الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              750 [ ص: 133 ] 114 - باب: إذا ركع دون الصف

                                                                                                                                                                                                                              783 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا همام، عن الأعلم -وهو زياد- عن الحسن، عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " زادك الله حرصا ولا تعد". [فتح: 2 \ 267]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث همام، عن الأعلم -وهو زياد - عن الحسن، عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "زادك الله حفظا ولا تعد".

                                                                                                                                                                                                                              وهو من أفراد البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              وفي النسائي عن الأعلم، ثنا الحسن أن أبا بكرة حدثه به ، وعند أبي داود: فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف وهو عند ابن حبان في "صحيحه" من حديث عنبسة الأعور عن الحسن، ومن حديث شعبة، عن زياد، عن الحسن، وقال: إنه مدحض لقول من زعم أن عنبسة تفرد به . وأعله الدارقطني بأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة . لكن له [ ص: 134 ] عنه في "صحيحه" عدة أحاديث منها هذا، وقصة الكسوف وليس فيها التصريح بالسماع، لكن البخاري لا يكتفي بالإمكان -أعني: إمكان اللقاء- كما أسلفناه في الفصول أوائل هذا الكتاب، فلا بد أن يكون ثبت عنده سماعه منه، وغاية ما اعتل به الدارقطني أن الحسن روى أحاديث عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة، وذلك لا يمنع من سماعه، منه ما أخرجه البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء فيمن ركع دون الصف، فروي عن زيد بن ثابت وابن مسعود أنهما فعلاه، ومشيا إلى الصف ركوعا، وفعله عروة وسعيد بن جبير وأبو سلمة وعطاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك والليث: لا بأس بذلك إذا كان قريبا قدر ما يلحق به .

                                                                                                                                                                                                                              وحد القرب فيما حكاه القاضي إسماعيل عن مالك أن يصل إلى الصف قبل سجود الإمام، وقيل: يقرب قدر ما بين الفرجتين، وفي "العتبية": ثلاث صفوف . وفي "الأوسط" للطبراني من حديث ابن جريج عن عطاء أن ابن الزبير قال على المنبر: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف؛ فإن ذلك السنة. قال عطاء: وقد رأيته يصنع ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 135 ] وقال: لم يروه عن ابن جريج -يعني: عن عطاء- إلا ابن وهب، تفرد به حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المصنف" بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: خرجت مع عبد الله من داره، فلما توسطنا المسجد ركع الإمام فكبر عبد الله، ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا إلى الصف الأخير حين رفع القوم رءوسهم، فلما قضى الإمام الصلاة قمت لأصلي، فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني، وقال: إنك قد أدركت. وصف أبو عبيدة -كما نقله عن أبيه- مثل هذا، وبسند صحيح أن أبا لبابة فعل ذلك، وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وعروة وأبو سلمة، وعطاء كما سلف، ومجاهد والحسن .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة والثوري: يكره ذلك للواحد ولا يكره للجماعة .

                                                                                                                                                                                                                              ذكره الطحاوي قال: وأجاز أبو حنيفة ومالك والشافعي والليث صلاة المنفرد وحده دون الصف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك: لا يجذب إليه رجلا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي وأحمد وأهل الظاهر: إن ركع دون الصف بطلت صلاته، محتجين بقوله: "ولا تعد" وقال أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم إلى الصف فلا يركع دون الصف، ولا تكبر حتى تأخذ مقامك من الصف" ذكره ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 136 ] ونهى عنه الحسن في رواية، وكذا إبراهيم ، واحتج الأولون بأنه لم يأمره بالإعادة، ولو كان من صلى خلف الصف وحده يعيد لكان من دخل في الصلاة خلف الصف لا يكون داخلا فيها. فلما كان دخول أبي بكرة في الصلاة دون الصف دخولا صحيحا، كانت صلاة المصلي كلها دون الصف صحيحة.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: فما معنى قوله: "ولا تعد" وهو بفتح التاء وضم العين؟ قلت: معنيان:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: لا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم في الصف. حكاه ابن التين عن الشافعي، ويؤيده حديث أبي هريرة السالف من عند ابن أبي شيبة.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيا يحفزك فيه النفس. وقد جاء في حديث أبي بكرة: جئت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكع وقد حفزني النفس . الحديث رواه حماد بن سلمة عن الأعلم به: فجاء يلهث. وكان أمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا الصلاة وعليهم السكينة.

                                                                                                                                                                                                                              ويحتمل معنى ثالثا وهو: لا تعد إلى الإبطاء.

                                                                                                                                                                                                                              وأحسن من الكل ما جاء مصرحا به وهو: دخوله في الصف راكعا، فإنها كمشية البهائم، قاله المهلب بن أبي صفرة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 137 ] وقال ابن القطان في "علله": وهذا هو المراد، فإن في "مصنف حماد بن سلمة" عن الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وقد ركع فركع ثم دخل الصف وهو راكع، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيكم دخل الصف وهو راكع" فقال له أبو بكرة: أنا، فقال: "زادك الله حرصا ولا تعد".

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القطان: فتبين بهذه الزيادة أن الذي أنكر عليه الشارع إنما هو أن دب راكعا، وقد كان هذا متنازعا فيه إلى أن تبين أن هذا هو المراد .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لكن ما رواه عن "الأوسط" يخالفه، قال الطحاوي: ولا يختلفون فيمن صلى وراء الإمام في صف فخلا موضع رجل أمامه أنه ينبغي له أن يمشي إليه، وفي تقدمه من صف إلى صف هو فيما بين الصفين في غير صف، فلم يضره ذلك ولم يخرجه عن الصلاة، فلو كانت الصلاة لا تجوز إلا لقائم في صف لفسدت على هذا صلاته لما صار في غير صف، وإن كان ذلك أقل القليل، كما أن من وقف على موضع نجس أقل القليل وهو يصلي أفسد ذلك عليه صلاته، فلما أجمعوا أنهم يأمرون هذا بالتقدم إلى ما قد (صلى) أمامه من الصف، ولا يفسد ذلك عليه كونه فيما بين الصفين في غير صف، دل ذلك أن من صلى دون الصف أن صلاته تجزئ .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية