الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 10 ] ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير )

                                                                                                                                                                                                                                            في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى ، ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس ، لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين :

                                                                                                                                                                                                                                            التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله قال : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) الثاني : لما بين أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده ، وعند أوليائه دون أعدائه .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في سبب النزول وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : جاء قوم من اليهود إلى قوم من المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر ، وعبد الرحمن بن جبير ، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود ، ففي يوم الأحزاب قال : يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إنه تعالى قال : ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) وهذه صفة الكافر .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء ، وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى : ( لا تتخذوا بطانة من دونكم ) [آل عمران : 118 ] وقوله : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) [المجادلة : 22 ] وقوله : ( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) [المائدة : 51] وقوله : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) [الممتحنة : 1 ] وقال : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ التوبة : 71 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن كون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله ، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوبا له في ذلك الدين ، وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر ، فيستحيل أن يبقى مؤمنا مع كونه بهذه الصفة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل أليس أنه تعالى قال : ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلا تحت هذه الآية ، لأنه تعالى قال : ( ياأيها الذين آمنوا [الممتحنة : 1 ] فلا بد وأن يكون خطابا في [ ص: 11 ] شيء يبقى المؤمن معه مؤمنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه .

                                                                                                                                                                                                                                            والقسم الثالث : وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة ، والمظاهرة، والنصرة، إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين ، فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه ، وأيضا فقوله : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ) فيه زيادة مزية ، لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه مواليا فالنهي عن اتخاذه مواليا لا يوجب النهي عن أصل موالاته .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلت على سقوط هذين الاحتمالين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : إنما كسرت الذال من ( يتخذ ) لأنها مجزوم للنهي ، وحركت لاجتماع الساكنين ، قال الزجاج : ولو رفع على الخبر لجاز ، ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمنا فلا ينبغي أن يتخذ الكافر وليا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان ؛ لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهيا عن موالاة الكافر ، ومتى كان منهيا عن ذلك ، كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( من دون المؤمنين ) أي من غير المؤمنين كقوله : ( وادعوا شهداءكم من دون الله ) [البقرة : 23 ] أي من غير الله ، وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان ، تقول : زيد جلس دون عمرو ؛ أي في مكان أسفل منه ، ثم إن من كان مباينا لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملا في معنى غير ، ثم قال تعالى : ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) وفيه حذف ، والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأسا ، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب



                                                                                                                                                                                                                                            ويحتمل أن يكون المعنى : فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية