية } .
والكلام في الورق ليس هو فيه كما تكون الصفة بالموصوف [ ص: 391 ] والعرض بالجوهر . بحيث تصير صفة له ولا هو فيه كما يكون الجسم في الحيز الذي انتقل إليه من حيز آخر ولا هو فيه كمجرد الدليل المحض بمنزلة العالم الذي هو دليل على الصانع ; بل هو قسم آخر معقول بنفسه ولا يجب أن يكون لكل موجود نظير يطابقه من كل وجه ; بل الناس بفطرهم يفهمون معنى كلام المتكلم في الصحيفة ويعلمون أن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره ويعلمون أن ما في الصحيفة ليس مجرد دليل على معنى في نفسه ابتداء بل ما في الصحيفة مطابق للفظه ولفظه مطابق لمعناه ومعناه مطابق للخارج وقد يعلم ما في نفسه بأدلة طبعية وبحركات إرادية لم يقصد بها الدلالة ولا يقول أحد إن ذلك الكلام للمتكلم مثل كلامه المسموع منه فلو كان الكلام إنما سمي بذلك لمجرد الدلالة لشاركه كل دليل وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ذلك .
ولو كان ما في المصحف وجب احترامه لمجرد الدلالة وجب احترام كل دليل ; بل nindex.php?page=treesubj&link=29463الدال على الصانع وصفاته أعظم من الدال على كلامه وليست له حرمة كحرمة المصحف والدال على المعنى القائم بنفس الإنسان قد يعلم تارة بغير اختياره وقد يعلم بأصوات طبعية كالبكاء وقد يعلم بحركات لم يقصد بها الدلالة وقد يعلم بحركات يقصد بها الدلالة كالإشارة وقد يعلم باللفظ الذي تقصد به الدلالة .
[ ص: 392 ] فصل وصار هؤلاء nindex.php?page=treesubj&link=29462_29463الذين غلطوا مذهب " اللفظية " وزادوا فيه شرا كثيرا إذ قالوا : " القراءة " غير المقروء و " التلاوة " غير المتلو و " الكتابة " غير المكتوب إنما يعنون بالقراءة أصوات القارئين وب " الكتابة " مداد الكاتبين ويعنون أن هذا غير المعنى القائم بالذات الذي هو كلام الله وإنما هو دلالة عليه وعبارة عنه ; وليس عندهم إلا قراءة ومقروء فلم يبق إلا صوت ومداد ومعنى قائم بالذات ; ليس ثم قرآن غير ذلك .
وأسقطوا حروف كلام الله التي تكلم بها وحقيقة معاني القرآن التي في نفس الله تعالى وأسقطوا أيضا معاني القرآن التي في نفوس القارئين والمستمعين ; فإنه لا ريب أن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف ومعاني حروف منطوقة ومسطورة ; فإذا لم يكن عندهم إلا صوت العبد وحبر المصحف فأين المعاني ؟ وأين حروف القرآن التي أنزلها الله ؟ وإن كانت عندهم مخلوقة . وكيف يتصور أن لا يكون لجميع ما أنزل الله تعالى من الكتب إلا معنى واحد يكون أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا [ ص: 393 ] وتكون هذه أوصافه لا أقسامه ؟ فإن هؤلاء nindex.php?page=treesubj&link=29453_29463يقولون : إن معاني جميع كلام الله معنى واحد فمعنى : { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تبت يدا أبي لهب } هو معنى { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } ومعنى التوراة هو معنى القرآن والإنجيل . ثم قد يجعلون معاني الكلام كلها الخبر وقد يجعلون معنى الخبر العلم ويجعلون العلم بهذا غير العلم بهذا .
لكن من الأشياء ما يدل على غيره بقصد منه [ ومنها ما يدل على ] غيره [ بغير قصد منه ] للدلالة كالجامدات فإن فيها مقاصد غير دلالتها على [ الخالق ] ومن الأشياء ما لا يقصد به إلا الدلالة . بحيث إذا ذكر ما يقصد بذكره ذكر مدلوله كالاسم مع مسماه فالمقصود من الاسم هو المسمى ; فلهذا إذا ذكر الاسم كان المقصود به المسمى وكذلك " اللفظ " مع المعنى الذي هو مدلوله وكذلك " الخط " مع اللفظ فالمقصود من الخط [ ص: 394 ] إنما هو اللفظ والمقصود من الحروف المرسومة هو الحروف المنطوقة ; ولهذا كان لفظ الحرف مقولا عليهما جميعا . فإذا قيل : الكلام من الكتاب عرف أن المقصود مما في الكتاب هو الكلام دون غيره ولهذا كان لهذا من الاختصاص بالحرمة ما ليس لما يقصد منه الدلالة وغير الدلالة والله أعلم .
فصل وصار أولئك nindex.php?page=treesubj&link=28742_29463الذين غلطوا مذهب " اللفظية المثبتة " الذي يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ويقولون : " التلاوة " هي المتلو و " الكتابة " هي المكتوب وما عندهم من القرآن إلا ما توهموا من الحروف والأصوات يلتزم أحدهم : أن الصوت القديم يسمع من القارئ ويوهمون المخالف لهم أن عين الصوت المسموع من العبد هو عين الصوت الذي تكلم الله به وينكرون معاني حقائق القرآن أن تكون من كلام الله ولا يجعلون المعنى من كلام الله وكان السلف يقولون : nindex.php?page=treesubj&link=29453_29460القرآن كلام الله غير مخلوق والقرآن حيث تصرف فهو كلام الله غير مخلوق .
و " اللفظية المبتدعة المثبتة " الذين أنكر عليهم nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره [ ص: 395 ] إنما قالوا لفظنا به غير مخلوق . ولم يقولوا قديم . فجاءت المغلطة لمذهبهم فقالوا : لفظنا به قديم ولفظنا به أصواتنا فأصواتنا به قديمة . nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد وسائر الأئمة من أصحابه الذين صحبوه وغيرهم ومن بعدهم من الأئمة ينكرون هذه " المراتب الأربع " فإنهم ينكرون أن يقال : لفظي به غير مخلوق فكيف لفظي به قديم ؟ فكيف صوتي به غير مخلوق ؟ فكيف صوتي به قديم ؟ أو بعض الصوت المسموع قديم ؟ ونحو ذلك .
فصل ومن تأمل نصوص " nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " في هذا الباب وجدها من أسد الكلام وأتم البيان ووجد كل طائفة منتسبة إلى السنة قد تمسكت منها بما تمسكت ثم قد يخفى عليها من السنة في موضع آخر ما ظهر لبعضها فتنكره .
ومنشأ النزاع بين أهل الأرض والاضطراب العظيم الذي لا يكاد ينضبط في هذا الباب يعود إلى " أصلين " . nindex.php?page=treesubj&link=29463_28743 " مسألة " تكلم الله بالقرآن وسائر كلامه . و nindex.php?page=treesubj&link=28743_29463 " مسألة " تكلم العباد بكلام الله .
[ ص: 396 ] وسبب ذلك أن التكلم والتكليم له مراتب ودرجات وكذلك تبليغ المبلغ لكلام غيره له وجوه وصفات ومن الناس من يدرك من هذه الدرجات والصفات بعضها وربما لم يدرك إلا أدناها . ثم يكذب بأعلاها فيصيرون مؤمنين ببعض الرسالة كافرين ببعضها ويصير كل من الطائفتين مصدقة بما أدركته مكذبة بما مع الآخرين من الحق .
فروينا في كتاب " الإبانة " لأبي نصر السجزي وكتاب البيهقي وغيرهما عن عقبة قال : سئل nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب عن هذه الآية : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } قال nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب : نزلت هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر . فكلام الله الذي كلم به موسى من وراء حجاب والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه عليهم السلام ليثبت الله عز وجل ما أراد من وحيه في قلب النبي ويكتبه وهو كلام الله ووحيه ومنه ما يكون بين الله وبين رسله ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد ولا يأمرون بكتابته ولكنهم يحدثون به الناس حديثا ويبينونه لهم ; لأن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغوهم إياه ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته فيكلمون به أنبياءه من الناس ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من الملائكة فيوحيه وحيا في قلب من يشاء من رسله .
قلت : فالأول الوحي وهو الإعلام السريع الخفي : إما في اليقظة [ ص: 398 ] وإما في المنام فإن nindex.php?page=treesubj&link=24397_28859رؤيا الأنبياء وحي ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وقال nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت - ويروى مرفوعا - : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597371nindex.php?page=treesubj&link=24398رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام } وكذلك في " اليقظة " فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=58810قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر } وفي رواية في الصحيح " مكلمون " وقد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=111وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=7وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } . بل قد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=12وأوحى في كل سماء أمرها } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وأوحى ربك إلى النحل } فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء ويكون يقظة ومناما . وقد يكون بصوت هاتف يكون الصوت في نفس الإنسان ليس خارجا عن نفسه يقظة ومناما كما قد يكون النور الذي يراه أيضا في نفسه .
فهذه " الدرجة " من الوحي التي تكون في نفسه من غير أن يسمع صوت ملك في أدنى المراتب وآخرها وهي أولها باعتبار السالك وهي التي أدركتها عقول الإلهيين من فلاسفة الإسلام الذين فيهم إسلام وصبوء فآمنوا ببعض صفات الأنبياء والرسل - وهو قدر مشترك بينهم وبين غيرهم - ولكن كفروا بالبعض فتجد بعض [ ص: 399 ] هؤلاء يزعم أن النبوة مكتسبة أو أنه قد استغنى عن الرسول أو أن غير الرسول قد يكون أفضل منه وقد يزعمون : أن كلام الله لموسى كان من هذا النمط وأنه إنما كلمه من سماء عقله وأن الصوت الذي سمعه كان في نفسه أو أنه سمع المعنى فائضا من العقل الفعال أو أن أحدهم قد يصل إلى مقام موسى .
ومنهم من يزعم أنه يرتفع فوق موسى ويقولون : إن موسى سمع الكلام بواسطة ما في نفسه من الأصوات ونحن نسمعه مجردا عن ذلك . ومن هؤلاء من يزعم أن جبريل الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الخيال النوراني : الذي يتمثل في نفسه كما يتمثل في نفس النائم ويزعمون أن القرآن أخذه محمد عن هذا الخيال المسمى بجبريل عندهم ; ولهذا قال ابن عربي صاحب " الفصوص " و " الفتوحات المكية " : إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك : الذي يوحي به إلى الرسول . وزعم أن مقام " النبوة " دون الولاية وفوق " الرسالة " فإن محمدا - بزعمهم الكاذب - يأخذ عن هذا الخيال النفساني - الذي سماه ملكا - وهو يأخذ عن العقل المجرد الذي أخذ منه هذا الخيال .
ثم هؤلاء لا يثبتون لله كلاما اتصف به في الحقيقة ولا يثبتون أنه قصد إفهام أحد بعينه ; بل قد يقولون لا يعلم أحدا بعينه ; إذ علمه [ ص: 400 ] وقصده عندهم إذا أثبتوه لم يثبتوه إلا كليا لا يعين أحدا بناء على أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي . وقد يقرب أو يقرب من مذهبهم من قال باسترسال علمه على أعيان الأعراض وهذا الكلام - مع أنه كفر باتفاق المسلمين - فقد وقع في كثير منه من له فضل في الكلام والتصوف ونحو ذلك ولولا أني أكره التعيين في هذا الجواب لعينت أكابر من المتأخرين .
وقد يكون الصوت الذي يسمعه خارجا عن نفسه من جهة الحق تعالى على لسان ملك من ملائكته أو غير ملك وهو الذي أدركته الجهمية من المعتزلة ونحوهم واعتقدوا أنه ليس لله تكليم إلا ذلك وهو لا يخرج عن قسم الوحي الذي هو أحد أقسام التكليم أو قسيم التكليم بالرسول . وهو " القسم الثاني " حيث قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فهذا إيحاء الرسول . وهو غير الوحي الأول من الله الذي هو أحد أقسام التكليم العام .
وإيحاء الرسول أيضا " أنواع " ففي الصحيحين { nindex.php?page=hadith&LINKID=597372عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ قال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته [ ص: 401 ] ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا } .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن نزول الملك عليه تارة يكون في الباطن بصوت مثل صلصلة الجرس . وتارة يكون متمثلا بصورة رجل يكلمه كما كان جبريل يأتي في صورة nindex.php?page=showalam&ids=202دحية الكلبي وكما تمثل لمريم بشرا سويا وكما جاءت الملائكة لإبراهيم وللوط في صورة الآدميين كما أخبر الله بذلك في غير موضع وقد سمى الله كلا النوعين إلقاء الملك وخطابه وحيا ; لما في ذلك من الخفاء ; فإنه إذا رآه يحتاج أن يعلم أنه ملك وإذا جاء في مثل صلصلة الجرس يحتاج إلى فهم ما في الصوت .
وكذلك من nindex.php?page=treesubj&link=28743_28859زعم : أن تكليم الله لموسى إنما هو من جنس الإلهام والوحي ; وأن الواحد منا قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى - كما يوجد مثل ذلك في كلام طائفة من فروخ الجهمية الكلابية ونحوهم - فهذا أيضا من أعظم الناس ضلالا .
وغلطت هنا " الطائفة الثالثة " الكلابية . فاعتقدت أنه إنما أوحى إلى موسى عليه السلام معنى مجردا عن صوت .
واختلفت هل يسمع ذلك ؟ فقال بعضهم يسمع ذلك المعنى بلطيفة خلقها فيه قالوا : إن السمع والبصر والشم والذوق واللمس معان تتعلق بكل موجود كما قال ذلك الأشعري وطائفة وقال بعضهم لم يسمع موسى كلام الله فإنه عنده معنى والمعنى لا يسمع كما قال ذلك القاضي أبو بكر وطائفة .
لكن هؤلاء يثبتون أن لله كلاما هو معنى قائم بنفسه هو متكلم به وبهذا صاروا خيرا ممن لا يثبت له كلاما إلا ما أوحى في نفس النبي من المعنى ; أو ما سمعه من الصوت المحدث ولكن لفرط ردهم على هؤلاء زعموا : أنه لا يكون كلاما لله بحال إلا ما قام به ; فإنه لا يقوم به إلا المعنى . فأنكروا أن تكون الحروف كلام الله وأن يكون القرآن العربي كلام الله .
وجاءت " الطائفة الرابعة " فردوا على هؤلاء دعواهم أن يكون الكلام مجرد المعنى فزعم بعضهم أن الكلام ليس إلا الحرف أو الصوت فقط وإن المعاني المجردة لا تسمى كلاما أصلا ; وليس كذلك ; بل الكلام المطلق اسم للمعاني والحروف جميعا وقد يسمى أحدهما كلاما مع التقييد كما يقول النحاة : " الكلام " اسم وفعل وحرف . فالمقسوم هنا اللفظ وكما قال الحسن البصري : ما زال أهل العلم يعودون بالتكلم على التفكر وبالتفكر على التدبر ويناطقون القلوب حتى نطقت . وكما قال [ ص: 405 ] الجنيد : " التوحيد " قول القلب " والتوكل " عمل القلب . فجعلوا للقلب نطقا وقوة كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للنفس حديثا في قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=89226إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها } - ثم قال - : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597373ما لم تتكلم به أو تعمل به } .
فعلم أن " الكلام المطلق " هو ما كان بالحروف المطابقة للمعنى وإن كان مع التقييد قد يقع بغير ذلك حتى إنهم قد يسمون كل إفهام ودلالة يقصدها الدال قولا سواء كانت باللفظ أو الإشارة أو العقد - عقد الأصابع - وقد يسمون أيضا الدلالة قولا وإن لم تكن بقصد من الدال مثل دلالة الجامدات كما يقولون : قالت : " اتساع بطنه " .
وامتلأ الحوض وقال قطني قطني رويدا قد ملأت بطني وقالت له العينان سمعا وطاعة
ويسمى هذا لسان الحال ودلالة الحال ومنه قولهم : سل الأرض من فجر أنهارك وسقى ثمارك وغرس أشجارك ؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا . ومنه قولهم :
تخبرني العينان ما القلب كاتم ولا خير في الحياء والنظر الشزر
ومنه قولهم : [ ص: 406 ]
سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أناخ القوم أياما وقد رحلوا
وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29456ذم " الواقفة " وتضليلهم - الذين لا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق - مأثور عن جمهور هؤلاء الأئمة مثل nindex.php?page=showalam&ids=12873ابن الماجشون وأبي مصعب nindex.php?page=showalam&ids=17277ووكيع بن الجراح وأبي الوليد وأبي الوليد الجارودي صاحب الشافعي والإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور وإسحاق بن راهويه [ ص: 421 ] ومن لا يحصي عدده إلا الله .
وأما البدعة الثانية - المتعلقة بالقرآن المنزل تلاوة العباد له - وهي " مسألة اللفظية " فقد أنكر بدعة " اللفظية " nindex.php?page=treesubj&link=29455الذين يقولون : إن تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به مخلوق أئمة زمانهم جعلوهم من الجهمية وبينوا أن قولهم : يقتضي القول بخلق القرآن وفي كثير من كلامهم تكفيرهم .
وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29455_29463من يقول : إن هذا القرآن ليس هو كلام الله وإنما هو حكاية عنه أو عبارة عنه أو أنه ليس في المصحف والصدور إلا كما أن الله ورسوله في المصاحف والصدور ونحو ذلك وهذا محفوظ عن الإمام أحمد وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبي عبيد وأبي مصعب الزهري nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور وأبي الوليد الجارودي ومحمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ومحمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني ومحمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن أسلم الطوسي وعدد كثير لا يحصيهم إلا الله من أئمة الإسلام وهداته .
وكذلك أنكر بدعة " اللفظية المثبتة " - nindex.php?page=treesubj&link=29463الذين يقولون : إن لفظ العباد أو صوت العباد به غير مخلوق أو يقولون إن التلاوة التي هي فعل العبد وصوته غير مخلوقة - الأئمة الذين بلغتهم هذه [ ص: 422 ] البدعة : مثل الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وأبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح وأبي بكر المروذي أخص أصحاب الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل به وأخذ في ذلك أجوبة علماء الإسلام إذ ذاك : ببغداد والبصرة والكوفة والحرمين والشام وخراسان وغيرهم : مثل عبد الوهاب الوراق وأبي بكر الأثرم ومحمد بن بشار بندار وأبي الحسين علي بن مسلم الطوسي ويعقوب الدورقي ومحمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الله المخرمي الحافظ ومحمد بن إسحاق الصاغاني والعباس بن محمد الدوري وعلي بن داود القنطري ومثنى بن جامع الأنباري وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ومحمد بن يحيى الأزدي والحسن بن عبد العزيز الجروي وعبد الكريم بن الهيثم العاقولي وأبي موسى بن أبي علقمة النفروني وغيره من علماء المدينة ومحمد بن عبد الرحمن المقري وأبي الوليد بن أبي الجارود وأحمد بن محمد بن القاسم بن أبي مرة وغيرهم من أهل مكة وأحمد بن سنان الواسطي وعلي بن حرب الموصلي ومن شاء الله تعالى من أئمة أهل السنة وأهل الحديث من أصحاب الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وغيرهم ينكرون على من يجعل لفظ العبد بالقرآن أو صوته به أو غير ذلك من صفات العباد المتعلقة بالقرآن غير مخلوقة ويأمرون بعقوبته بالهجر وغيره وقد جمع بعض كلامهم في ذلك أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " [ ص: 423 ] ومن المشهور في " كتاب صريح السنة " لمحمد بن جرير الطبري وهو متواتر عنه لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال : وأما القول في " ألفاظ العباد بالقرآن " فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في قوله الشفاء والعفاء وفي اتباعه الرشد والهدى ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى : أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول " اللفظية " جهمية يقول الله : { nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=6حتى يسمع كلام الله } ممن يسمع ؟ قال ابن جرير : وسمعت جماعة من أصحابنا - لا أحفظ أسماءهم - يحكون عنه أنه كان يقول : nindex.php?page=treesubj&link=29455_29463من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال : غير مخلوق فهو مبتدع . قال ابن جرير : ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع .
وقال أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل في " كتاب المحنة " تناهى إلي أن أبا طالب حكى عن أبي أنه يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق فأخبرت أبي بذلك فقال : من أخبرك فقلت : فلان فقال : ابعث إلى أبي طالب فوجهت إليه فجاء وجاء فوران فقال له أبي : أنا قلت لك : لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ وغضب [ ص: 424 ] وجعل يرتعد فقال له : قرأت عليك { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } فقلت لي : هذا ليس بمخلوق قال له : فلم حكيت عني أني قلت : لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ وبلغني : أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم : أني لم أقل هذا وغضب وأقبل عليه فقال : تحكي عني ما لم أقل لك ؟ فجعل فوران يعتذر له وانصرف من عنده وهو مرعوب فعاد أبو طالب فذكر أنه حك ذلك من كتابه وأنه كتب إلى القوم يخبرهم ؟ أنه وهم على nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله في الحكاية . قال الفضل بن زياد : كنت أنا والبستي عند أبي طالب قال : فأخرج إلينا كتابه وقد ضرب على المسألة وقال : كان الخطأ من قبلي وأنا أستغفر الله وإنما قرأت على nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله القرآن فقال : هذا غير مخلوق كان الوهم من قبلي يا أبا العباس وقال الخلال في : " السنة " حدثنا المروزي قال لي nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله قد غيظ قلبي على nindex.php?page=showalam&ids=13268ابن شداد قلت : أي شيء حكى عنك ؟ قال : حكى عني في اللفظ فبلغ nindex.php?page=showalam&ids=13268ابن شداد أن nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله قد أنكر عليه فجاءنا حمدون بن شداد بالرقعة فيها مسائل فأدخلتها على nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله فنظر فرأى فيها : أن لفظي بالقرآن غير مخلوق - مع مسائل فيها - فقال nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله : فيها كلام ما تكلمت به فقام من الدهليز فدخل [ ص: 425 ] فأخرج المحبرة والقلم وضرب nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله على موضع : لفظي بالقرآن غير مخلوق وكتب nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله بخطه بين السطرين : القرآن حيث تصرف غير مخلوق . وقال : ما سمعت أحدا تكلم في هذا بشيء وأنكر على من قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق .
وقال الخلال في " كتاب السنة " : أخبرني زكريا بن الفرج الوراق قال حدثنا أبو محمد فوران قال جاءني صالح - وأبو بكر المروذي عندي - فدعاني إلى nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله وقال : إنه قد بلغ أبي أن أبا طالب قد حكى عنه أنه يقول : لفظي بالقرآن غير مخلوق فقمت إليه فتبعني صالح فدار صالح من بابه فدخلنا على nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله فإذا nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله غضبان شديد الغضب بين الغضب في وجهه فقال لأبي بكر : اذهب فجئني بأبي طالب فجاء أبو طالب وجعلت أسكن nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله قبل مجيء أبي طالب وأقول : له حرمة فقعد بين يديه - وهو متغير اللون - فقال له nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله : حكيت عني أني قلت : لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ فقال : إنما حكيت عن نفسي فقال : لا تحك هذا عنك ولا عني فما سمعت عالما يقول هذا - أو العلماء شك فوران - وقال له : القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف فقلت لأبي طالب - nindex.php?page=showalam&ids=12251وأبو عبد الله يسمع - إن كنت حكيت هذا لأحد فاذهب حتى تخبره أن nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله نهى عن [ ص: 426 ] هذا ؟ فخرج أبو طالب فأخبر غير واحد - بنهي nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله - منهم أبو بكر بن زنجويه والفضل بن زياد القطان وحمدان بن علي الوراق nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبو عبيد وأبو عامر وكتب أبو طالب بخطه إلى أهل نصيبين - بعد موت nindex.php?page=showalam&ids=12251أبي عبد الله - يخبرهم أن nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله نهى أن يقال : لفظي بالقرآن غير مخلوق وجاءني أبو طالب بكتابه وقد ضرب على المسألة من كتابه قال زكريا بن الفرج : فمضيت إلى عبد الوهاب الوراق فأخذ الرقعة فقرأها فقال لي : من أخبرك بهذا عن أحمد فقلت له : فوران بن محمد فقال : الثقة المأمون على أحمد قال زكريا : وكان قبل ذلك قد أخبر أبو بكر المروذي عبد الوهاب فصار عند عبد الوهاب شاهدان . قال زكريا وسمعت عبد الوهاب قال : nindex.php?page=treesubj&link=29463من قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق يهجر ولا يكلم ويحذر عنه وكان قبل ذلك قال : هو مبتدع .
وروى الخلال عن أبي الحارث قال سمعت رجلا يقول nindex.php?page=showalam&ids=12251لأبي عبد الله يا nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله أليس نقول : القرآن كلام الله ليس بمخلوق بمعنى من المعاني وعلى كل حال وجهة ؟ فقال nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله : نعم .
واستيعاب هذا يطول . وكذلك في كلام الإمام أحمد وأئمة أصحابه وغيرهم من إضافة صوت [ ص: 427 ] العبد بالقرآن إليه ما يطول كما جاء الحديث النبوي بذلك : مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=5905زينوا القرآن بأصواتكم } " وقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=32994لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } " فذكر الخلال في ( كتاب القرآن عن إسحاق بن إبراهيم قال قال لي nindex.php?page=showalam&ids=12251أبو عبد الله يوما - وكنت سألته عنه - : تدري ما معنى من لم يتغن بالقرآن ؟ قلت : لا . قال : هو الرجل يرفع صوته فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به وعن منصور بن صالح أنه قال لأبيه : يرفع صوته بالقرآن بالليل ؟ قال : نعم إن شاء رفعه " ثم ذكر حديث أم هانئ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597376كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على عريش من الليل } " وعن nindex.php?page=showalam&ids=16207صالح بن أحمد أنه قال لأبيه : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=5905زينوا القرآن بأصواتكم } " فقال : " التزيين " أن تحسنه . وعن الفضل بن زياد قال سمعت nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله يسأل عن القراءة : فقال يحسنه بصوته من غير تكلف وقال أبو بكر الأثرم سألت nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله عن nindex.php?page=treesubj&link=29585القراءة بالألحان ؟ فقال : كل شيء محدث ; فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه قال nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى فيما علقه بخطه على " جامع الخلال " : هذا يدل من كلامه على أن صوت القارئ ليس هو الصوت القديم ; لأنه أضافه إلى القارئ الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحان .
[ ص: 428 ] وأما ما في كلام أحمد والأئمة من إنكارهم على من يقول إن هذا القرآن مخلوق وإن القراءة مخلوقة وتعظيمهم لقول من يقول : إنه ليس في الصدور قرآن ولا في المصاحف قرآن وزعم من زعم أن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى والحلولية فإنكار أحمد وغيره هذه المقالات كثير شائع موجود في كتب كثيرة ولم تكن هذه الفتيا محتاجة إلى تقرير هذا الأصل فلم يحتج إلى تفصيل الكلام فيه ; بخلاف الأصل الآخر وقد ذكرنا من ذلك ما يسره الله في غير هذا الموضع ولو ذكرت ما في كلام أحمد وأئمة أصحابه وغيرهم : من الرد على من يقول : لفظ العبد أو صوته غير مخلوق أو يقول : إن الصوت المسموع من القاري قديم لطال .
وهذا أبو نصر السجزي قد صنف " الإبانة " المشهور وهو من أعظم القائلين : بأن التلاوة هي المتلو واللفظ بالقرآن هو القرآن وهو غير مخلوق وأنكر ما سوى ذلك عن أحمد ومع هذا فقد قال : فإن اعترض خصومنا فقالوا : أنتم وإن قلتم : القراءة قرآن وكلام الله فلا تطلقون أن الصوت المسموع من القاري صوت الله ; بل تنسبونه إلى القاري وإذا لم يمكنكم إطلاق ذلك دل على أنه غير القرآن قال أبو نصر : فالجواب أن اعتصامنا في هذا الباب بظاهر الشرع [ ص: 429 ] وقولنا في القراءة والصوت غير مختلف وإذا قرأ القارئ القرآن لا يقول : إن هذه قراءة الله ولا يجيز ذلك بوجه : بل ينسب القراءة إلى القارئ توسعا لوجود التحويل منه وإنما يقول إن قراءة القاري قرآن وقد ثبت ذلك في الشرع باتفاق الكل ; فإن الأشعري مع مخالفته لنا يقول : nindex.php?page=treesubj&link=29463المسموع من القاري قرآن وقد بينا : أن التمييز بين القراءة والقرآن في هذا الموضع الذي اختلفنا فيه غير ممكن وكذلك يقول : إن الصوت المسموع من قارئ القرآن قراءة وقرآن والشرع يوجب ما قلناه لا أعلم خلافا بين المسلمين في ذلك .
فصل وأما نصوص الإمام أحمد على nindex.php?page=treesubj&link=28785 " خلق كلام الآدميين " و " خلق أفعال العباد " فموجودة في مواضع كثيرة كما نص على ذلك سائر الأئمة . وليس بين أهل السنة في ذلك اختلاف ; ولهذا قال يحيى بن سعيد القطان شيخ الإمام أحمد : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون : أفعال العباد مخلوقة وقد سئل الإمام أحمد عن أفاعيل العباد مخلوقة هي ؟ فقال نعم . ونص على كلام الآدميين في رواية أحمد بن الحسن الترمذي كما سيأتي وفيما خرجه على " الزنادقة والجهمية " وهو [ ص: 430 ] مروي من طريق ابنه عبد الله ( وجادة وقد ذكره الخلال أيضا في " كتاب السنة " ونقل منه nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى وغيره وقد حكى إجماع الخلق على ذلك غير واحد منهم أبو نصر السجزي في " الإبانة " وهو من أشد الناس إنكارا على من يقول : إن ألفاظ العباد بالقرآن مخلوقة أو يقول : إن المسموع من القارئ ليس هو القرآن .
قال أبو نصر : وأما نسبة الأصوات إلى القراء - فيما ذكرنا في هذا الباب وفي غيره من كتابنا هذا - ونسبة القراءة إليهم وإن فرح بها الزائغون فلا حجة لهم فيها ; وذلك أنا لم نختلف في إضافة الصوت إلى الإنسان وأنه إذا صاح أو تكلم بكلام الناس أو نادى إنسانا فصوته مخلوق . قال : وهذا لا يشتبه : وإنما وقع الاختلاف في أن المستمع من قارئ القرآن ماذا يستمع ؟ وساق الكلام إلى آخره . وذكر في موضع آخر " الإجماع " أيضا على ذلك .
فصل وإنما نبهت على أصل مقالة الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وأهل الحديث في " مسألة تلاوتنا للقرآن " لأنها أصل ما وقع من الاضطراب [ ص: 431 ] والتنازع في هذا الباب مثل " مسألة الإيمان " هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟ و " مسألة نور الإيمان " و " الهدى " ونحو ذلك من المسائل التي يكثر تنازع أهل الحديث والسنة فيها ويتمسك كل فريق ببعض من الحق فيصيرون بمنزلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مختلفين في الكتاب كل منهم بمنزلة الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض وهم عامتهم في جهل وظلم : جهل بحقيقة الإيمان والحق وظلم الخلق ويقع بسببها بين الأمة من التكفير والتلاعن ما يفرح به الشيطان ويغضب له الرحمن ويدخل به من فعل ذلك فيما نهى الله عنه من التفرق والاختلاف ويخرج عما أمر الله به من الاجتماع والائتلاف .
وأصل ذلك القرب والاتصال الحاصل بين ما أنزله الله تعالى من القرآن والإيمان الذي هو من صفاته وبين أفعال العباد وصفاتهم ; فلعسر الفرق والتمييز يميل قوم إلى زيادة في الإثبات . وآخرون إلى زيادة في النفي ; ولهذا كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار : النهي عن الإثبات العام والنفي العام ; بل إما الإمساك عنهما - وهو الأصلح للعموم وهو جمل الاعتقاد . وأما التفصيل المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان كما أن الأول لعموم أهل الإيمان .
وهذه المسألة لها أصلان . [ ص: 432 ] ( أحدهما أن " أفعال العباد مخلوقة " وقد نص عليها الأئمة أحمد وغيره وسائر أئمة أهل السنة والجماعة المخالفين للقدرية واتفقت الأمة على أن أفعال العباد محدثة .
و ( الأصل الثاني مسألة " تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به " هل يقال إنه مخلوق أو غير مخلوق ؟ والإمام أحمد قد نص على رد المقالتين هو وسائر أئمة السنة من المستقدمين والمستأخرين ; لكن كان رده على " اللفظية النافية " أكثر وأشهر وأغلظ لوجهين .
( أحدهما أن قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي وجانب النفي - أبدا - شر من جانب الإثبات ; فإن الرسل جاءوا بالإثبات المفصل في صفات الله وبالنفي المجمل : فوصفوه بالعلم والرحمة والقدرة والحكمة والكلام والعلو وغير ذلك من الصفات وفي النفي : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء } { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4ولم يكن له كفوا أحد } . وأما الخارجون عن حقيقة الرسالة : من الصابئة والفلاسفة والمشركين وغيرهم ومن تجهم من أتباع الأنبياء فطريقتهم " النفي المفصل " ليس كذا ليس كذا وفي الإثبات أمر مجمل ولهذا يقال : المعطل أعمى والمشبه أعشى . فأهل التشبيه مع ضلالهم خير من أهل التعطيل .
( الوجه الثاني أن أحمد إنما ابتلي بالجهمية المعطلة فهم خصومه [ ص: 433 ] فكان همه منصرفا إلى رد مقالاتهم ; دون أهل الإثبات ; فإنه لم يكن في ذلك الوقت والمكان من هو داع إلى زيادة في الإثبات ; كما ظهر من كان يدعو إلى زيادة في النفي . والإنكار يقع بحسب الحاجة والبخاري لما ابتلي " باللفظية المثبتة " ظهر إنكاره عليهم كما في تراجم آخر " كتاب الصحيح " وكما في " كتاب خلق الأفعال " مع أنه كذب من نقل عنه أنه قال : لفظي بالقرآن مخلوق من جميع أهل الأمصار وأظنه حلف على ذلك وهو الصادق البار .
فصل وقد نص أحمد على نفس هذه " المسألة " في غير موضع فروى أبو القاسم اللالكائي في " أصول السنة " قال : أخبرنا الحسن بن عثمان قال حدثنا عمرو بن جعفر قال ; حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال : قلت nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل : إن الناس قد وقعوا في القرآن فكيف أقول ؟ فقال أليس أنت مخلوقا ؟ قلت : نعم قال : فكلامك منك مخلوق ؟ قلت : نعم قال : أفليس القرآن من كلام الله ؟ قلت : نعم قال : وكلام الله من الله ؟ قلت : نعم قال : فيكون من الله شيء مخلوق .
[ ص: 434 ] بين أحمد للسائل : أن الكلام من المتكلم وقائم به ; لا يجوز أن يكون الكلام غير متصل بالمتكلم ولا قائم به ; بدليل أن كلامك أيها المخلوق منك ; لا من غيرك فإذا كنت أنت مخلوقا وجب أن يكون كلامك أيضا مخلوقا وإذا كان الله تعالى غير مخلوق امتنع أن يكون ما هو منه وبه مخلوقا .
nindex.php?page=treesubj&link=28785_29463وليس القرآن عينا من الأعيان القائمة بنفسها حتى يقال : هذا مثل قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } وإنما هو صفة كالعلم والقدرة والرحمة والغضب والإرادة والنظر والسمع ونحو ذلك ; وذلك لا يقوم إلا بموصوف وكل معنى له اسم [ ص: 435 ] وهو قائم بمحل وجب أن يشتق لمحله منه اسم وأن لا يشتق لغير محله منه اسم .
فكما أن الحياة والعلم والقدرة إذا قام بموصوف وجب أن يشتق له منه اسم الحي والعالم والقادر ; ولا يشتق الحي والعالم والقادر لغير من قام به العلم والقدرة فكذلك القول والكلام والحب والبغض والرضا والرحمة والغضب والإرادة والمشيئة إذا قام بمحل وجب أن يشتق لذلك الموصوف منه الاسم والفعل فيقال : هو الصادق والشهيد والحكيم والودود والرحيم والآمر ولا يشتق لغيره منه اسم . فلو لم يكن الله سبحانه وتعالى هو القائل بنفسه : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=14أنا الله لا إله إلا أنا } بل أحدث ذلك في غيره لم يكن هو الآمر بهذه الأمور ولا المخبر بهذا الخبر ولكان ذلك المحل هو الآمر بهذا الأمر المخبر بهذا الخبر وذلك المحل : إما الهواء وإما غيره فيكون ذلك المحل المخلوق هو القائللموسى : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=14إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ولهذا كان السلف يقولون في هذه الآية وأمثالها : من قال : إنه مخلوق فقد كفر . ويستعظمون القول بخلق هذه الآية وأمثالها أكثر من غيرها يعظم عليهم أن تقوم دعوى الإلهية والربوبية لغير الله تعالى .
ولهذا كان مذهب جماهير " أهل السنة والمعرفة " - وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد وأبي حنيفة وغيرهم : من المالكية والشافعية [ ص: 436 ] والصوفية وأهل الحديث وطوائف من أهل الكلام : من الكرامية وغيرهم - أن كون الله سبحانه وتعالى خالقا ورازقا ومحييا ومميتا وباعثا ووارثا وغير ذلك من صفات فعله وهو من صفات ذاته ; ليس من يخلق كمن لا يخلق ومذهب الجمهور أن الخلق غير المخلوق فالخلق فعل الله القائم به والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه .
وذهب طوائف من " أهل الكلام " من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم : من الفقهاء الحنبلية والشافعية والمالكية وغيرهم إلى أنه ليس لله صفة ذاتية من أفعاله وإنما الخلق هو المخلوق أو مجرد نسبة وإضافة وهذا اختيار Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل وأول قولي nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى وهؤلاء عندهم حال الذات التي تخلق وترزق أو لا تخلق ولا ترزق سواء .
وبهذا نقضت المعتزلة على من ناظرها من الصفاتية الأشعرية ونحوهم ; لما استدلت الصفاتية بما تقدم من " القاعدة الشريفة " فقالوا : ينتقض عليكم بالخالق والرازق وغير ذلك من أسماء الأفعال ; فإن الخلق والرزق قائم بغيره وقد اشتق له منه اسم الخالق والرازق ; ولم يقم به صفة فعل أصلا فكذلك الصادق والحكيم والمتكلم والرحيم والودود وهذا النقض لا يلزم جماهير الأمة وعامة أهل السنة والجماعة ; فإن الباب عندهم واحد وليس هذا قولا بقدم مخلوقاته أو مفعولاته سواء قيل : أن نفس فعله القائم به قديم فقط كما يقوله كثير من هؤلاء [ ص: 437 ] الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والكلام والصوفية - أو يقولون له عند إحداث المخلوقات أحوال ونسب كما يقوله كثير من هؤلاء : الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام من الطوائف كلها .
وذلك لأن القول في ذلك كالقول في مشيئته وإرادته فإنه وإن كان مذهب أهل السنة وسائر الصفاتية أنها قديمة فليست مراداته قديمة وكذلك صفة الخلق والتكوين ; وذلك لأن الشرع والعقل يدل على أن حال الخالق والرازق الفاطر المحيي المميت الهادي النصير ليس حاله في نفسه كحاله لو لم يبدع هذه الأمور ; ولهذا قال سبحانه وتعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=17أفمن يخلق كمن لا يخلق } . فالفرق بين الخالق وغير الخالق كالفرق بين القادر وغير القادر .
والمخالف يقول إنما هو موصوف بالقدوة التي تتناول ما يخلقه وما لا يخلقه سواء في نفسه كان خالقا أو لم يكن خالقا ليس له من كونه خالقا " صفة ثبوتية " لا صفة كمال ولا صفة وجود مطلق كما له بكونه قادرا . ونصوص الكتاب والسنة توجب أن تكون أسماء أفعاله من أسمائه الحسنى التي تقتضي أن يكون بها محمودا مثنى عليه ممجدا ; وذلك يقتضي أنها من صفات الكمال وليس الغرض هنا ذكر هذه " المسألة " وإنما هي طرد حجة [ ص: 438 ] الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف الثقات وسائر الصفاتية ; ولهذا قال الإمام أحمد في رواية حنبل في " كتاب المحنة " : لم يزل الله عالما متكلما غفورا . فبين اتصافه بالعلم - وهو صفة ذاتية محضة - و " بالمغفرة " وهي من " الصفات الفعلية " والكلام الذي يشبه هذا وهذا وذكر أنه لم يزل متصفا بهذه الصفات والأسماء وقال الإمام أحمد فيما خرجه في " الرد على الزنادقة والجهمية " لما ذكر قول جهم : إنه يتكلم ; ولكن كلامه مخلوق . قال أحمد قلنا له : وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق ففي مذهبكم كان الله في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه وكذلك ذكروا في " المحنة " فيما استدل به الإمام أحمد في المناظرة واستدل بقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولكن حق القول مني } قال : فإن يكن القول من غير الله فهو مخلوق .
فصل وأما قول القائل : إن أحمد إنما قال ذلك خوفا من الناس فبطلان هذا يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد وقائل هذا إلى العقوبة البليغة التي يفتري بها على الأئمة أحوج منه إلى جوابه ; فإن [ ص: 439 ] الإمام أحمد صار مثلا سائرا يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم حتى صار اسم الإمام مقرونا باسمه في لسان كل أحد فيقال : قال الإمام أحمد . هذا مذهب الإمام أحمد . لقوله تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=24وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين .
وقد تداوله " ثلاثة خلفاء " مسلطون من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة من لا يحصيهم إلا الله . فبعضهم بالحبس وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله وبالضرب وبعضهم بالتشريد والنفي وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض - حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية ; بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم : من نظرائه وإخوانه المتقدمين والمتأخرين ; ولهذا قال بعض شيوخ الشام : لم يظهر أحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أظهره nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل فكيف يظن به أنه كان يخاف في هذه الكلمة التي لا قدر لها ؟ [ ص: 440 ] و " أيضا " فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولا مبتدعا وقد جعلوا يطالبونه بما ابتدعوه فيقول لهم : كيف أقول ما لم يقل فكيف يكتم كلمة ما قالها أحد قبله من خلق الله .
و " أيضا " فإن أحمد بن الحسن الترمذي من خواص أصحابه وأعيانهم فما الموجب لأن يستعمل التقية معه .
و " أيضا " فلم يكن به حاجة إلى أن يقول : كلام الآدمي مخلوق وإنما هو ذكر ذلك مستدلا به ضاربا به المثل فكيف يبتدئ بكلام هو عنده باطل لم يسأله عنه أحد و " أيضا " فقد كان يسعه أن يسكت عن هذا ; فإن الإنسان إذا خاف من إظهار قول كتمه . أما إظهاره لقول لم يطلب منه وهو باطل عنده فهذا لا يفعله أقل الناس عقلا وعلما ودينا .
فمن يسب " الإمام أحمد " الذي موقفه من الإسلام وأهله فوق ما يصفه الواصف ; ويعرفه العارف فقد استوجب من غليظ العقوبة ما يكون نكالا لكل مفتر كاذب راجم بالظن قاذف قائل على الله ورسوله والمؤمنين وأئمتهم ما لا يقوله العدو المنافق .
و " أيضا " فقد ذكر ذلك فيما صنفه من " الرد على الزنادقة [ ص: 441 ] والجهمية " وهو في الحبس وكتبه بخطه ولم يكن ذلك مما أظهره لأعدائه : الذين يحتاج غيره إلى أن يستعمل معهم التقية .
وهذا القول أقبح من قول الروافض فيما ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قاله وفعله على وجه التقية ; فإن الإمام أحمد صنف الرد عليهم وبين أنهم زنادقة فأي تقية تكون لهم مع هذا وهو يجاهدهم ببيانه وبنانه وقلمه ولسانه ؟
فصل شبهة هؤلاء أنهم وجدوا الناس قد تكلموا في " حروف المعجم " و " أسماء المخلوقات " . فإن المنتسبين إلى السنة تكلموا في nindex.php?page=treesubj&link=29462حروف المعجم في غير القرآن والكتب الإلهية وقال طوائف منهم : كابن حامد وأبي نصر السجزي والقاضي في أشهر قوليه Multitarajem.php?tid=13371,13372وابن عقيل وغيرهم : إنها مخلوقة وقالوا : الحروف حرفان . وقال طوائف وهم كثير من أهل الشام والعراق وخراسان : كالقاضي يعقوب البرزيني والشريف أبي الفضائل الزيدي الحراني ويروى ذلك عن الشيخ أبي الحسين بن سمعون وهو قول القاضي أبي الحسين وحكاه عن أبيه في آخر قوليه وهو قول الشيخ أبي الفرج الأنصاري والشيخ عبد [ ص: 442 ] القادر nindex.php?page=showalam&ids=12737وابن الزاغوني وغيرهم : الحرف حرف واحد وحروف المعجم غير مخلوقة حيث تصرفت ; لأنها من كلام الله وحقيقة الحرف واحدة لا تختلف .
وقد نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه الإنكار على من قال : بخلق الحروف وإنه لما حكي له أن بعض الناس قال : لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقال الإمام أحمد : هذا كفر . وروي إنكار ذلك عن غيره من الأئمة .
والأولون لا ينازعون في هذا ; فإنهم ينكرون على من يقول : إن الحروف مخلوقة ; فإنه إذا قال ذلك دخل فيه حروف كلام الله تعالى من القرآن وغيره وهم يخصون nindex.php?page=treesubj&link=29462الكلام في الحروف الموجودة في كلام المخلوق دون الحروف الموجودة في كلام الله ويقولون : حقيقة الحروف والاسم وإن كانت واحدة فذلك بمنزلة كلمات موجودة في القرآن وقد تكلم بها بعض المخلوقين . فالمتكلم تارة يقصد أن يتكلم بكلام غيره وإن وافقه في لفظه بالنسبة إلينا وهذا لا يتأتى إلا في الشيء اليسير وهو ما دون السورة القصيرة ; فإن الله قد تحدى الخلق أن يأتوا بسورة مثله وأخبر أنهم لن يفعلوا .
قال الأولون : فموافقة لفظ الكلام للفظ الكلام لا يوجب أن [ ص: 443 ] يكون لأحدهما حكم الآخر في النسبة إلى المتكلم المخلوق ; بحيث ينسب أحدهما إلى من ينسب إليه الآخر فكيف بالنسبة إلى الخالق ؟ بل { nindex.php?page=hadith&LINKID=597377لما كتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب } كان اللفظ برسول الله من المتكلمين سواء : من أحدهما صدق - ومن أعظم الصدق - ومن الآخر كذب - ومن أقبح الكذب .
ولهذا قال الفقهاء : nindex.php?page=treesubj&link=27215_25641من ذكر الله أو دعاه جاز له ذلك مع الجنابة وإن وافق لفظ القرآن إذا لم يقصد القراءة . وقالوا : لو nindex.php?page=treesubj&link=1588تكلم بلفظ القرآن في الصلاة يقصد مجرد خطاب الآدمي بطلت صلاته ; لأن ذلك من كلام الآدميين والصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين وإن قصد مع تنبيه الغير القراءة صحت صلاته عند الجمهور كما لو لم [ ص: 444 ] يقصد إلا القراءة . وعند بعضهم تبطل كقول أبي حنيفة . ومن هذا الباب مسألة الفتح على الإمام وتنبيه الداخل بآية من القرآن وغير ذلك .
وسبب ذلك أن معنى الكلام داخل في مسماه ليس هو اسما لمجرد اللفظ والمعنى : هو إنشاء وإخبار والإنشاء فيه الأمر والنهي ومعلوم أن أمر زيد ليس هو أمر عمرو ولا حكمه حكمه وإن اتفق اللفظ وكذلك اختيار زيد ليس هو اختيار عمرو ولا حكمه حكمه وإن اتفق اللفظ . فالآمر المطاع الحكيم إذا أمر بأمر كان له حكم خلاف ما إذا أمر به الجاهل العاجز وإن اتفق لفظهما وكذلك الشاهد العالم الصادق إذا أخبر بخبر كان حكمه خلاف ما إذا أخبر به الجاهل الكاذب وإن اتفق لفظهما .
وإذا كان كذلك فمن أدخل في كلام له بعض لفظ أدخله غيره في كلامه لم يوجب ذلك أن يكون هذا اللفظ من كلام ذلك المتكلم وإن كان أحد اللفظين شبيها بالآخر وهو بمنزلة من كتب حروفا تشبه حروف المصحف كتبها كلاما آخر لم يكن ذلك مما يوجب أن يكون من حروف المصحف .
وقال الآخرون مجرد الموافقة في اللفظ لا يوجب أن يجعل حكم [ ص: 445 ] أحد اللفظين حكم الآخر لكن إذا كان أحدهما أصلا سابقا إلى ذلك الكلام والآخر إنما احتذى فيه حذوه ومثاله : كان اللفظ والكلام منسوبا إلى الأول ; بمنزلة من تمثل بقول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أو بقوله :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أو بمثل من الأمثال السائرة كقوله : " عسى الغوير أبؤسا " و " يداك أوكتا وفوك نفخ " وكل الصيد في جوف الفرا " ونحو ذلك . فهذا الكلام هو تكلم به في المعنى الذي أراده ; لا على سبيل التبليغ عن غيره ومع هذا فهو منسوب إلى قائله الأول فهكذا nindex.php?page=treesubj&link=29463_29462الحروف الموجودة في كلام الله وإن أدخلها الناس في كلامهم الذي هو كلامهم فأصلها مأخوذ من كلام الله تعالى . قال الأولون : هنا مقامان .
( أحدهما : أن كل من أنطقه الله بهذه الحروف فإنما كان ذلك بطريق الاستفادة من كلام الله أو ممن استفادها من كلام الله . وهذه الدعوى العامة تحتاج إلى دليل ; فإن تعليم الله لآدم الأسماء أو إنزاله كتبه بهذه الحروف لا يوجب أن يكون لم ينطق غير آدم ممن لم يسمع [ ص: 446 ] الكتب المنزلة بهذه الحروف كما كانت العرب تنطق بهذه الحروف والأسماء قبل نزول القرآن والله تعالى أنزله بلسانهم الذي كانوا يتكلمون به قبل نزول القرآن .
( المقام الثاني : أنه لو لم يكن أحد نطق بها إلا مستفيدا لها من كلام الله ; لكن إذا أنشأ بها كلاما لنفسه ولم يقصد بها قراءة كلام الله لم تكن في هذه الحال من كلام الله كما لو فعل ذلك في بعض الجمل المركبة وأولى . ويدل على ذلك الأحكام الشرعية .
قال الآخرون - القائلون بأن حروف المعجم غير مخلوقة مطلقا - لنا في الأسماء الموجودة في غير القرآن قولان . منهم من يقول بأن جميع الأسماء غير مخلوقة كما يقول ذلك في الحروف . ومنهم من لا يقول ذلك وقد حكى القولين ابن حامد وغيره عمن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وغيره من القائلين بأن حروف المعجم غير مخلوقة فمن عمم ذلك استدل بقوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31وعلم آدم الأسماء كلها } وهذه الحجة مبنية على مقدمتين .
( إحداهما أن مبدأ اللغات توقيفية وأن المراد بالتوقيف خطاب الله بها لا تعريفه بعلم ضروري وهذا الموضع قد تنازع فيه الناس من أصحاب الإمام أحمد وسائر الفقهاء وأهل الحديث والأصول . [ ص: 447 ] فقال قوم : إنها توقيفية وهو قول أبي بكر عبد العزيز والشيخ أبي محمد المقدسي وطوائف من أصحاب الإمام أحمد ; وهو قول الأشعري وابن فورك وغيرهما . وقال قوم : بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي . وهذا قول طوائف : منهم Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل وغيره . وقال قوم : يجوز فيها هذا وهذا ولا نجزم بشيء . وهذا قول القاضي nindex.php?page=showalam&ids=14953أبي يعلى والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيرهما . ولم يقل : إنها كلها اصطلاحية إلا طوائف من المعتزلة ومن اتبعهم - ورأس هذه المقالة أبو هاشم ابن الجبائي .
والذين قالوا إنها " توقيفية " تنازعوا : هل التوقيف بالخطاب أو بتعريف ضروري أو كليهما ؟ فمن قال : إنها توقيفية وإن التوقيف بالخطاب فإنه ينبني على ذلك أن يقال : إنها غير مخلوقة ; لأنها كلها من كلام الله تعالى ; لكن نحن نعلم قطعا أن في أسماء الأعلام ما هو مرتجل وضعه الناس ابتداء فيكون التردد في أسماء الأجناس .
و " أيضا " فإن تعليم الله لآدم بالخطاب لا يوجب بقاء تلك الأسماء بألفاظها في ذريته ; بل المأثور أن أهل سفينة نوح لما خرجوا من السفينة أعطي كل قوم لغة وتبلبلت ألسنتهم . وهذه المسألة فيها تجاذب والنزاع فيها بين أصحابنا وسائر أهل السنة يعود إلى نزاع [ ص: 448 ] لفظي فيما يتحقق فيه النزاع وليس بينهم والحمد لله خلاف محقق معنوي . وذلك أن الذي قال الحرف حرف واحد وإن حروف المعجم ليست مخلوقة ; إنما مقصوده بذلك أنها داخلة في كلام الله وأنها منتزعة من كلام الله وأنها مادة لفظ كلام الله وذلك غير مخلوق وهذا لا نزاع فيه . فأما حرف مجرد فلا يوجد لا في القرآن ولا في غيره ولا ينطق بالحرف إلا في ضمن ما يأتلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني وأما الحروف التي ينطق بها مفردة مثل : ألف لام ميم ونحو ذلك فهذه في الحقيقة أسماء الحروف وإنما سميت حروفا باسم مسماها كما يسمى ضرب فعل ماض باعتبار مسماه ; ولهذا لما سأل الخليل أصحابه كيف تنطقون بالزاء من زيد ؟ قالوا : نقول " زا " قال : جئتم بالاسم ; وإنما يقال " زه " .
وليس في القرآن من حروف الهجاء - التي هي أسماء الحروف - إلا نصفها وهي أربعة عشر حرفا وهي نصف أجناس الحروف : نصف المجهورة و المهموسة والمستعلية والمطبقة والشديدة والرخوة وغير ذلك من أجناس الحروف . وهو أشرف النصفين . والنصف الآخر لا يوجد في القرآن إلا في ضمن الأسماء أو الأفعال أو حروف المعاني - التي ليست باسم ولا فعل . فلا يجوز أن نعتقد أن حروف المعجم بأسمائها جميعها موجودة في القرآن ; لكن نفس حروف المعجم التي [ ص: 449 ] هي أبعاض الكلام موجودة في القرآن ; بل قد اجتمعت في آيتين : " إحداهما " في آل عمران و " الثانية " في سورة الفتح : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=154ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الآية و { nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29محمد رسول الله } الآية .
وإذا كان كذلك فمن تكلم بكلام آخر مؤلف من حروف الهجاء فلم ينطق بنفس الحروف التي في لفظ القرآن وإنما نطق بمثلها وذلك الذي نطق به قد يكون هو أخذه وإذا ابتدأ من لفظ كلام الله تعالى وقد لا يكون حقيقة .
قيل : الحرف من حيث هو هو شيء واحد له الحقيقة المطلقة التي لا تأليف فيها لا توجد لا في كلام الله تعالى ولا في كلام عباده وإنما الموجود الحرف الذي هو جزء من اللفظ أو اسمه إذا لم يوجد إلا حرف ; ولكن هذا المطلق ; بل الأعيان الموجودة في الخارج قائمة بأنفسها كالإنسان لا يوجد مجردا عن الأعيان في الأعيان لا يوجد مجردا عن الأعيان إلا في الذهن لا في الخارج فكيف بالحرف الذي لا يوجد في الخارج إلا مؤلفا فلو قدر أنه يوجد في الخارج غير مؤلف متعدد الأعيان كما يوجد الإنسان لم تكن حقيقته المطلقة من حيث هي هي موجودة إلا في الأذهان لا في الأعيان .
فتبين أن الحروف تختلف أحكامها باختلاف معانيها واختلاف المتكلم [ ص: 450 ] بها وهذا أوجب nindex.php?page=treesubj&link=29463تعظيم حروف القرآن المنطوقة والمسطورة وكان لها من الأحكام الشرعية ما امتازت به عما سواها واختلاف الأحكام إنما كان لاختلاف صفاتها وأحوالها .
فتبين أن الواجب أن يقال ما قاله الأئمة كأحمد وغيره : إن nindex.php?page=treesubj&link=29463كلام الإنسان كله مخلوق حروفه ومعانيه والقرآن غير مخلوق حروفه ومعانيه . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=41187يقول الله : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته } " وروى الربيع بن أنس عن { المسيح أنه قال : عجبا لهم كيف يكفرون به وهم يتقلبون في نعمائه ويتكلمون بأسمائه } .
وذكر في معظم حروف المعجم أنها مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة من السماء وهذا مما يحتج به من قال : ليست مخلوقة وليس بحجة ; فإن أسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق وما اشتقه هو من أسمائه فتكلم به فكلامه به غير مخلوق وأما إذا اشتقوا اسما أحدثوه فذلك الاسم هم أحدثوه ولا يلزم إذا كان المشتق منه غير مخلوق أن يكون المشتق كذلك . وما يروى عن المسيح فلا يعرف ثبوته عنه وبتقدير ثبوته فإذا كان قد ألهم عباده أن يتكلموا بالحروف [ ص: 451 ] التي هي مباني أسمائه التي تكلم بها لم يلزم أن يكون ما أحدثوه هم غير مخلوق .
" وبالجملة " فمن نظر إلى أن حقيقة الحرف التي لا تختلف موجودة في كلام الله وكلام الله غير مخلوق قال إنها مخلوقة إشارة إلى نفس حقيقة الحرف ; لا إلى عين جزء اللفظ الذي به ينطق الكفار والمشركون ; فإن ذلك الحرف الذي هو صوت لمقدر أو تقدير صوت قائم بالكافر والمشرك لا يقول عاقل : إنه غير مخلوق ; مع أنه ليس مضافا إلى الله بوجه من الوجوه وإنما يضاف إلى الله ما شاركه في اسمه مما كان متعلقا بالمعنى المضاف إلى الله .
وهذا بخلاف الحروف التي في كلام الله ; فإن تلك كلام الله كيف ما تصرفت ونحن لما يسر الله كلامه بألسنتنا أمكننا أن نتكلم بكلامه ; لكن بأدواتنا وأصواتنا ; وليس تكلمنا به وسمعه منا كتكلم الله به وسمعه منه كما تقدمت الإشارة إلى هذا كما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك سائر ما يضاف إليه ; ولكن لما أنطقنا الله بأدواتنا وحركاتنا وأصواتنا صار بين بعض لفظنا به ولفظنا بغيره نوع من الشبه ; فإذا تكلمنا بكلام آخر فهو يشبه من بعض الوجوه لفظنا وصوتنا بالقرآن لا يشبه تكلم الله به وقراءته إياه فإذا كان وجود هذه الحروف في كلام الآدميين ليس بمنزلة تكلم الله بالقرآن وإنما يشبه من بعض الوجوه تكلمنا به [ ص: 452 ] من جهة ما يضاف إلينا لا من جهة ما يضاف إلى الله امتنع حينئذ أن يقال : عين الحرف الذي هو جزء لفظة من الاسم الذي ينطق به الناس هو عين الحرف الذي هو جزء لفظ من كلام الله تعالى وإنما يشبهه ويقاربه فهو هو باعتبار النوع ; وليس هو إياه باعتبار العين والشخص خلاف حروف كلام الله القرآن ; فإنها كلام الله حيث تصرفت وفيها دقة وشبهة أشرنا إليها في هذا الجواب وشرحناها في موضعها .
فمن قال : إن الحروف حرفان أراد به أنهما عينان وشخصان وهذا حق . ومن قال : الحرف حرف واحد أراد به : أن الحقيقة النوعية واحدة في الموضعين وهذا حق . ninde