الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

فإن قيل : فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ، ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه ، أم يطيب لها ، أم تصدق به ؟

قيل هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ، ثم أراد التخلص منه ، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ، ولا استوفى عوضه رده عليه . فإن تعذر رده عليه ، قضى به دينا يعلمه عليه ، فإن تعذر ذلك ، رده إلى ورثته ، فإن تعذر ذلك ، تصدق به عنه ، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة ، كان له . وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض ، استوفى منه نظير ماله ، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها ، كما ثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم .

[ ص: 691 ] وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عوضه المحرم ، كمن عاوض على خمر أو خنزير ، أو على زنى أو فاحشة ، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع ؛ لأنه أخرجه باختياره ، واستوفى عوضه المحرم ، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض ، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان ، وتيسير أصحاب المعاصي عليه . وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله ، فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به ، ولا يسوغ القول به ، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر . ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا ، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء ، فلا تأتي به شريعة ، ولكن لا يطيب للقابض أكله ، بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن خبثه لخبث مكسبه ، لا لظلم من أخذ منه ، فطريق التخلص منه ، وتمام التوبة بالصدقة به ، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ، ويتصدق بالباقي ، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه عينا كان أو منفعة ، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام ، ولا يجب رده على دافعه .

فإن قيل : فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه ، بل حجر عليه فيه الشارع ، فلم يقع قبضه موقعه ، بل وجود هذا القبض كعدمه ، فيجب رده على مالكه ، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء ، أو لأجنبي بزيادة على الثلث ، أو تبرع المحجور عليه بفلس ، أو سفه ، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك ونحو ذلك ، وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده .

قيل : هذا قياس فاسد ؛ لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه ، والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به ، أو حق نفسه المقدمة على غيره ، وأما ما نحن فيه ، فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة ، أو استهلاك عين محرمة ، فقد قبض عوضا محرما ، وأقبض مالا محرما ، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه ، وبذل فيه ما لا يجوز بذله ، فالقابض قبض مالا محرما ، والدافع [ ص: 692 ] استوفى عوضا محرما ، وقضية العدل تراد العوضين ، لكن قد تعذر رد أحدهما ، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه . نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه ، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها ، وجب رد المال في الصورتين قطعا كما في سائر العقود الباطلة إذا لم يتصل بها القبض .

فإن قيل : وأي تأثير لهذا القبض المحرم حتى جعل له حرمة ، ومعلوم أن قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه ، إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا ، فقابض المال قبضه بغير حق ، فعليه أن يرده إلى دافعه ؟

قيل : والدافع قبض العين ، واستوفى المنفعة بغير حق ، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه ، وقبض ما ليس لهما قبضه ، وكلاهما عاص لله ، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه ، ويفوت على الآخر العوض والمعوض .

فإن قيل : هو فوت المنفعة على نفسه باختياره . قيل : والآخر فوت العوض على نفسه باختياره ، فلا فرق بينهما ، وهذا واضح بحمد الله .

وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله ، أو الصدقة به في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم " وقال : الزاني ، ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم ، فاستوفوا العوض المحرم ، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم ، وإنما هو لحق الله تعالى ، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض ، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر ، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال ، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته ، وأخذ عوضها جميعا منه ، بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة ، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها ، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه ، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت ، لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر ، أعني من صرف القوة التي [ ص: 693 ] عمل بها . ثم أورد على نفسه سؤالا ، فقال : فيقال على هذا فينبغي أن تقضوا بها إذا طالب بقبضها .

وأجاب عنه بأن قال : قيل نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة ، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض ، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد ، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة ؛ لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر ، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة ، فقلنا له : أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم ، فلا يقضى لك بالأجرة . فإذا قبضها ، وقال الدافع هذا المال : اقضوا لي برده ، فإني أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة ، قلنا له : دفعته معاوضة رضيت بها ، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ ، فاردد إليه ما أخذت إذا كان له في بقائه معه منفعة ، فهذا محتمل . قال : وإن كان ظاهر القياس ، ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية