الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا

                                                                                                                                                                                                        68 حدثنا محمد بن يوسف قال أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا [ ص: 193 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 193 ] قوله : ( باب العلم قبل القول والعمل ) قال ابن المنير : أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل ، فلا يعتبران إلا به ، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل ، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم : " إن العلم لا ينفع إلا بالعمل " تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فبدأ بالعلم ) أي : حيث قال : فاعلم أنه لا إله إلا الله ثم قال واستغفر لذنبك . والخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو متناول لأمته . واستدل سفيان بن عيينة بهذه الآية على فضل العلم كما أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمته من طريق الربيع بن نافع عنه أنه تلاها فقال : ألم تسمع أنه بدأ به فقال : " اعلم " ثم أمره بالعمل ؟ وينتزع منها دليل ما يقوله المتكلمون من وجوب المعرفة ; لكن النزاع كما قدمناه إنما هو في إيجاب تعلم الأدلة على القوانين المذكورة في كتب الكلام ، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الإيمان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأن العلماء ) بفتح أن ، ويجوز كسرها ، ومن هنا إلى قوله : " وافر " طرف من حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححا من حديث أبي الدرداء وحسنه حمزة الكناني ، وضعفه عندهم باضطراب في سنده ، لكن له شواهد يتقوى بها ، ولم يفصح المصنف بكونه حديثا فلهذا لا يعد في تعاليقه ، لكن إيراده له في الترجمة يشعر بأن له أصلا ، وشاهده في القرآن قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، ومناسبته للترجمة من جهة أن الوارث قائم مقام الموروث ، فله حكمه فيما قام مقامه فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ورثوا ) بتشديد الراء المفتوحة ، أي : الأنبياء . ويروى بتخفيفها مع الكسر أي : العلماء . ويؤيد الأول ما عند الترمذي وغيره فيه : وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بحظ ) أي : نصيب ( وافر ) أي : كامل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومن سلك طريقا ) هو من جملة الحديث المذكور ، وقد أخرج هذه الجملة أيضا مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في حديث غير هذا ، وأخرجه الترمذي وقال : حسن . قال : ولم يقل له صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه فقال حدثت عن أبي صالح . قلت : لكن في رواية مسلم عن أبي أسامة عن الأعمش : " حدثنا أبو صالح " فانتفت تهمة تدليسه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( طريقا ) نكرها ونكر " علما " لتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية ، وليندرج فيه القليل والكثير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سهل الله له طريقا ) أي : في الآخرة ، أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة . وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ) أي : الله عز وجل ، وهو معطوف على قوله : لقول الله إنما يخشى الله أي : يخاف من الله من علم قدرته وسلطانه وهم العلماء قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وما يعقلها أي الأمثال المضروبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : لو كنا نسمع أي : سمع من يعي ويفهم أو نعقل عقل من يميز ، وهذه أوصاف أهل العلم . فالمعنى لو كنا من أهل العلم لعلمنا ما يجب علينا فعملنا به فنجونا .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 194 ] قوله : ( وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من يرد الله به خيرا يفقهه ) كذا في رواية الأكثر ، وفي رواية المستملي : " يفهمه " بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم ، وقد وصله المؤلف باللفظ الأول بعد هذا ببابين كما سيأتي . وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعا ، وإسناده حسن . والفقه هو الفهم قال الله تعالى : لا يكادون يفقهون حديثا أي : لا يفهمون ، والمراد الفهم في الأحكام الشرعية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإنما العلم بالتعلم ) هو حديث مرفوع أيضا ، أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضا بلفظ : " يا أيها الناس تعلموا ، إنما العلم بالتعلم ، والفقه بالتفقه ، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " إسناده حسن ، إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر ، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا ، ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعا . وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره . فلا يغتر بقوله من جعله من كلام البخاري ، والمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال أبو ذر إلخ ) هذا التعليق رويناه موصولا في مسند الدارمي وغيره من طريق الأوزاعي : حدثني أبو كثير - يعني مالك بن مرثد - عن أبيه قال : أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال : ألم تنه عن الفتيا ؟ فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت علي ؟ لو وضعتم . . فذكر مثله . ورويناه في الحلية من هذا الوجه ، وبين أن الذي خاطبه رجل من قريش ، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان رضي الله عنه . وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وقال أبو ذر : نزلت فيهم وفينا . فكتب معاوية إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة فسكن الربذة - بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات رواه النسائي . وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا ; لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه كما تقدم ، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علما يعلمه ، وسيأتي لعلي مع عثمان نحوه . والصمصامة بمهملتين الأولى مفتوحة هو السيف الصارم الذي لا ينثني ، وقيل الذي له حد واحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هذه ) إشارة إلى القفا ، وهو يذكر ويؤنث ، وأنفذ بضم الهمزة وكسر الفاء والذال المعجمة أي : أمضي ، وتجيزوا بضم المثناة وكسر الجيم وبعد الياء زاي ، أي : تكملوا قتلي ، ونكر " كلمة " ليشمل القليل والكثير . والمراد به يبلغ ما تحمله في كل حال ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل . و " لو " في كلامه لمجرد الشرط من غير أن يلاحظ الامتناع ، أو المراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير وضع الصمصامة ، وعلى تقدير عدم حصوله أولى ، فهو مثل قوله : " لو لم يخف الله لم يعصه " وفيه الحث على تعليم العلم واحتمال المشقة فيه والصبر على الأذى طلبا للثواب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن عباس ) كذا التعليق وصله ابن أبي عاصم أيضا بإسناد حسن ، والخطيب بإسناد آخر حسن . وقد فسر ابن عباس : " الرباني " بأنه الحكيم الفقيه ، ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم الحربي في [ ص: 195 ] غريبه عنه بإسناد صحيح ، وقال الأصمعي والإسماعيلي الرباني نسبة إلى الرب أي : الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم والعمل ، وقال ثعلب قيل للعلماء ربانيون لأنهم يربون العلم أي : يقومون به ، وزيدت الألف والنون للمبالغة . والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة هل هي نسبة إلى الرب أو إلى التربية ، والتربية على هذا للعلم ، وعلى ما حكاه البخاري لتعلمه . والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله ، وبكباره ما دق منها . وقيل يعلمهم جزئياته قبل كلياته ، أو فروعه قبل أصوله ، أو مقدماته قبل مقاصده . وقال ابن الأعرابي : لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالما معلما عاملا .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة ) : اقتصر المصنف في هذا الباب على ما أورده من غير أن يورد حديثا موصولا على شرطه ، فإما أن يكون بيض له ليورد فيه ما يثبت على شرطه ، أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم ) هو بالخاء المعجمة ، أي يتعهدهم ، والموعظة النصح والتذكير ، وعطف العلم عليها من باب عطف العام على الخاص لأن العلم يشمل الموعظة وغيرها ، وإنما عطفه لأنها منصوصة في الحديث ، وذكر العلم استنباطا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لئلا ينفروا ) استعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما ، وتضمن ذلك تفسير السآمة بالنفور وهما متقاربان ، ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني ، كمناسبة الذي قبله من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ . وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها والتأمل لا يخلو عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سفيان ) هو الثوري ، وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن عيينة ، لكن محمد بن يوسف الفريابي وإن كان يروي عن السفيانين فإنه حين يطلق يريد به الثوري ، كما أن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي وإن كان يروي عن محمد بن يوسف البيكندي أيضا . وقد وهم من زعم أنه هنا البيكندي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي وائل ) في رواية أحمد المذكورة : سمعت شقيقا وهو أبو وائل . وأفاد هذا التصريح رفع ما يتوهم في رواية مسلم التي أخرجها من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر الحديث قال علي بن مسهر قال الأعمش : وحدثني عمرو بن مرة عن شقيق عن عبد الله مثله ، فقد يوهم هذا أن الأعمش دلسه أولا عن شقيق ، ثم سمى الواسطة بينهما ، وليس كذلك ، بل سمعه من أبي وائل بلا واسطة وسمعه عنه بواسطة ، وأراد بذكر الرواية الثانية وإن كانت نازلة تأكيده ، أو لينبه على عنايته بالرواية من [ ص: 196 ] حيث إنه سمعه نازلا فلم يقنع بذلك حتى سمعه عاليا ، وكذا صرح الأعمش بالتحديث عند المصنف في الدعوات من رواية حفص بن غياث عنه قال : حدثني شقيق . وزاد في أوله أنهم كانوا ينتظرون عبد الله بن مسعود ليخرج إليهم فيذكرهم ، وأنه لما خرج قال : أما إني أخبر بمكانكم ولكنه يمنعني من الخروج إليكم . . فذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كان يتخولنا ) بالخاء المعجمة وتشديد الواو ، قال الخطابي : الخائل بالمعجمة هو القائم المتعهد للمال ، يقال خال المال يخوله تخولا إذا تعهده وأصلحه . والمعنى كان يراعي الأوقات في تذكيرنا ، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نمل . والتخون بالنون أيضا يقال تخون الشيء إذا تعهده وحفظه ، أي : اجتنب الخيانة فيه ، كما قيل في تحنث وتأثم ونظائرهما . وقد قيل إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال : " يتخولنا " باللام فرده عليه بالنون فلم يرجع لأجل الرواية ، وكلا اللفظين جائز . وحكى أبو عبيد الهروي في الغريبين عن أبي عمرو الشيباني أنه كان يقول : الصواب " يتحولنا " بالحاء المهملة أي : يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة . قلت : والصواب من حيث الرواية الأولى فقد رواه منصور عن أبي وائل كرواية الأعمش ، وهو في الباب الآتي . وإذا ثبتت الرواية وصح المعنى بطل الاعتراض .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( علينا ) أي : السآمة الطارئة علينا ، أو ضمن السآمة معنى المشقة فعداها بعلى ، والصلة محذوفة والتقدير من الموعظة . ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال ، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين : إما كل يوم مع عدم التكلف . وإما يوما بعد يوم فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط ، وإما يوما في الجمعة ، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط . واحتمل عمل ابن مسعود من استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في اليوم الذي عينه ، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول ، والثاني أظهر . وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهية تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائما ، وجاء عن مالك ما يشبه ذلك .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية