الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما تحريم بيع الميتة ، فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة ، سواء مات حتف أنفه ، أو ذكي ذكاة لا تفيد حله . ويدخل فيه أبعاضها أيضا ، ولهذا استشكل الصحابة - رضي الله عنهم - تحريم بيع الشحم ، مع ما لهم فيه من المنفعة ، فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرام ، وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة وهذا موضع اختلف الناس فيه ؛ لاختلافهم في فهم مراده - صلى الله عليه وسلم - وهو أن قوله : ( لا ، هو حرام ) هل هو عائد إلى البيع ، أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها ؟ فقال شيخنا : هو راجع إلى البيع ؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة ، قالوا : إن في شحومها من المنافع كذا وكذا ، يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها ؟ فقال : ( لا ، هو حرام ) .

قلت : كأنهم طلبوا تخصيص الشحوم من جملة الميتة بالجواز ، كما طلب العباس - رضي الله عنه - تخصيص الإذخر من جملة تحريم نبات الحرم بالجواز ، فلم يجبهم إلى ذلك ، فقال : ( لا ، هو حرام ) .

وقال غيره من أصحاب أحمد وغيرهم : التحريم عائد إلى الأفعال المسؤول عنها ، وقال : هو حرام ، ولم يقل : هي ؛ لأنه أراد المذكور جميعه ويرجح قولهم عود الضمير إلى أقرب مذكور ، ويرجحه من جهة المعنى أن إباحة هذه الأشياء [ ص: 665 ] ذريعة إلى اقتناء الشحوم وبيعها ، ويرجحه أيضا : أن في بعض ألفاظ الحديث ، فقال : ( لا ، هي حرام ) ، وهذا الضمير إما أن يرجع إلى الشحوم ، وإما إلى هذه الأفعال ، وعلى التقديرين ، فهو حجة على تحريم الأفعال التي سألوا عنها .

ويرجحه أيضا قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الفأرة التي وقعت في السمن : ( إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وكلوه وإن كان مائعا فلا تقربوه ) . وفي الانتفاع به في الاستصباح وغيره قربان له . ومن رجح الأول يقول : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إنما حرم من الميتة أكلها ) وهذا صريح في أنه لا يحرم الانتفاع بها في غير الأكل ، كالوقيد ، وسد البثوق ، ونحوهما . قالوا : والخبيث إنما تحرم ملابسته باطنا وظاهرا ، كالأكل واللبس ، وأما الانتفاع به من غير ملابسة فلأي شيء يحرم ؟ .

قالوا : ومن تأمل سياق حديث جابر ، علم أن السؤال إنما كان منهم عن البيع ، وأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم ، لما فيها من المنافع ، فأبى عليهم ، وقال : ( هو حرام ) ، فإنهم لو سألوه عن حكم هذه الأفعال ، لقالوا : أرأيت شحوم الميتة ، هل يجوز أن يستصبح بها الناس ، وتدهن بها الجلود ؟ ولم يقولوا : فإنه يفعل بها كذا وكذا ، فإن هذا إخبار منهم ، لا سؤال ، وهم لم يخبروه بذلك عقيب تحريم هذه الأفعال عليهم ؛ ليكون قوله : ( لا هو حرام ) صريحا في تحريمها ، وإنما أخبروه به عقيب تحريم بيع الميتة ، فكأنهم طلبوا منه أن يرخص لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها ، فلم يفعل . ونهاية الأمر أن الحديث يحتمل الأمرين ، فلا يحرم ما لم يعلم أن الله ورسوله حرمه .

قالوا : وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الاستسقاء من آبار ثمود ، وأباح لهم أن [ ص: 666 ] يطعموا ما عجنوا منه من تلك الآبار للبهائم ، قالوا : ومعلوم أن إيقاد النجاسة والاستصباح بها انتفاع خال عن هذه المفسدة ، وعن ملابستها باطنا وظاهرا ، فهو نفع محض لا مفسدة فيه . وما كان هكذا ، فالشريعة لا تحرمه ، فإن الشريعة إنما تحرم المفاسد الخالصة أو الراجحة وطرقها وأسبابها الموصلة إليها .

قالوا : وقد أجاز أحمد في إحدى الروايتين الاستصباح بشحوم الميتة إذا خالطت دهنا طاهرا ، فإنه في أكثر الروايات عنه يجوز الاستصباح بالزيت النجس ، وطلي السفن به ، وهو اختيار طائفة من أصحابه ، منهم : الشيخ أبو محمد ، وغيره ، واحتج بأن ابن عمر أمر أن يستصبح به .

وقال في رواية ابنيه : صالح وعبد الله : لا يعجبني بيع النجس ، ويستصبح به إذا لم يمسوه ، لأنه نجس ، وهذا يعم النجس ، والمتنجس ، ولو قدر أنه إنما أراد به المتنجس ، فهو صريح في القول بجواز الاستصباح بما خالطه نجاسة ميتة أو غيرها ، وهذا مذهب الشافعي ، وأي فرق بين الاستصباح بشحم الميتة إذا كان منفردا ، وبين الاستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه ؟ .

فإن قيل : إذا كان مفردا ، فهو نجس العين ، وإذا خالطه غيره تنجس به ، فأمكن تطهيره بالغسل ، فصار كالثوب النجس ، ولهذا يجوز بيع الدهن المتنجس على أحد القولين دون دهن الميتة .

قيل : لا ريب أن هذا هو الفرق الذي عول عليه المفرقون بينهما ، ولكنه ضعيف لوجهين .

[ ص: 667 ] أحدهما : أنه لا يعرف عن الإمام أحمد ، ولا عن الشافعي البتة غسل الدهن النجس ، وليس عنهم في ذلك كلمة واحدة ، وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين ، وقد روي عن مالك أنه يطهر بالغسل ، هذه رواية ابن نافع ، وابن القاسم عنه .

الثاني : أن هذا الفرق وإن تأتى لأصحابه في الزيت والشيرج ونحوهما ، فلا يتأتى لهم في جميع الأدهان ، فإن منها ما لا يمكن غسله ، وأحمد والشافعي قد أطلقا القول بجواز الاستصباح بالدهن النجس من غير تفريق .

وأيضا فإن هذا الفرق لا يفيد في دفع كونه مستعملا للخبيث والنجاسة ، سواء كانت عينية أو طارئة ، فإنه إن حرم الاستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث ، فلا فرق ، وإن حرم لأجل دخان النجاسة ، فلا فرق ، وإن حرم لكون الاستصباح به ذريعة إلى اقتنائه ، فلا فرق ، فالفرق بين المذهبين في جواز الاستصباح بهذا دون هذا لا معنى له .

وأيضا فقد جوز جمهور العلماء الانتفاع بالسرقين النجس في عمارة الأرض للزرع ، والثمر ، والبقل مع نجاسة عينه ، وملابسة المستعمل له أكثر من ملابسة الموقد ، وظهور أثره في البقول والزروع ، والثمار ، فوق ظهور أثر الوقيد ، وإحالة النار أتم من إحالة الأرض ، والهواء والشمس للسرقين ، فإن كان التحريم لأجل دخان النجاسة ، فمن سلم أن دخان النجاسة نجس ، وبأي كتاب ، أم بأية سنة ثبت ذلك ؟ وانقلاب النجاسة إلى الدخان أتم من انقلاب عين السرقين والماء النجس ثمرا أو زرعا ، وهذا أمر لا يشك فيه ، بل معلوم بالحس والمشاهدة ، حتى جوز بعض أصحاب مالك ، وأبي حنيفة - رحمهما الله - بيعه ، فقال ابن الماجشون : لا بأس ببيع العذرة ؛ لأن ذلك من منافع الناس . وقال ابن القاسم : لا بأس ببيع الزبل . قال اللخمي : وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العذرة . وقال أشهب في الزبل : المشتري أعذر فيه من البائع ، يعني في اشترائه . وقال ابن عبد الحكم : لم [ ص: 668 ] يعذر الله واحدا منهما ، وهما سيان في الإثم .

قلت : وهذا هو الصواب ، وأن بيع ذلك حرام وإن جاز الانتفاع به ، والمقصود أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريم الانتفاع بها في غير ما حرم الله ورسوله منها ، كالوقيد وإطعام الصقور والبزاة وغير ذلك . وقد نص مالك على جواز الاستصباح بالزيت النجس في غير المساجد ، وعلى جواز عمل الصابون منه ، وينبغي أن يعلم أن باب الانتفاع أوسع من باب البيع ، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به ، بل لا تلازم بينهما ، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع .

التالي السابق


الخدمات العلمية