الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( باب في تقديم الحيض وتأخيره ) اعلم أن صاحبة العادة إذا رأت قبل عادتها دما ، فهو على ثلاثة أوجه في وجه هو حيض بالاتفاق وفي وجه اختلفوا فيه وفي وجه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أما الوجه الأول ، وهو أنها إذا رأت قبل أيامها ما لا يمكن أن يجعل حيضا بانفراده ، ورأت في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده ولم يجاوز الكل عشرة فالكل حيض بالاتفاق ; لأن ما رأته قبل أيامها غير مستقل بنفسه فيجعل تبعا لما رأته في أيامها وذكر في نوادر الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى مطلقا أن المتقدم لا يكون حيضا ولكن تأويله إذا كان بحيث لا يمكن أن يجعل حيضا بانفراده وبعض أئمة بلخي أخذوا بالظاهر فقالوا : المتقدم عنده لا يكون حيضا على حال ; لأنه مستنكر مرئي قبل وقته ، وأما الوجه الذي اختلفوا فيه فثلاثة فصول . أحدها أن ترى قبل خمستها المعروفة خمسة أو ثلاثة أو لا ترى في خمستها شيئا أو رأت قبل خمستها يوما أو يومين ، ومن أول خمستها يوما أو يومين بحيث لا يمكن جعل كل واحد منهما بانفراده حيضا ما لم يجتمعا ففي كتاب الصلاة قال : الكل حيض ، وهو قول أبي يوسف ومحمد [ ص: 181 ] رحمهما الله تعالى ولم يذكر قول أبي حنيفة ، وقد نص على الخلاف في نوادر الصلاة أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يكون شيء من ذلك حيضا وجه قولهما أن الحيض مبني على الإمكان والمتقدم قياس المتأخر فكما جعل المتأخر عند الإمكان حيضا فكذلك المتقدم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : المتقدم دم مستنكر مرئي قبل وقته فلا يكون حيضا كالصغيرة جدا إذا رأت الدم ، وهذا ; لأن الحاجة إلى إثبات الحيض لها ابتداء ، ولا يحصل ذلك بما ليس بمعهود لها ما لم يتأكد بالتكرار ; لأن الدلالة قامت على أن العادة لا تنتقل بالمرة الواحدة بخلاف المتأخر فإن الحاجة هناك إلى إبقاء ما ثبت من صفة الحيض والإبقاء لا يستدعي دليلا موجبا ، والوجه الثالث إذا رأت قبل أيامها ما يكون حيضا بانفراده ، ورأت أيامها مع ذلك فعلى قولهما لا يشكل أن الكل حيض إذا لم يجاوز العشرة اعتبارا للمتقدم بالمتأخر .

وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى روايتان فيه روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الكل حيض وما رأت في أيامها يكون أصلا لكونه مستقلا بنفسه فيستتبع ما تقدم كما لو كان المتقدم يوما أو يومين وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن أيامها حيض فأما المتقدم فحكمه موقوف على ما ترى في الشهر الثاني فإن رأت ما رأته في الشهر الأول تبين أنه كان حيضا ، وانتقلت عادتها بالتكرار ، وإن رأت في الشهر الثاني في أيامها ، ولم تر قبل أيامها تبين أن المتقدم لم يكن حيضا ; لأنه مستنكر مرئي قبل وقته ، وهو نفسه مستقل فلا يمكن جعله تبعا لأيامها بخلاف اليوم واليومين فإذا جاءت المرأة تستفتي أنها ترى الدم قبل أيامها فعندهما تؤمر بترك الصلاة إذا كان الباقي من أيام طهرها ما لو ضم إلى أيامها لم يجاوز العشرة ; لأنها ترى الدم عقيب طهر صحيح فكان حيضا للإمكان وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان الباقي من طهرها ثلاثة أيام أو أكثر لم تؤمر بترك الصلاة ; لأن هذا المتقدم ليس بحيض لكونه مستقلا في نفسه فلا تستتبعه أيام حيضها ، وإن كان يوما أو يومين فعلى قول أئمة بلخي تؤمر بترك الصلاة ، وعلى قول أئمة بخارى لا تؤمر به عند أبي حنيفة ; لأن هذا المتقدم عنده لا يكون حيضا إلا بشرط أن ترى في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا بانفراده ، ولم يثبت هذا الشرط بعد فلا تؤمر بترك الصلاة ، وهو نظير الاختلاف الذي بيناه في الباب المتقدم فأما في المتأخر إن رأت أيامها ورأت بعد أيامها أيضا ، ولم يجاوز العشرة فالكل حيض بالاتفاق ; لأن ما بعد أيامها في حكم التبع لأيامها ويستقيم إثبات التبع بعد ثبوت الأصل بخلاف [ ص: 182 ] المتقدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى .

وإن لم تر أيامها ورأت بعد أيامها ما يمكن أن يجعل حيضا أو رأت في أيامها يوما أو يومين وبعد أيامها مثل ذلك بحيث لا يمكن جعل كل واحد منهما بانفراده حيضا ويمكن جعل ذلك كله حيضا ففي ظاهر الرواية أن ذلك حيض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى للإمكان وذكر أبو سهل الفرائضي رحمه الله تعالى رواية أخرى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه موقوف على ما ترى في الشهر الثاني فإن رأت في الشهر الثاني في أيامها تبين أن ذلك لم يكن حيضا وانتقلت به عادتها ، وإن رأت قبل أيامها وفي أيامها ، وبعد أيامها فعلى أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حكم المتقدم والمتأخر سواء لا يفصل البعض عن البعض ولكن إن لم يجاوز الكل عشرة فالكل حيض ، وإن جاوز كان حيضها أيام عادتها دون ما تقدم وما تأخر وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن أيامها تصير فاصلة بين المتقدم والمتأخر ومعنى هذا أنه لا يعتبر المتقدم إنما تعتبر أيامها وما تأخر فإن لم يجاوز العشرة فالكل حيض ، وإن جاوز فحيضها أيامها وظاهر المذهب عن أبي حنيفة إنه ينظر إلى قدر المتقدم فإن كان يوما أو يومين لا يفصل عن أيامها والجواب فيه كما قالا إن لم يجاوز الكل العشرة فالكل حيض ، وإن كان المتقدم ثلاثة أيام أو أكثر يصير فاصلا فينظر إلى أيامها وما تأخر خاصة ، وهذا بناء على أصله أن المتقدم إذا كان لا يستقل بنفسه يجعل حيضا تبعا لها بخلاف ما إذا استقل بنفسه وأما إذا رأت قبل أيامها ولم تر في أيامها شيئا ، ورأت بعد أيامها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا جاوز الكل العشرة فحيضها أيامها ; لأنه يجعل زمان الطهر حيضا بإحاطة الدمين به وعلى قول محمد رحمه الله تعالى حيضها ما تقدم إن أمكن ، وإن لم يمكن فحيضها ما تأخر ، وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان في ظاهر الرواية يجعل المتأخر حيضا وعلى ما ذكر أبو سهل الفرائضي رحمه الله تعالى يكون موقوفا على ما ترى في الشهر الثاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية