الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 171 ] قصة الساطرون صاحب الحضر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر قصته هاهنا عبد الملك بن هشام لأجل ما قاله بعض علماء النسب أن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في ورود سيف بن ذي يزن عليه ، وسؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه أنه من سلالة الساطرون صاحب الحضر وقد قدمنا عن ابن إسحاق أن النعمان بن المنذر من ذرية ربيعة بن نصر ، وأنه روي عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء قنص بن معد بن عدنان فهذه ثلاثة أقوال في نسبه . فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر ، والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك وهو الساطرون على حافة الفرات وهو منيف مرتفع البناء ، واسع الرحبة والفناء دوره بقدر مدينة عظيمة وهو في غاية الإحكام والبهاء والحسن والسناء ، وإليه يجبى ما حوله من الأقطار والأرجاء ، واسم الساطرون : الضيزن بن معاوية بن عبيد بن أجرم من بني سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة . كذا نسبه ابن الكلبي ، وقال غيره : كان من الجرامقة وكان أحد ملوك الطوائف وكان [ ص: 172 ] يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم وكان حصنه بين دجلة والفرات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : وكان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا الساطرون ملك الحضر ، وقال غير ابن هشام : إنما الذي غزا صاحب الحضر ; سابور بن أزدشير بن بابك أول ملوك بني ساسان أذل ملوك الطوائف ورد الملك إلى الأكاسرة ، وأما سابور ذو الأكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل . والله أعلم . ذكره السهيلي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : فحصره سنتين . وقال غيره : أربع سنين ; وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق فأشرفت بنت الساطرون - وكان اسمها : النضيرة - فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج ، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ وكان جميلا فدست إليه : أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر ؟ فقال : نعم فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه ، وبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب ، ويقال : بل دلتهم على نهر [ ص: 173 ] يدخل منه الماء متسع فولجوا منه إلى الحضر ، ويقال : بل دلتهم على طلسم كان في الحضر وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء ، وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء ، ثم ترسل فاذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم فيفتح الباب ففعل ذلك فانفتح الباب فدخل سابور فقتل ساطرون ، واستباح الحضر ، وخربه ، وسار بها معه فتزوجها فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس فقال لها سابور : أهذا الذي أسهرك ؟ قالت : نعم قال : فما كان أبوك يصنع بك ؟ قالت : كان يفرش لي الديباج ، ويلبسني الحرير ، ويطعمني المخ ، ويسقيني الخمر قال : أفكان جزاء أبيك ما صنعت به ؟ ! أنت إلي بذلك أسرع ، ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس ، ثم ركض الفرس حتى قتلها ففيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر للحضر إذ أهله بنعمى وهل خالد من نعم      [ ص: 174 ] أقام به شاهبور الجنو
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      د حولين تضرب فيه القدم     فلما دعا ربه دعوة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أناب إليه فلم ينتقم     فهل زاده ربه قوة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومثل مجاوره لم يقم     وكان دعا قومه دعوة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هلموا إلى أمركم قد صرم     فموتوا كراما بأسيافكم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أرى الموت يجشمه من جشم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عدي بن زيد في ذلك


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والحضر صابت عليه داهية     من فوقه أيد مناكبها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ربية لم توق والدها     لحينها إذ أضاع راقبها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذ غبقته صهباء صافية     والخمر وهل يهيم شاربها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 175 ] فأسلمت أهلها بليلتها     تظن أن الرئيس خاطبها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فكان حظ العروس إذ جشر     الصبح دماء تجري سبائبها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرب الحضر واستبيح وقد     أحرق في خدرها مشاجبها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عدي بن زيد أيضا


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أيها الشامت المعير بالدهر     أأنت المبرأ الموفور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أم لديك العهد الوثيق من الأيا     م بل أنت جاهل مغرور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من رأيت المنون خلدن أم من     ذا عليه من أن يضام خفير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أين كسرى كسرى الملوك أنوشر     وان أم أين قبله سابور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبنو الأصفر الكرام ملوك     الروم لم يبق منهم مذكور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج     لة تجبى إليه والخابور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شاده مرمرا وجلله كل     سا فللطير في ذراه وكور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 176 ] لم يهبه ريب المنون فبان الملك     عنه فبابه مهجور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتذكر رب الخورنق إذ أش     رف يوما وللهدى تفكير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سره ماله وكثرة ما يم     لك والبحر معرضا والسدير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فارعوى قلبه وقال وما غب     طة حي إلى الممات يصير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم أضحوا كأنهم ورق ج     ف فألوت به الصبا والدبور

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : ورب الخورنق الذي ذكره في شعره ، رجل من الملوك المتقدمين ، وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذي كان قد أسرف فيه وعتا ، وتمرد فيه ، وأتبع نفسه هواها ، ولم يراقب فيها مولاها فوعظه بمن سلف قبله من الملوك والدول ، وكيف بادوا ولم يبق منهم أحد ، وأنه ما صار إليه عن غيره إلا وهو منتقل عنه إلى من بعده فأخذته موعظته ، وبلغت منه كل مبلغ فارعوى لنفسه ، وفكر في يومه وأمسه ، وخاف من ضيق رمسه فتاب وأناب ونزع عما كان فيه ، وترك الملك ولبس زي الفقراء وساح في الفلوات وحظي بالخلوات ، وخرج عما كان الناس فيه من اتباع الشهوات وعصيان رب [ ص: 177 ] السماوات وقد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الإمام موفق ابن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب " التوابين " ، وكذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتاب " الروض الأنف " المرتب أحسن ترتيب ، وأوضح تبيين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية