الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

والحكم الثالث : مهر البغي ، وهو ما تأخذه الزانية في مقابلة الزنى بها ، فحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خبيث على أي وجه كان ، حرة كانت ، أو أمة ، ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم في الإماء ، دون الحرائر ، ولهذا قالت هند : وقت البيعة : ( أو تزني الحرة ؟! ) ولا نزاع بين الفقهاء في أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رجلا من نفسها فزنى بها أنه لا مهر لها واختلف في مسألتين .

إحداهما : الحرة المكرهة .

والثانية : الأمة المطاوعة ، فأما الحرة المكرهة على الزنى ففيها أربعة أقوال وهي روايات منصوصات عن أحمد .

أحدها : أن لها المهر بكرا كانت أو ثيبا ، سواء وطئت في قبلها أو دبرها .

والثاني : أنها إن كانت ثيبا ، فلا مهر لها ، وإن كانت بكرا ، فلها المهر ، وهل يجب معه أرش البكارة ؟ على روايتين منصوصتين ، وهذا القول اختيار أبي بكر .

[ ص: 687 ] والثالث : أنها إن كانت ذات محرم ، فلا مهر لها ، وإن كانت أجنبية ، فلها المهر .

والرابع : أن من تحرم ابنتها كالأم والبنت والأخت ، فلا مهر لها ، ومن تحل ابنتها كالعمة والخالة ، فلها المهر .

وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : لا مهر للمكرهة على الزنى بحال بكرا كانت أو ثيبا .

فمن أوجب المهر ، قال : إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوما في الشرع بالمهر ، وإنما لم يجب للمختارة ؛ لأنها باذلة للمنفعة التي عوضها لها ، فلم يجب لها شيء ، كما لو أذنت في إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه .

ومن لم يوجبه قال : الشارع إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهر في عقد أو شبهة عقد ، ولم يقومها بالمهر في الزنى البتة ، وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس . قالوا : وإنما جعل الشارع في مقابلة هذا الاستمتاع الحد والعقوبة ، فلا يجمع بينه وبين ضمان المهر . قالوا : والوجوب إنما يتلقى من الشارع من نص خطابه أو عمومه ، أو فحواه ، أو تنبيهه ، أو معنى نصه ، وليس شيء من ذلك ثابتا متحققا عنه .

وغاية ما يدعى قياس السفاح على النكاح ، ويا بعد ما بينهما . قالوا : والمهر إنما هو من خصائص النكاح لفظا ومعنى ، ولهذا إنما يضاف إليه فيقال : مهر النكاح ، ولا يضاف إلى الزنى ، فلا يقال : مهر الزنا ، وإنما أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - المهر وأراد به العقد ، كما قال : ( إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) . وكما قال : ( ورجل باع حرا فأكل ثمنه ) . ونظائره كثيرة .

[ ص: 688 ] والأولون يقولون : الأصل في هذه المنفعة ، أن تقوم بالمهر ، وإنما أسقطه الشارع في حق البغي ، وهي التي تزني باختيارها ، وأما المكرهة على الزنى فليست بغيا ، فلا يجوز إسقاط بدل منفعتها التي أكرهت على استيفائها ، كما لو أكره الحر على استيفاء منافعه ، فإنه يلزمه عوضها ، وعوض هذه المنفعة شرعا هو المهر ، فهذا مأخذ القولين .

ومن فرق بين البكر والثيب ، رأى أن الواطئ لم يذهب على الثيب شيئا ، وحسبه العقوبة التي ترتبت على فعله ، وهذه المعصية لا يقابلها شرعا مال يلزم من أقدم عليها ، بخلاف البكر فإنه أزال بكارتها ، فلا بد من ضمان ما أزاله فكانت هذه الجناية مضمونة عليه في الجملة ، فضمن ما أتلفه من جزء منفعة ، وكانت المنفعة تابعة للجزء في الضمان ، كما كانت تابعة له في عدمه من البكر المطاوعة .

ومن فرق بين ذوات المحارم وغيرهن ، رأى أن تحريمهن لما كان تحريما مستقرا ، وأنهن غير محل الوطء شرعا ، كان استيفاء هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط ، فلا يوجب مهرا ، وهذا قول الشعبي ، وهذا بخلاف تحريم المصاهرة ، فإنه عارض يمكن زواله .

قال صاحب ( المغني ) : وهكذا ينبغي أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع ؛ لأنه طارئ أيضا . ومن فرق في ذوات المحارم ، بين من تحرم ابنتها ، وبين من لا تحرم ، فكأنه رأى أن من لا تحرم ابنتها تحريمها أخف من تحريم الأخرى فأشبه العارض .

فإن قيل : فما حكم المكرهة على الوطء في دبرها ، أو الأمة المطاوعة على ذلك ؟ قيل : هو أولى بعدم الوجوب ، فهذا كاللواط لا يجب فيه المهر اتفاقا .

[ ص: 689 ] وقد اختلف في هذه المسألة الشيخان ، أبو البركات ابن تيمية ، وأبو محمد بن قدامة ، فقال أبو البركات في ( محرره ) : ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة ، والمكرهة على الزنى في قبل أو دبر ، وقال أبو محمد في ( المغني ) : لا يجب المهر بالوطء في الدبر ، ولا اللواط ؛ لأن الشرع لم يرد ببدله ، ولا هو إتلاف لشيء ، فأشبه القبلة والوطء دون الفرج ، وهذا القول هو الصواب قطعا ، فإن هذا الفعل لم يجعل له الشارع قيمة أصلا ، ولا قدر له مهرا بوجه من الوجوه ، وقياسه على وطء الفرج من أفسد القياس ، ولازم من قاله إيجاب المهر لمن فعلت به اللوطية من الذكور ، وهذا لم يقل به أحد البتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية