الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب إفراد الحج والتمتع والقران

                                                            عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج لفظ مسلم وفي رواية لهما أهل بالحج وللبخاري من حديث جابر وابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج لا يخلطه شيء فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة .

                                                            وقال مسلم في حديث جابر أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد وقال ابن ماجه بإسناد الصحيح أفرد الحج ولمسلم من حديث ابن عمر أهل بالحج مفردا .

                                                            وفي الصحيحين من حديث ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ولهما من حديث ابن عباس هذه عمرة استمتعنا بها ولمسلم من حديث علي وعمران بن حصين تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له في حديث عمران تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمتعنا معه وفي رواية له جمع بين حج وعمرة .

                                                            وفي رواية للدارقطني (قرن) ولمسلم من جمع بينهما بين الحج والعمرة ولأبي داود والنسائي من حديث البراء إني سقت الهدي وقرنت وللنسائي من حديث علي مثله.

                                                            ولأحمد من حديث سراقة قرن في حجة الوداع وله من حديث أبي طلحة جمع بين الحج والعمرة وللدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي قتادة مثله وللبراء من حديث ابن أبي أوفى مثله.

                                                            وعن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه الهدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعها قالت فحضت فلما دخلت ليلة عرفة قلت يا رسول الله أنى كنت أهللت بعمرة فكيف أصنع بحجتي قال انقضي رأسك وامتشطي وامسكي عن العمرة وأهلي بالحج فلما قضيت حجتي أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرني من التنعيم مكان عمرتي التي سكت عنها لفظ مسلم إلا أنه قال: أمسكت عنها .

                                                            وزاد الشيخان في رواية قال فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا .

                                                            وعن نافع عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر وفي رواية لمسلم عن ابن عمر (أن حفصة قالت) فجعله من حديث ابن عمر

                                                            التالي السابق


                                                            (باب إفراد الحج والتمتع والقران)

                                                            (الحديث الأول)

                                                            عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول [ ص: 17 ] الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج . لفظ مسلم (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة من هذا الوجه من طريق مالك بهذا اللفظ واتفق عليه الشيخان من رواية عبد العزيز بن الماجشون عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج الحديث. واتفق عليه الشيخان أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة عن عروة عن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وعمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة ولم يحلوا حتى كان يوم النحر . لفظ الشيخين وأبي داود واقتصر النسائي منه على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وقال ابن ماجه أفرد الحج .

                                                            (الثانية) إفراد الحج هو أن يحرم بالحج في أشهره ويفرغ منه ثم يعتمر من عامه والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحج من عامه والقران أن يجمع بينهما فيحرم بهما دفعة واحدة وكذا لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل الطواف يصح ويصير قارنا فلو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعي أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة والثاني يصح ويصير قارنا بشرط أن يكون قبل الشروع في أسباب التحلل من الحج.

                                                            وقيل قبل الوقوف بعرفات ، وقيل قبل فعل فرض ، وقيل قبل فعل طواف القدوم [ ص: 18 ] أو غيره ، وأجمعت الأمة على جواز تأدية نسكي الحج والعمرة بكل من هذه الأنواع الثلاثة الإفراد والتمتع والقران ، وذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم نوعين آخرين:

                                                            (أحدهما) الإطلاق وهو أن يحرم بنسك مطلقا ثم يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو كليهما .

                                                            (والثاني) التعليق وهو أن يحرم بإحرام كإحرام زيد ولا يرد على ما حكيته من الإجماع ما في الصحيحين عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما نهيا عن التمتع فلأصحابنا عن ذلك جوابان:

                                                            (أحدهما) أنهما نهيا عنها تنزيها وحملا الناس على ما هو الأفضل عندهما وهو الإفراد لا أنهما يعتقدان بطلان التمتع ، وكيف يظن بهما هذا مع علمهما بقول الله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي

                                                            (ثانيهما) أنهما نهيا عن التمتع الذي فعلته الصحابة رضي الله عنهم في حجة الوادع وهو فسخ الحج إلى العمرة لأنه كان خاصا لهم ، قال النووي في شرح المهذب ومن العلماء من أصحابنا وغيرهم من يقتضي كلامه أن مذهب عمر رضي الله عنه بطلان التمتع وهذا ضعيف ولا ينبغي أن يحمل كلامه عليه بل المختار في مذهبه ما قدمته والله أعلم.

                                                            وشذ ابن حزم الظاهري فقال إنه يتعين التمتع على من ليس معه هدي والقران على من معه هدي ، ولا يجوز لكل منهما غير ذلك .



                                                            (الثالثة) في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام عام حجته أفرد الحج وكذا في الصحيحين عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام أتى بالحج وحده . وفي لفظ مسلم أهل بالحج مفردا وفي الصحيحين عن جابر قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحج . وفي لفظ مسلم أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد وفي لفظ له بالحج خالصا [ ص: 19 ] وحده . وفي رواية له لسنا ننوي إلا الحج وفي سنن ابن ماجه بإسناد الصحيح أفرد الحج وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . وورد في أحاديث أخر أنه كان متمتعا ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع بالعمرة إلى الحج الحديث. وفيه وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج الحديث

                                                            وفي الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه . وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى الأشعري أنه أهل كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة ثم أمرني فأحللت . وفي الصحيحين من حديث ابن عباس هذه عمرة استمتعنا بها وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين قال تمتع النبي صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه . وفي صحيح مسلم أيضا عن علي تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووردت أحاديث تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا ففي صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة فقال ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا . وفي الصحيحين عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه . وفي رواية للدارقطني قرن وفي صحيح البخاري عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بوادي العقيق أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة .

                                                            وفي الصحيحين عن حفصة قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 20 ] ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك قال إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل من الحج .

                                                            وفي سنن أبي داود والنسائي ومن حديث البراء أنه عليه الصلاة والسلام قال أني سقت الهدي وقرنت .

                                                            وللنسائي من حديث علي مثله ولأحمد من حديث سراقة قرن في حجة الوداع .

                                                            وله من حديث أبي طلحة جمع بين الحج والعمرة وللدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي قتادة مثله وللبزار من حديث ابن أبي أوفى مثله قال الخطابي طعن جماعة من الجهال ونفر من الملحدين في الأحاديث والرواة حيث اختلفوا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم هل كان مفردا أم متمتعا أم قارنا وهي حجة واحدة وأفعالها مختلفة ولو يسروا للتوفيق وأعينوا بحسن المعرفة لم ينكروا ذلك ولم يدفعوه.

                                                            وقد أنعم الشافعي رحمه الله بيان هذا في كتاب اختلاف الحديث وجود الكلام فيه وفي اقتصاص كل ما قبله تطويل ولكن الوجيز المختصر من جوامع ما قال: أن معلوما في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الأمر به كجواز إضافته إلى الفاعل كقولك بنى فلان دارا إذا أمر ببنائها وضرب الأمير فلانا إذا أمر بضربه ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا وقطع سارق رداء صفوان .

                                                            وإنما أمر بذلك ومثله كثير في الكلام وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم القارن والمفرد والمتمتع وكل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فجاز أن تضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها وأذن فيها قال الخطابي ويحتمل: أن بعضهم سمعه يقول لبيك بحجة فحكى أنه أفرد وخفي عليه قوله وعمرة فلم يحك إلا ما سمع وسمع أنس [ ص: 21 ] وغيره الزيادة وهي لبيك بحجة وعمرة ولا ينكر قبول الزيادة وإنما يحصل التناقض لو كان الزائد نافيا لقول صاحبه فأما إذا كان مثبتا له وزائدا عليه فليس فيه تناقض.

                                                            قال ويحتمل أن يكون الراوي سمعه يقول ذلك لغيره على وجه التعليم فيقول له لبيك بحجة وعمرة على سبيل التلقين فهذه الروايات المختلفة في الظاهر ليس فيها تكاذب والجمع بينهما سهل كما ذكرنا.

                                                            وقد روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة إحراما موقوفا وخرج ينتظر القضاء فنزل عليه الوحي وهو على الصفا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يجعله عمرة وأمر من كان معه هدي أن يحجانتهى كلام الخطابي .

                                                            وقال القاضي عياض : قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث وأوسعهم نفسا في ذلك الطحاوي فإنه تكلم على ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري ثم عبد الله بن أبي صفرة ثم المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم.

                                                            وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما لأمره به وإما لتأويله عليه ، وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذ بالأفضل فأحرم مفردا للحج تظاهرت به الروايات الصحيحة وأما الروايات بأنه كان متمتعا فمعناها أمر به.

                                                            وأما الروايات بأنه كان قارنا فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية إلا من كان معه هدي وكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه الهدي في آخر إحرامهم قارنين بمعنى أنهم أردفوا الحج بالعمرة وفعل ذلك مواساة لأصحابه وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج ولم يمكنه التحلل معهم بسبب الهدي واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم فصار صلى الله عليه وسلم قارنا [ ص: 22 ] في آخر أمره وقد اتفق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة وشذ بعض الناس فمنعه وقال لا يدخل إحرام على إحرام كما لا يدخل صلاة على صلاة واختلفوا في إدخال العمرة على الحج فجوزه أصحاب الرأي وهو قول للشافعي لهذه الأحاديث ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج.

                                                            قال وكذلك يتأول قول من قال كان متمتعا أي تمتع بفعله العمرة في أشهر الحج وفعلها مع الحج لأن لفظ المتعة يطلق على معان فانتظمت الأحاديث واتفقت قال ولا يبعد رد ما ورد عن الصحابة من فعل مثل ذلك إلى مثل هذا مع الروايات الصحيحة أنهم أحرموا بالحج مفردا فيكون الإفراد إخبارا عن فعلهم أولا والقران إخبارا عن إحرام الذين معهم هدي بالعمرة ثانيا والتمتع لفسخهم الحج إلى العمرة ثم إهلالهم بالحج بعد التحلل منها كما فعله كل من لم يكن معه هدي (قلت) نقله عن الشافعي جواز إدخال العمرة على الحج هو قوله القديم لكن الجديد المعمول به عند أصحابه منع ذلك الآن والله أعلم.

                                                            ثم قال القاضي عياض وقال بعض علمائنا: إنه أحرم إحراما مطلقا منتظرا ما يؤمر به من إفراد أو تمتع أو قران ثم أمر بالحج ثم أمر بالعمرة في وادي العقيق بقوله صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة قال القاضي والذي سبق أبين وأحسن في التأويل ثم قال القاضي في موضع آخر بعد ذلك لا يصح قول من قال: أحرم النبي صلى الله عليه وسلم إحراما مطلقا مبهما لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة ترده وهي مصرحة بخلافه ا هـ.

                                                            وذكر ابن حزم الظاهري في كتاب له صنفه في حجة الوداع أن الرواية مختلفة عن عائشة وجابر وابن عمر وابن عباس فروي عنهم ما يدل على الإفراد للحج وما يدل على التمتع وما يدل على القران حاشا جابر فإنه إنما روى عنه الإفراد والقران فقط ثم قال فأما عند صحة البحث وتحقيق النظر فليس شيء من ذلك بمضطرب بل كله متفق ثم جمع بينهما بأن من روى القران عنده زيادة علم لأن من روى الإفراد قال أحرم بحج ومن روى التمتع قال أحرم بعمرة.

                                                            ومن روى القران زاد على الأول عمرة وعلى الثاني حجة وزيادة الثقة مقبولة وأيضا فمن [ ص: 23 ] روى القران من الصحابة لم تختلف الرواية عنهم ومن روى الإفراد والتمتع اختلفت الرواية عنهم وأيضا فليس في الأحاديث شيء مرفوع إلا القران وهو في حديث البراء بن عازب مرفوعا إني سقت الهدي وقرنت . رواه أبو داود والنسائي

                                                            ولم يرو لفظ الإفراد عن عائشة إلا عروة والقاسم وروى عنها القران عروة أيضا ومجاهد وليس مجاهد دون القاسم فنظرنا فوجدنا من روى القران لا يحتمل تأويلا أصلا ورواية من روى الإفراد يحتمل التأويل وهو أن يكون قولها أفرد الحج أي لم يحج بعد فرض الحج إلا حجة فردة لم يثنها بأخرى ويحتمل أن تكون سمعته يلبي بالحج فروته ولم تسمع ذكر العمرة فلم ترو ما لم تسمع ثم صح عندها بعد ذلك أنه قرن فذكرت ذلك كما روى عنها عروة ومجاهد .

                                                            وأما عمرة والأسود فلم يرويا عنها لفظة الإفراد وإنما رويا عنها (أهل بالحج).

                                                            ولا يمنع من أن يكون أهل بالعمرة أيضا فليس في روايتهما ما يوجب الإفراد ولا ما يخالف من روى عنها القران وهكذا القول فيما روي عن أسماء قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مهلين بالحج .

                                                            فإنما عنت أصحابه لا إهلاله ولم تنف أيضا أنه قرن إلى الحج عمرة فقول من زاد أولى وهكذا القول في الرواية عن ابن عمر سواء بل في الرواية عنه بيان ما يدل على رجوعه عن الإفراد ثم روى من طريق عبد الرزاق نا عبد الله بن عمر عن نافع ابن عمر أنه تمتع وقرن بين الحج والعمرة في آخر زمانه.

                                                            وكان قبل ذلك يفرد الحج واتفق سالم ونافع عن ابن عمر على القران وهما أوثق الناس فيه.

                                                            وأما الرواية عن جابر فإنه لم يقل عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج إلا الدراوردي وحده عن جعفر بن محمد عن أبيه وهذا يقينا مختصر من الحديث الطويل وسائر الناس عن جابر إنما قالوا أهل بالحج أو أهل بالتوحيد حاشا من طريقين لا يعتد بهما.

                                                            (إحداهما) من رواية مطرف بن مصعب وهو مجهول عن عبد العزيز بن أبي حازم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج .

                                                            (والأخرى) من رواية محمد بن عبد الوهاب وهو مجهول أيضا عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن جابر كذلك ومحمد بن مسلم إن [ ص: 24 ] كان الطائفي فهو ساقط ألبتة وإن كان غيره فلا أدري من هو وأما سائر الرواة الثقات فقالوا كما قدمنا وليس في قوله أهل بالحج ما يمنع أن يكون أهل معه بعمرة أيضا ولكنه سكت في هذه الرواية عن ذكرها وليس على المرء أن يحدث في كل وقت بكل ما سمع.

                                                            وقد قال عليه السلام دخلت العمرة في الحج فقول القائل أهل بالحج يقتضي العمرة على هذا الحديث ما لم يقل الراوي أفرد الحج وأهل بالحج وحده ويشد هذا ما أوردناه من طريق جابر أنه صلى الله عليه وسلم قرن مع حجته عمرة .

                                                            والأظهر فيما روي عن جابر أنه عليه السلام أهل بالتوحيد إنما أراد إهلاله بقوله لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك فصح أنه عنى بالتوحيد هذه التلبية إلا إفراد الحج وصح أن قول الدراوردي أفرد الحج إنما هو اختصار منه وظن لا من قول جابر وهكذا القول فيما روي عن ابن عباس من ذلك ولا فرق.

                                                            ويوضح هذا أن ابن عباس ذكر في هذا الحديث أنه عليه السلام أهل بعمرة .

                                                            ثم ذكر فيه أنه لم يحل منها وهذه صفة القران وهكذا معنى حديثه أهل بالحج وأنت إذا أضفت قول ابن عباس في رواية أبي العالية وأبي حسان عنه أنه عليه السلام أهل بالحج إلى قول مسلم القوي عنه أنه أهل بعمرة صح القران يقينا وصدقت كلتا الروايتين ولا يصح غير هذا إلا بتكذيب إحدى الروايتين وذلك لا يجوز وبهذا يتآلف جميع الروايات ويصح تصديق جميعها وإضافة بعضها إلى بعض قال فوهت روايات الإفراد وسقطت كلها ثم عدنا إلى الروايات فوجدنا عائشة وعمر وعليا وابن عمر وعمران وابن عباس ذكروا أنه عليه السلام تمتع.

                                                            وقال بعضهم وأهل بالعمرة ثم لما فسروا أقوالهم في ذلك أتوا بصفة القران وذكروا أنه لم يحل من عمرته حتى أتم جميع عمل الحج وصدر من المزدلفة إلى منى فلما كان ذلك كما ذكرنا احتملت الرواية عن عثمان وسعد في التمتع أنهما عنيا بذلك القران مع شهرة قوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة .

                                                            وهذا يبطل قول من قال إنه أهل بعمرة مفردة ثم أحل منها وأهل بالحج فصار متمتعا فلما وهت روايات التمتع أيضا وبطل الإفراد والتمتع لم يبق إلا روايات [ ص: 25 ] القران فوجب الأخذ بها وثبتت صحتها إذ من وصف القران لا يحتمل تأويلا ألبتة وكان الرواة للقران اثني عشر من الصحابة ستة مدنيون وواحد مكي واثنان بصريان وثلاثة كوفيون وبدون هذا النقل تصح الأخبار صحة ترفع الشك وتوجب العلم الضروري فصح بذلك أنه كان قارنا بيقين لا شك فيه وكانت سائر الروايات التي تعلق بها من ادعى الإفراد والتمتع غير مخالفة لرواية الذين رووا القران ولا دافعة له على ما بينا انتهى كلام ابن حزم قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي وعليه مؤاخذات:

                                                            (منها) قوله أن الدراوردي انفرد في حديث جابر بقوله أفرد الحج وليس كذلك فقد تابعه عليه حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد كما هو عند ابن ماجه وهو عند ابن ماجه أيضا من طريق ابن المنكدر عن جابر وإن كان فيه ضعف وروى أبو الشيخ ابن حبان في فوائد العراقيين من طريق ابن لهيعة عن الليث عن أبي الزبير عن جابر قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفرد النبي صلى الله عليه وسلم الحج . ثم قال والدي وهذا الذي جمع به ابن حزم بين الأحاديث فيه نظر من جهة أن في حديث ابن عمر وعائشة في الصحيح أنه أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج . وهذا مناف لإحرامه بهما معا في أول دفعة انتهى.

                                                            وقال النووي في شرح المهذب بعد ذكره أن ابن حزم اختار القران وتأول باقي الأحاديث ، وتأويل بعضها ليس بظاهر فيما قاله والصواب الذي نعتقده أنه عليه الصلاة والسلام أحرم أولا بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنا فمن روى أنه كان مفردا وهم الأكثرون اعتمد أول الإحرام ومن روى قارنا اعتمد آخره. ومن روى متمتعا أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والالتذاذ وقد انتفع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ولم يحتج إلى إفراد كل واحد بعمل قال ويؤيد هذا الذي ذكرته أنه عليه الصلاة والسلام لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده. وقدمنا أن القران أفضل من إفراد الحج من غير عمرة بلا خلاف ، ولو جعلت حجته مفردة لزم منه أن لا يكون اعتمر تلك السنة ولم يقل أحد إن الحج وحده أفضل من القران ، قلت سيأتي عن القاضي حسين والمتولي ترجيح الإفراد ولو لم يعتمر تلك السنة.

                                                            ومن [ ص: 26 ] المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في سنة أخرى فهذا قادح فيما نفاه من الخلاف والله أعلم: قال النووي ، وحاصله ترجيح الإفراد لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة وهي بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور انتهى وأنكر ابن حزم الظاهري هذا الكلام. وقال قد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم في ذي القعدة عاما بعد عام قبل الفتح ثم اعتمر في ذي القعدة عام الفتح ثم قال لهم في حجة الوداع في ذي الحليفة من شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل وهذا كاف في البيان .



                                                            " الرابعة " اختلف العلماء في أفضل وجوه الإحرام بحسب اختلافهم فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع على أقوال:

                                                            (أحدهما) أن الأفضل الإفراد وهو مذهب مالك والشافعي وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وجابر وعائشة وأبي ثور وحكاه النووي في شرح المهذب عنهم وعن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود والأوزاعي وداود قال المالكية والشافعية ثم الأفضل بعد الإفراد التمتع ثم القران.

                                                            (الثاني) أن التمتع أفضل وهو قول أحمد بن حنبل قال ابن قدامة في المغني وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد وسالم والقاسم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي .

                                                            وحكاه الترمذي عنه وعن أحمد وإسحاق وأهل الحديث قال الحنابلة ثم الأفضل بعد التمتع الإفراد ثم القران.

                                                            (الثالث) أن القران أفضل وهذا قول أبي حنيفة وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ثم قال لا شك أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا انتهى وهو قول للشافعي وقال به من أصحابنا المزني وأبو إسحاق المروزي وإليه ذهب ابن حزم الظاهري كما تقدم والمشهور عند الحنفية أن الأفضل بعد القران التمتع ثم الأفراد وعن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل من التمتع.

                                                            (الرابع) أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل.

                                                            حكاه المروزي عن أحمد بن حنبل .

                                                            (الخامس) أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة لا فضيلة لبعضها على بعض ، حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء.

                                                            (السادس) أن التمتع والقران سواء وهما أفضل من الإفراد ، حكي عن أبي يوسف ورجح الشافعي [ ص: 27 ] وأصحابه الإفراد أنه الأكثر في الروايات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وبأن رواته أخص بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة فإن منهم جابرا وهو أحسنهم سياقة لحجة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ذكرها من أول خروجه من المدينة إلى فراغه وهذا يدل على ضبطه لها واعتنائه بها ، ومنهم ابن عمر . وقد قال كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج .

                                                            ومنهم عائشة وقربها من النبي صلى الله عليه وسلم واطلاعها على باطن أمره وفعله في خلوته وعلانيته كله معروف مع فقهها وعظيم فطنتها ومنهم ابن عباس وهو بالمحل المعروف من الفقه والفهم الثاقب مع كثرة بحثه وحفظه أحوال النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره ، وبأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا عليه فلو لم يكن هو الأفضل عندهم وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لم يواظبوا عليه وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعله أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله.

                                                            وأما الخلاف عن علي وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز ، وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع لكماله بخلاف التمتع والقران فما لا يحتاج إلى جبر أفضل وبإجماع الأمة على جواز الإفراد بلا كراهة ، وكره عمر وعثمان وغيرهما التمتع وبعضهم القران أيضا وإن جوزوه واحتج من رجح التمتع بكونه عليه الصلاة والسلام تمناه بقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة .

                                                            وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن سببه أن من لم يكن معه هدي أمروا بجعلها عمرة فحصل لهم حزن حيث لم يكن معهم هدي فيوافقون النبي صلى الله عليه وسلم البقاء على الإحرام فتأسف عليه الصلاة والسلام حينئذ على فوات موافقتهم تطييبا لنفوسهم ورغبة فيما فيه موافقتهم لا أن التمتع دائما أفضل قال القاضي حسين من أصحابنا ولأن ظاهر هذا الحديث غير مراد بالإجماع لأن ظاهره أن سوق الهدي يمنع انعقاد العمرة.

                                                            وقد انعقد الإجماع على خلافه واحتج من رجح القران بالأحاديث السابقة وبقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله واشتهر عن عمر وعلي أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقالوا إن الدم الذي على القارن ليس دم جبران بل دم عبادة والعبادة المتعلقة بالبدن والمال أفضل من المختصة بالبدن وأجاب أصحابنا عن أحاديث [ ص: 28 ] القران بأنها مؤولة وبأن أحاديث الإفراد أكثر وأرجح وعن الآية الكريمة بأنه ليس فيها إلا الأمر بإتمامها ولا يلزم منه قرنهما في الفعل.

                                                            فهو كقوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأما المروي عن عمر وعلي فمعناه الإحرام بكل منهما من دويرة أهله يدل عليه أنه صح عن عمر كراهته للتمتع وأمره بالأفراد واستدل أصحابنا عن أن الدم الذي على القارن دم جبران لا نسك بأن الصيام يقوم مقامه عند العجز ولو كان دم نسك لم يقم مقامه كالأضحية قال صاحب الهداية من الحنفية : وقيل الاختلاف بيننا وبين الشافعي بناء على القارن عندنا يطوف طوافين ويسعى سعيين وعنده طوافا واحدا وسعيا واحدا.

                                                            (الخامسة) قد يستدل به على ترجيح الإفراد على التمتع والقران ولو لم يعتمر في تلك السنة وبه قال القاضي حسين والمتولي من الشافعية ولكن الأكثرون على أن شرط تفضيله عليهما أن يعتمر من سنته فلو أخر العمرة عن تلك السنة فكل منهما أفضل منه للإتيان فيهما بالنسكين وذكر النووي أن ما قالاه شاذ ضعيف وبحث شيخنا الإمام جمال الدين الإسنوي في المهمات أنه إذا قرن أو تمتع ثم اعتمر بعده كان أفضل من الإفراد وفيه نظر لأن الكلام في أداء النسكين وهذا قد أدى ثلاثة فهي غير الصورة المتكلم فيها والله أعلم.

                                                            وقال ابن قدامة في المغني في ترجيح مذهبه في التمتع: المفرد إنما يأتي بالحج وحده وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القران ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعا ا هـ .



                                                            (الحديث الثاني)

                                                            عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 29 ] عام حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه الهدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا قالت فحضت فلما دخلت ليلة عرفة قلت يا رسول الله إني كنت أهللت بعمرة فكيف أصنع بحجتي ؟ قال انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن العمرة وأهلي بالحج فلما قضيت حجتي أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرني من التنعيم مكان عمرتي سكت عنها .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه مسلم من هذا الوجه عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة إلا أن في روايته (أمسكت عنها) مكان (سكت عنها) واتفق عليه الشيخان من رواية مالك وعقيل بن خالد وأخرجه البخاري من رواية إبراهيم بن سعد ومسلم من رواية سفيان بن عيينة كلهم عن الزهري وفي رواية مالك فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا .

                                                            (الثانية) حجة الوداع كانت سنة عشر من الهجرة سميت بذلك لأنه عليه الصلاة والسلام ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها.

                                                            (الثالثة) فيه أن عائشة رضي الله عنها كانت في حجة الوداع محرمة بعمرة وروى القاسم عنها أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج .

                                                            وفي رواية لا نذكر إلا الحج وفي رواية لبينا بالحج وفي رواية مهلين بالحج .

                                                            وروى الأسود وعمرة عنها ولا نرى إلا أنه الحج وقد جمع ذلك مسلم في صحيحه وقال القاضي عياض اختلفت الروايات عن عائشة فيما أحرمت به اختلافا كثيرا واختلف العلماء في ذلك فقال مالك ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا وقال بعضهم بترجيح أنها كانت محرمة بحج لأنها رواية عمرة والأسود والقاسم ، وغلطوا عروة في العمرة ، ممن ذهب إلى هذا القاضي إسماعيل ورجحوا الرواية غير [ ص: 30 ] عروة على روايته لأن عروة قال في رواية حماد بن زيد عن هشام عنه حدثني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها دعي عمرتك .

                                                            فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها قال القاضي عياض وليس هذا بواضح لأنه يحتمل أنها ممن حدثه ذلك قالوا أيضا ولأن رواية عمرة والقاسم نسقت عمل عائشة في الحج من أوله إلى آخره ولهذا قال القاسم عن رواية عمرة نبأتك بالحديث على وجهه وقالوا ولأن رواية عروة إنما أخبر فيها عن آخر أمر عائشة والجمع بين الروايات ممكن فأحرمت أولا بالحج كما صح عنها في رواية الأكثرين وكما هو الأصح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة وهكذا فسره القاسم في حديثه فأخبر عروة باعتمارها في آخر الأمر ولم يذكر أول أمرها.

                                                            قال القاضي وقد يعارض هذا بما صح عنها في إخبارها عن فعل الصحابة واختلافهم في الإحرام وإنما أحرمت هي بعمرة فالحاصل أنها أحرمت بحج ثم فسخته إلى عمرة حين أمر الناس بذلك فلما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وإدراك الإحرام بالحج ، أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإحرام بالحج فأحرمت به فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة وحكى ابن عبد البر عمن رجح رواية عروة في إحرامها بعمرة أن جابرا روى ذلك أيضا قالوا وليس في قولها كنا مهلين بالحج وخرجنا لا نرى إلا الحج بيان أنها كانت هي مهلة بالحج وإنما هو استدلال لاحتمال أن تريد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتريد بعضهم أو أكثرهم وليس الاستدلال المحتمل للتأويل كالتصريح ثم قال ابن عبد البر الاضطراب عن عائشة في حديثها هذا في الحج عظيم.

                                                            وقد أكثر العلماء في توجيه الروايات فيه ودفع بعضهم بعضا ببعض ولم يستطيعوا الجمع بينها ورام قوم الجمع في بعض معاليها ثم قال ابن عبد البر في قول مالك : ليس العمل عليه قديما ولا حديثا يريد ليس العمل عليه في رفض العمرة [ ص: 31 ] لأن العمل عليه عنده في أشياء كثيرة.

                                                            (الرابعة) أصل الإهلال رفع الصوت بالتلبية ثم توسع فيه بإطلاقه على مطلق الإحرام وإن لم يكن فيه رفع صوت.

                                                            (الخامسة) قولها ولم أكن سقت الهدي توطئة لما تريد الأخبار به من استمرارها على تمحيض العمرة وأنها لم تدخل عليها الحج لأنه عليه الصلاة والسلام إنما أمر بضم الحج إلى العمرة من كان معه هدي والهدي بإسكان الدال وتخفيف الياء وبكسر الدال وتشديد الياء لغتان مشهورتان الأولى أفصح وأشهر وهو اسم لما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وسوق الهدي سنة لمن أراد الإحرام بحج أو عمرة.

                                                            (السادسة) قوله عليه الصلاة والسلام من كان معه الهدي فليهلل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا .

                                                            قال القاضي عياض الذي تدل عليه نصوص الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من رواية عائشة وجابر وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج وفي منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف كما جاء في رواية عائشة أو بعد طوافهم بالبيت وسعيهم كما جاء في رواية جابر ويحتمل تكريره الأمر بذلك مرتين في موضعين وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.

                                                            (السابعة) قال المالكية والشافعية والجمهور هذه الرواية دالة على أن السبب في بقاء من ساق الهدي على إحرامه حتى يحل من الحج كونه أدخل الحج على العمرة وأنه ليس السبب في ذلك مجرد سوق الهدي فما يقوله أبو حنيفة وأحمد ومن وافقهما: أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر وهم تمسكوا بقوله في رواية عقيل عن الزهري وهي في الصحيحين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ومن أهل بحج فليتم حجه . وهي ظاهرة في الدلالة لمذهبهم ، لكن تأولها [ ص: 32 ] أصحابنا على أن معناها ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه واستدلوا على صحة هذا التأويل بالرواية التي تكلم عليها وقالوا هذا التأويل متعين لأن القضية واحدة والراوي واحد فيتعين الجمع بين الروايتين والله أعلم .



                                                            (الثامنة) قولها فلما دخلت ليلة عرفة يحتمل أن معناه قربت وشارفت فإن محمل استحباب الإحرام بالحج يوم التروية عند الشروع في التوجه إلى منى ويدل لذلك قوله في حديث جابر إن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم في شكواها والناس يذهبون إلى الحج الآن .

                                                            وقولها إني كنت أهللت بعمرة أي مفردة ولم أدخل عليها الحج.

                                                            وقولها فكيف أصنع بحجتي أي بالحجة التي قصدت تحصيلها والإتيان بها إذ الفرض أنها لم تكن محرمة بحج فأضافت الحجة إليها بهذا الاعتبار (التاسعة) قوله انقضي رأسك بالقاف والضاد والمعجمة أي حلي ضفره.

                                                            وقوله وامتشطي أي سرحي بالمشط.

                                                            (العاشرة) قوله وامسكي عن العمرة أي عن إتمام أفعالها وهي الطواف والسعي وتقصير الشعر وهذه الرواية مبينة معنى قوله في الراوية الأخرى ارفضي عمرتك وفي رواية أخرى دعي عمرتك ودالة على أنه ليس المراد برفضها إبطالها بالكلية والخروج منها وإنما معناه رفض العمل فيها وإتمام أفعالها ويدل لذلك أيضا ما في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم واعتمرت بعد الحج .

                                                            فهذه رواية صريحة في أن عمرتها باقية [ ص: 33 ] صحيحة مجزئة لقوله يسعك طوافك لحجك وعمرتك وقد علم أن الأعمال الشرعية لا يجوز الخروج منها إما مطلقا أو الواجبات منها ويزيد الحج والعمرة على غيرهما بأنهما لشدة تشبثهما ولزومهما لا يصح الخروج منهما بنية الخروج وإنما يخرج منهما بالتحلل بعد فراغهما وهذا الذي ذكرناه من تأويل هذا اللفظ أولى من إبطاله ورده ونسبه عروة للوهم فيه كما حكاه ابن عبد البر عن بعضهم ثم أيده بأن حماد بن زيد روى هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وفيه قال عروة فحدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وافعلي ما يفعل الحاج المسلمون في حجهم قالت فأطعت الله ورسوله فلما كان ليلة الصدر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر فأخرجها إلى التنعيم فأهلت بعمرة . قال ابن عبد البر ففي هذه الرواية علة اللفظ الدال على رفض العمرة لأنه كلام لم يسمعه عروة من عائشة وإن كان حماد بن زيد قد انفرد بذلك فإنه ثقة فيما نقل انتهى

                                                            فالتأويل أولى من الرد والله أعلم.

                                                            (الحادية عشرة) أن قلت أمرها بنقض رأسها والامتشاط ظاهر في إبطال العمرة إذا الباقي في الإحرام لا يفعل مثل ذلك خشية انتشاف الشعر (قلت) لا يلزم من ذلك إبطال العمرة ، فإن نقض الرأس والامتشاط جائزان في الإحرام إذا لم يؤد إلى انتتاف شعر لكن يكره الامتشاط لغير عذر وقيل إن عائشة رضي الله عنها كان بها عذر من أذى برأسها فأبيح لها الامتشاط كما أبيح لكعب بن عجرة الحلق للأذى وقال بعضهم ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل لإحرامها بالحج لا سيما أن كانت لبدت رأسها كما هو السنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم له.

                                                            فلا يصح غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها ويلزم من هذا نقضه والله أعلم.

                                                            (الثانية عشرة) قوله (وأهلي بالحج) أي مدخلة له على العمرة وحينئذ فتصير قارنة بعد أن كانت متمتعة وهو جائز بالإجماع إذا كان قبل الطواف وإنما فعلت ذلك لأنه تعذر عليها إتمام العمرة والتحلل [ ص: 34 ] منها للحيض الطارئ المانع لها من الطواف.

                                                            (الثالثة عشرة) قولها فلما قضيت حجتي أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فاعمرني قد تبين في رواية أخرى في الصحيح سبب ذلك وهو أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج ؟

                                                            وهو مشكل إذ قد حصلت لها العمرة التي أدخلت عليها الحج فإنها لم تبطلها كما تقدم ، وأجيب عنه بأن معناه يرجع الناس بحج مفرد عن عمرة وعمرة مفردة عن حج وأرجع وليست لي عمرة منفردة: حرصت بذلك على تكثير الأفعال كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية فحصلت لهم حجة منفردة وعمرة منفردة وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران وتقدم أنه عليه الصلاة والسلام قال لها يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك .

                                                            أي وقد تما وحسبا لك فأبت وأرادت عمرة منفردة كما حصل لبقية الناس وهذا معنى قولها مكان عمرتي التي سكت عنها أي التي سكت عن أعمالها فلم أتمها منفردة بل مضمومة للحج وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى هذه مكان عمرتك وفي هذا تصريح بالرد على من قال القران أفضل وقد تقدم الخلاف في ذلك .



                                                            (الرابعة عشرة) فيه الخلوة بالمحارم والركوب معهم وفي رواية أخرى في الصحيح أنه أردفها وراءه.

                                                            (الخامسة عشرة) إنما أمره عليه الصلاة والسلام بإخراجها في العمرة إلى التنعيم لأنه أدنى الحل ومن كان بمكة وأراد الإحرام بعمرة فميقاته لها أدنى الحل ولا يجوز أن يحرم بها في الحرم والمعنى في ذلك الجمع في نسك العمرة بين الحل والحرم كما أن الحاج يجمع بينهما فإنه يقف بعرفات وهي من الحل ثم يدخل مكة للطواف وغيره فلو خالف وأحرم بها في الحرم ثم خرج إلى الحل قبل الطواف أجزأه ولا دم عليه وإن لم يخرج وطاف وسعى وحلق ففيه قولان للشافعي :

                                                            (أحدهما) لا تصح عمرته حتى يخرج إلى الحل ثم يطوف ويسعى ويحلق.

                                                            و(الثاني) تصح وعليه دم لتركه الميقات وهذا الثاني هو الأصح عند أصحابنا وبه قال جمهور [ ص: 35 ] العلماء ، وقال مالك لا يجزئه حتى يخرج إلى الحل وقال عطاء بن أبي رباح لا شيء عليه .



                                                            (السادسة عشرة) استدل به على أن أفضل جهات الحل للإحرام بالعمرة منها التنعيم وبه قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية والأصح عندهم أن الأفضل الإحرام بها من الجعرانة لكونه عليه الصلاة والسلام فعله ثم من التنعيم لكونه أمر به ثم من الحديبية لكونه هم به وقالوا إنما أمر عبد الرحمن بالتنعيم لتيسره فإنه أقرب الجهات كما تقدم.

                                                            (السابعة عشرة) زاد بعضهم على هذا فقال إنه يتعين التنعيم للإحرام بالعمرة منه وحكاه القاضي عياض عن مالك وإنه ميقات المعتمرين من مكة قال النووي في شرح مسلم وهذا شاذ مردود والذي عليه الجماهير أن جميع جهات الحل سواء ولا يختص بالتنعيم والله أعلم .



                                                            (الثامنة عشرة) في قولها في رواية مالك وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد عن طواف الركن وأنه يقتصر على أفعال الحج وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج وبهذا قال الشافعي رحمه الله وهو محكي عن ابن عمر وجابر وعائشة والحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري وأبي جعفر وعطاء وطاوس وكان يحلف بالله أنه لم يطف أحد من الصحابة للحج والعمرة إلا طوافا واحدا ، رواها ابن أبي شيبة وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وداود وقال أبو حنيفة يلزمه طوافان وسعيان وهو محكي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود والحسن بن علي والشعبي والأسود والحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأبي جعفر وحماد بن أبي سليمان رواه عنهم ابن أبي شيبة .



                                                            (الحديث الثالث)

                                                            عن نافع عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 36 ] ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من طريق مالك وفي رواية البخاري وهي عن إسماعيل بن أبي أويس وعبد الله بن يوسف ورواية النسائي وهي من طريق ابن القاسم ما شأن الناس حلوا بعمرة .

                                                            وحكى ابن عبد البر عن ابن وهب أنه رواه عن مالك بهذه الزيادة وأنه رواه بدونها القعنبي ويحيى بن بكير وأبو مصعب وعبد الله بن يوسف ويحيى بن يحيى وغيرهم قال والمعنى واحد عند أهل العلم قال ولم يختلف الرواة عن مالك في قوله ولم تحل أنت من عمرتك . قال وزعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع ولم تحل أنت من عمرتك إلا مالك وحده قال وقد رواها غير مالك عبيد الله بن عمر وأيوب السختياني وهؤلاء هم حفاظ أصحاب نافع والحجة فيه على من خالفهم ورواه ابن جريج عن نافع فلم يقل من عمرتك وزيادة مالك مقبولة لحفظه وإتقانه لو انفرد بها فكيف وقد تابعه من ذكرنا قال وما أعلم أحدا في قديم الدهر ولا حديثه رد حديث حفصة هذا بأن مالكا انفرد بقوله من عمرتك إلا هذا الرجل. ا هـ بمعناه.

                                                            وذكر بعضهم أن هذا الذي أشار إليه ابن عبد البر هو الأصيلي ورواية عبيد الله بن عمر هذه رواها مسلم وابن ماجه وفيها من عمرتك . ورواها البخاري بدون قولها (من عمرتك) ولفظ الشيخين فيها فلا أحل حتى أحل من الحج . وفي لفظ لمسلم حتى أنحر كرواية مالك وكذا في رواية ابن ماجه ورواية ابن جريج أخرجها مسلم وأخرج البخاري مثلها من طريق موسى [ ص: 37 ] بن عقبة عن نافع وذكر البيهقي رواية موسى بن عقبة ثم قال وكذلك رواه شعيب بن أبي حمزة عن نافع لم يذكر فيه العمرة والله أعلم.

                                                            وفيه إشارة إلى الاختلاف في ذكر هذه اللفظة ففيه ميل لما تقدم عن الأصيلي . وفي رواية مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك أن حفصة قالت ، فجعله من مسند ابن عمر وكذا في صحيح مسلم من طريق عبيد الله بن عمر وفي حديث الباقين عن ابن عمر عن حفصة وفي رواية موسى بن عقبة وابن جريج حدثتني حفصة

                                                            (الثانية) تمسك به من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان في حجة الوادع متمتعا لكونه أقر على أنه محرم بعمرة والتمتع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج وطعن من طعن في قوله من عمرتك غير ملتفت إليه كما تقدم لكن هذا التمسك ضعيف فإنه لو لم يكن إلا هذا اللفظ لاحتمل التمتع والقران فتعين بقوله عليه الصلاة والسلام في رواية عبيد الله بن عمر حتى أحل من الحج أنه كان قارنا وهو في الصحيحين كما تقدم .



                                                            (الثالثة) ورتبوا على هذا أن المتمتع لا يحل من عمرته إذا كان معه هدي حتى ينحره يوم النحر وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد فإنه جعل العلة في بقائه على إحرامه الهدي وأخبر أنه لا يحل حتى ينحره وأجاب الجمهور عنه بأنه ليس العلة في ذلك سوق الهدي وإنما السبب فيه إدخاله الحج على العمرة ويدل لذلك قوله في رواية عبيد الله بن عمر حتى أحل من الحج وعبر عن الإحرام بالحج بسوق الهدي لأنه كان ملازما له في تلك الحجة فإنه قال لهم من كان معه الهدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا كما تقدم في حديث عائشة .



                                                            (الرابعة) وتمسك به من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا وهو تمسك قوي وما أدري ما يقول من ذهب إلى التمتع هل يقول استمر على العمرة خاصة ولم يحرم بالحج أصلا فيكون لم يحج في تلك السنة وهذا لا يقوله أحد وأدخل عليها الحج فصار قارنا وصح ما قاله هؤلاء فإن للقران حالتين :

                                                            (إحداهما) أن يحرم بالنسكين ابتداء.

                                                            (الثاني) أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج وقوله في رواية عبيد الله بن عمر حتى أحل من الحج صريح في أنه كان قارنا وقولها من عمرتك أي العمرة المضمومة إلى الحج قال النووي في شرح مسلم [ ص: 38 ] هذا دليل للمذهب الصحيح المختار أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا في حجة الوادع .



                                                            (الخامسة) إن قلت ما معنى قوله في رواية البخاري وغيره بعمرة وكيف يلتئم هذا مع قوله بعده من عمرتك كيف يهل بعمرة ويحل منها ؟.

                                                            (قلت) الصحابة رضي الله عنهم حلوا بعمرة فإنهم فسخوا الحج إليها فأتوا بأعمالها وتحللوا منها ولولا ذلك لاستمروا على الإحرام حتى يأتوا بأعمال الحج فكان إحرامهم بعمرة سببا لسرعة حلهم وأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه أدخل العمرة على الحج فلم يفده الإحرام بالعمرة سرعة الإخلال لبقائه على الحج فشارك الصحابة في الإحرام بالعمرة وفارقهم ببقائه على الحج وفسخهم له وهذا الذي ذكرته من إدخاله العمرة على الحج هو المعتمد وعكس الخطابي ذلك فقال في الكلام على هذا الحديث: هذا يبين لك أنه كانت هناك عمرة ولكنه أدخل عليها الحج فصار قارنا ثم حكى الاتفاق على جواز إدخال الحج على العمرة قبل الطواف والخلاف في إدخالها على الحج منعه مالك والشافعي وأجازه أصحاب الرأي هذا كلامه ، ومن يمنع إدخال العمرة على الحج يجيب عن هذا الحديث على ما قررته أولا بأن هذا من خصوصيات هذه الحجة فقد وقعت فيها أمور غريبة والله أعلم.

                                                            (السادسة) الذاهبون إلى الإفراد أجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:

                                                            (أحدها) أنها أرادت بالعمرة مطلق الإحرام روى البيهقي بإسناده عن الشافعي أنه قال فإن قيل فما قول حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل من عمرتك ؟

                                                            قيل أكثر الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معه هدي وكانت حفصة معهم فأمروا أن يجعلوا إحرامهم عمرة ويحلوا فقالت لم تحلل الناس ولم تحلل من عمرتك يعني إحرامك الذي ابتدأته وهم بنية واحدة والله أعلم فقال لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر بدني يعنى والله أعلم حتى يحل الحاج لأن القضاء نزل عليه أن يجعل من كان معه هدي إحرامه حجا وهذا من سعة لسان العرب الذي يكاد يعرف بالجواب فيه انتهى كلامه.

                                                            (ثانيها) أنها أرادت بالعمرة الحج لأنهما يشتركان في كونهما قصدا.

                                                            (ثالثها) أنها ظنت [ ص: 39 ] أنه معتمر.

                                                            (رابعها) أن معنى قولها من عمرتك أي لعمرتك بأن تفسخ حجك إلى عمرة كما فعل غيرك قال النووي في شرح مسلم بعد ذكره هذه الأجوبة وكل هذا ضعيف والصحيح ما سبق يعني القران.

                                                            (السابعة) إن قلت إذا كان الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا فلم رجح المالكية والشافعية الإفراد على القران وغيره (قلت) أجاب عن ذلك النووي في شرح المهذب بأن ترجيح الإفراد لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة وهي بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور وقد تقدم ذلك.

                                                            (الثامنة) قوله (إني لبدت رأسي) بتشديد الباء الموحدة وبالدال المهملة أي شعر رأسي وتلبيد الشعر أن يجعل فيه شيء من صمغ أو نحوه عند الإحرام لينضم الشعر ويلتصق بعضه ببعض احترازا عن تعطنه وتقمله ، وإنما يفعل ذلك من يطول مكثه في الإحرام وفي هذا الحديث استحبابه والمعنى فيه الإبقاء على الشعر وقد نص عليه الشافعي وأصحابه .



                                                            (التاسعة) الهدي بإسكان الدال وتخفيف الياء وبكسر الدال وتشديد الياء لغتان وتقليده أن يعلق عليه شيئا يعرف به كونه هديا فإن كان من الإبل والبقر استحب تقليده بنعلين من النعال التي تلبس في الرجلين في الإحرام ويستحب التصدق بهما عند ذبح الهدي وإن كان من الغنم استحب تقليده بخرب القرب بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وهي عراها وآذانها وبالخيوط المفتولة ونحوها وقد اتفق العلماء على استحباب سوق الهدي وعلى استحباب تقليد الإبل والبقر واختلفوا في استحباب تقليد الغنم فقال به الشافعي والجمهور وقال مالك وأبو حنيفة لا يستحب.

                                                            (العاشرة) يجوز في قولها (ولم تحل) وفي قوله (فلا أحل) فتح أوله وضمه على أنه ثلاثي ورباعي وهما لغتان فيه والفتح أوفق لقولها حلوا




                                                            الخدمات العلمية