الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل : كلب الصيد مستثنى من النوع الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل ما رواه الترمذي ، من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن ثمن الكلب ، إلا كلب الصيد ) .

وقال النسائي : أخبرني إبراهيم بن الحسن المصيصي ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - أن [ ص: 682 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن ثمن الكلب والسنور ، إلا كلب الصيد ) .

وقال قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، حدثنا المثنى بن الصباح ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثمن الكلب سحت إلا كلب صيد ) .

وقال ابن وهب : عمن أخبره ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاث هن سحت : حلوان الكاهن ، ومهر الزانية ، وثمن الكلب العقور ) .

وقال ابن وهب : حدثني الشمر بن عبد الله بن ضميرة ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب العقور ) .

ويدل على صحة هذا الاستثناء أيضا ، أن جابرا أحد من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ثمن الكلب ، وقد رخص جابر نفسه في ثمن كلب الصيد ، وقول الصحابي صالح لتخصيص عموم الحديث عند من جعله حجة ، فكيف إذا كان معه النص باستثنائه والقياس ؟ وأيضا لأنه يباح الانتفاع به ، ويصح نقل اليد فيه بالميراث ، والوصية ، والهبة ، وتجوز إعارته وإجارته في أحد قولي العلماء ، [ ص: 683 ] وهما وجهان للشافعية ، فجاز بيعه كالبغل والحمار .

فالجواب : أنه لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناء كلب الصيد بوجه : أما حديث جابر - رضي الله عنه - فقال الإمام أحمد وقد سئل عنه : هذا من الحسن بن أبي جعفر ، وهو ضعيف ، وقال الدارقطني : الصواب أنه موقوف على جابر . وقال الترمذي : لا يصح إسناد هذا الحديث .

وقال في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا لا يصح ، أبو المهزم ضعيف ، يريد راويه عنه . وقال البيهقي : روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ثمن الكلب جماعة ، منهم ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة ، ورافع بن خديج ، وأبو جحيفة ، اللفظ مختلف ، والمعنى واحد . والحديث الذي روي في استثناء كلب الصيد لا يصح وكأن من رواه أراد حديث النهي عن اقتنائه فشبه عليه ، والله أعلم .

وأما حديث حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، فهو الذي ضعفه الإمام أحمد - رحمه الله - بالحسن بن أبي جعفر ، وكأنه لم يقع له طريق حجاج بن محمد ، وهو الذي قال فيه الدارقطني : الصواب أنه موقوف ، وقد أعله ابن حزم ، بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر ، وهو مدلس ، وليس من رواية الليث عنه . وأعله البيهقي بأن أحد رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما نهي عن اقتنائه من الكلاب فنقله إلى البيع .

قلت : ومما يدل على بطلان حديث جابر هذا ، وأنه خلط عليه أنه صح عنه أنه قال : ( أربع من السحت : ضراب الفحل ، وثمن الكلب ، ومهر البغي ، وكسب الحجام ) . وهذا علة أيضا للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد ، فهو علة للموقوف والمرفوع .

وأما حديث المثنى بن الصباح ، عن عطاء ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فباطل ؛ لأن فيه يحيى بن أيوب ، وقد شهد مالك عليه بالكذب ، وجرحه الإمام [ ص: 684 ] أحمد . وفيه المثنى بن الصباح ، وضعفه عندهم مشهور ، ويدل على بطلان الحديث ، ما رواه النسائي ، حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أسباط ، حدثنا الأعمش ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : ( أربع من السحت : ضراب الفحل ، وثمن الكلب ، ومهر البغي ، وكسب الحجام ) .

وأما الأثر عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فلا يدرى من أخبر ابن وهب ، عن ابن شهاب ، ولا من أخبر ابن شهاب عن الصديق - رضي الله عنه - ، ومثل هذا لا يحتج به .

وأما الأثر عن علي - رضي الله عنه - ففيه ابن ضميرة في غاية الضعف ، ومثل هذه الآثار الساقطة المعلولة لا تقدم على الآثار التي رواها الأئمة الثقات الأثبات ، حتى قال بعض الحفاظ : إن نقلها نقل تواتر ، وقد ظهر أنه لم يصح عن صحابي خلافها البتة ، بل هذا جابر ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، يقولون : ثمن الكلب خبيث .

قال وكيع : حدثنا إسرائيل ، عن عبد الكريم ، عن قيس بن حبتر ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرفعه : ( ثمن الكلب ، ومهر البغي وثمن الخمر حرام ) .

وهذا أقل ما فيه أن يكون قول ابن عباس .

وأما قياس الكلب على البغل والحمار ، فمن أفسد القياس ، بل قياسه على الخنزير أصح من قياسه عليهما ؛ لأن الشبه الذي بينه وبين الخنزير أقرب من الشبه الذي بينه وبين البغل والحمار ، ولو تعارض القياسان لكان القياس المؤيد بالنص [ ص: 685 ] الموافق له أصح وأولى من القياس المخالف له .

فإن قيل : كان النهي عن ثمنها حين كان الأمر بقتلها ، فلما حرم قتلها وأبيح اتخاذ بعضها ، نسخ النهي ، فنسخ تحريم البيع .

قيل : هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل ، ولا شبهة ، وليس في الأثر ما يدل على صحة هذه الدعوى البتة بوجه من الوجوه ، ويدل على بطلانها : أن أحاديث تحريم بيعها وأكل ثمنها مطلقة عامة كلها ، وأحاديث الأمر بقتلها والنهي عن اقتنائها نوعان : نوع كذلك وهو المتقدم ، ونوع مقيد مخصص وهو المتأخر ، فلو كان النهي عن بيعها مقيدا مخصوصا ، لجاءت به الآثار كذلك فلما جاءت عامة مطلقة ، علم أن عمومها وإطلاقها مراد ، فلا يجوز إبطاله . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية