الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
741 حديث خامس لسعيد بن أبي سعيد

مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبيد بن جريج ، أنه قال لعبد الله بن عمر : يا أبا عبد الرحمن ، رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها ، قال : ما هن يا ابن جريج ، قال : رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ، ورأيتك تلبس النعال السبتية ، ورأيتك تصبغ بالصفرة ، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ، ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية ، فقال : عبد الله بن عمر : أما الأركان فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس إلا اليمانيين ، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها ، فأنا أحب أن ألبسها ، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها ، فأنا أحب أن أصبغ بها ، وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته . [ ص: 75 ] عبيد بن جريج من ثقات التابعين ، ذكر الحسن بن علي الحلواني ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثني أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن عبيد بن جريج ، قال : حججت مع عبد الله بن عمر بين حج وعمرة اثنتي عشرة مرة .

[ ص: 92 ]

التالي السابق


قال أبو عمر :

في هذا الحديث دليل على أن الاختلاف في الأفعال والأقوال والمذاهب ، كان في الصحابة موجودا وهو عند العلماء أصح ما يكون في الاختلاف إذا كان بين الصحابة ، وأما ما أجمع عليه الصحابة ، واختلف فيه من بعدهم فليس اختلافهم بشيء ، وإنما وقع الاختلاف بين الصحابة - والله أعلم - في التأويل المحتمل فيما سمعوه ورأوه ، أو فيما انفرد بعلمه بعضهم دون بعض ، أو فيما كان منه عليه السلام على طريق الإباحة في فعله لشيئين مختلفين ، وقد بينا العلل في اختلافهم في غير هذا الكتاب .

وفي هذا الحديث دليل على أن الحجة عند الاختلاف السنة ، وأنها حجة على من خالفها ، وليس من خالفها بحجة عليها ، ألا ترى أن ابن عمر لما قال له عبيد بن جريج رأيتك تصنع أشياء لا يصنعها أحد من أصحابك ، لم يستوحش من مفارقة أصحابه ، إذ كان عنده في ذلك علم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل له ابن جريج : الجماعة أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك ، ولعلك وهمت كما [ ص: 76 ] يقول اليوم من لا علم له ، بل انقاد للحق إذ سمعه ، وهكذا يلزم الجميع ، وبالله التوفيق .

وأما قوله : رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين فالسنة التي عليها جمهور الفقهاء أن ذينك الركنين يستلمان دون غيرهما .

وأما السلف ، فقد اختلفوا في ذلك ، فروي عن جابر ، وأنس ، وابن الزبير ، والحسن ، والحسين ، أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها ، وعن عروة مثل ذلك ، واختلف عن معاوية ، وابن عباس في ذلك ، فقال أحدهما : ليس من البيت شيء مهجور ، والصحيح عن ابن عباس ، أنه كان لا يستلم إلا الركنين الأسود واليماني - وهما المعروفان باليمانيين - وهي السنة ; وعلى ذلك جماعة الفقهاء منهم مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، والطبري ، وحجتهم حديث ابن عمر هذا ، وما كان مثله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك :

حدثنا خلف بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن محمد ابن علي ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين .

ورواه ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه مثله

[ ص: 77 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مخلد بن خالد ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، أنه أخبر بقول عائشة أن الحجر بعضه من البيت ، فقال ابن عمر : والله إني لأظن عائشة إن كانت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت ، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك .

وأما قوله : رأيتك تلبس النعال السبتية ، فهي النعال السود التي لا شعر لها ، كذلك فسره ابن وهب صاحب مالك .

وقال الخليل في العين : السبت : الجلد المدبوغ بالقرظ ، وكذلك قال الأصمعي ، وهو الذي ذكر ابن قتيبة .

وقال أبو عمرو : هو كل جلد مدبوغ .

وقال أبو زيد : السبت : جلود البقر خاصة ، مدبوغة كانت أو غير مدبوغة ، ولا يقال لغيرها سبت ، وجمعها سبوت .

وقال غيره : السبت نوع من الدباغ يقلع الشعر ، والنعال السبتية من لباس وجوه الناس وأشراف العرب ، وهي معروفة عندهم قد ذكرها شعراؤهم ، قال عنترة يمدح رجلا :


بطل كأن ثيابه في سرحة يحذى نعال السبت ليس بتوأم

يعني أنه لم يولد توأما .

[ ص: 78 ] وقال كثير :


كأن مشافر النجدات منها إذا ما قارفت قمع الذباب
بأيدي مأتم متصاعدات نعال السبت أو عذب الثياب

شبه اضطراب مشافر الإبل ، وهي تنفي الذباب عنها بنعال السبت في أيدي المأتم ، والمأتم النساء اللواتي يبكين وينحن على الميت ، وقوله : أو عذب الثياب ، يريد خرقا يحبسها النساء بأيديهن عند النياح ، ويحبسن أيضا النعال بأيديهن ، كان هذا من فعل المأتم في الجاهلية ، ولا أعلم خلافا في جواز لباس النعال السبتية المقابر ، وحسبك أن ابن عمر يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يلبسها ، وفيه الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عنه أنه رأى رجلا يلبسها في المقبرة فأمره بخلعها ، وقد يجوز أن يكون ذلك لأذى رآه فيها ، أو لما شاء الله ، فإنه حديث مختلف فيه ، وقد روي عنه ما يعارضه .

والحديث ، حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن سليمان بن داود المنقري البصري ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا الأسود بن شيبان قال أخبرني خالد بن سمير قال أخبرني بشير بن نهيك ، قال : أخبرني بشير بن الخصاصية ، وكان اسمه في الجاهلية زحم ، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيرا ، قال بشير : بينما أنا أمشي بين المقابر ، وعلي نعلان ، فإذا رجل ينادي من خلفي : يا صاحب السبتيين ، فالتفت ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : إذا كنت في مثل هذا الموضع ، فاخلع نعليك ، قال : فخلعتهما هكذا قال : إنه كان اللابس لهما والمأمور فيهما .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا سهل بن بكار ، قال : حدثنا الأسود بن شيبان ، عن خالد بن سمير السدوسي ، عن بشير بن نهيك ، عن بشير - قال : وكان اسمه في الجاهلية زحم بن معبد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنت بشير - قال : بينما أنا أماشي [ ص: 79 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبور المشركين ، فقال : لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا ، ثلاثا ، ثم مر بقبور المسلمين ، فقال : لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا ، وحانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة فإذا رجل يمشي في القبور وعليه نعلان ، فقال : يا صاحب السبتيتين ، ويحك ! ألق سبتيتيك ، فنظر الرجل ، فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما .

وذهب قوم إلى أنه لا يجوز لأحد المشي بالنعال والحذاء بين القبور لهذا الحديث .

وقال آخرون : لا بأس بذلك ، واحتجوا بما حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ، قال : حدثنا عبد الوهاب - يعني ابن عطاء - عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه يسمع قرع نعالهم .

وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن المشي بين القبور في النعلين ، فقال : أما أنا فلا أفعله ، أخلع نعلي على حديث بشير ، قال : وقد تأول بعض الناس أنه ليسمع خفق نعالهم .

وقال أبو عبد الله : الأسود بن شيبان ثقة ، وبشير بن نهيك ثقة ، روى عنه عدة قلت : روى عنه النضر بن أنس ، وأبو مجلز ، وبركة ، قال : نعم .

قال الأثرم : حدثنا عفان ، وسليمان بن حرب ، وهذا لفظ عفان : قال : حدثنا الأسود بن شيبان ، قال : حدثنا خالد بن سمير ، قال : حدثني بشير بن نهيك ، عن بشير ، قال : بينما أنا أماشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على قبور المسلمين ، فقال : لقد أدرك [ ص: 80 ] هؤلاء خيرا ، ثم حانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة فإذا برجل يمشي في القبور عليه نعلاه ، فناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا صاحب السبتيتين : ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل ، فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلع نعليه فرمى بهما .

قال ، وحدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا .

قال : ورأيت أبا عبد الله عند المقابر معلقا نعليه بيده .

وأما قوله : رأيتك تصبغ بالصفرة ، وقول ابن عمر : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها ، فإن العلماء اختلفوا في تأويل هذا الحديث ، فقال قوم أراد الخضاب للحية بالصفرة ، واحتجوا بما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني سعيد المقبري ، عن عبيد بن جريج ، قال : قلت لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن ، إني رأيتك تصفر لحيتك ، قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصفر بالورس ، فأنا أحب أن أصفر به كما كان يصنع .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن ابن جريج ، كذا قال : رأيت ابن عمر يصفر لحيته ، فقلت : أراك تصفر لحيتك ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصفر لحيته .

ورواه يحيى القطان ، عن عبيد الله بن عمر ، عن سعيد المقبري ، عن ابن جريج ، وفي حديثه أنه قال : رأيته يصفر لحيته .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا عيسى بن إبراهيم ، قال : أخبرنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الحجاج ، عن عطاء ، قال : رأيت ابن عمر ولحيته صفراء .

[ ص: 81 ] وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : وحدثنا محمد بن عبد الله الرازي ، قال : حدثنا محمد بن الزبير ، قال أبو همام الأهوازي ، عن مروان بن سالم ، عن عبد الله بن همام ، قال : قلت : يا أبا الدرداء ، بأي شيء كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخضب ، قال : يا ابن أخي - أو يا بني - ما بلغ منه الشيب ما كان يخضب ، ولكنه قد كان منه هاهنا شعرات بيض ، وكان يغسله بالحناء والسدر .

قال : وحدثنا ابن الأصبهاني ، قال أخبرنا شريك ، عن عثمان بن موهب ، قال : رأيت شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه أحمر .

قال : وحدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا سلام بن أبي مطيع ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : دخلت على أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخرجت إلينا شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - مخضوبا بالحناء والكتم .

قال : وحدثنا ابن الأصبهاني ، قال : أخبرنا شريك ، عن سدير الصيرفي ، عن أبيه ، قال : كان علي لا يخضب ، فذكرت ذلك لمحمد بن علي ، قال : قد خضب من هو خير منه : رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال : وحدثنا هارون بن معروف ، قال : حدثنا ضمرة ، عن علي بن أبي حملة ، قال : كان رجاء بن حيوة لا يغير الشيب ، فحج فشهد عنده أربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ، قال فغير في بعض المرات .

ذكر البخاري ، عن ابن بكير ، عن الليث ، عن خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت أنسا يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كان ربعة من القوم ليس بالطويل ، وذكر الحديث إلى قوله : وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء قال ربيعة فرأيت شعرا من شعره ، فإذا هو [ ص: 82 ] أحمر ، فسألت ، فقيل : أحمر من الطيب ، وقد ذكرنا في باب حميد الطويل إجازة أكثر السلف للباس الثياب المزعفرة على ما قال مالك رحمه الله فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخضب بالحناء ويصفر شيبه ، على أنهم مجمعون أنه إنما شاب منه عنفقته ، وشيء في صدغيه صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : معنى حديث مالك ، عن سعيد المقبري ، عن عبيد بن جريج ، عن ابن عمر : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة ، أراد أنه كان يصفر ثيابه ويلبس ثيابا صفرا .

وأما الخضاب ، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخضب ، واحتجوا من الأثر بحديث ربيعة ، عن أنس ، وما كان مثله ، وقد ذكرنا حديث ربيعة في بابه من هذا الكتاب ، وبما حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد ابن زهير ، قال : حدثنا خلف بن الوليد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مشط مقدم رأسه ولحيته ، فإذا ادهن وامتشط لم يتبين شيبه ، فإذا شعث رأيته متبينا ، وكان كثير شعر الرأس واللحية .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة قال : سألت سعيد بن المسيب ، أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لم يبلغ ذلك .

قال : وحدثنا عاصم بن علي ، قال : حدثنا محمد بن راشد ، عن مكحول ، عن موسى بن أنس ، عن أبيه ، قال : لم يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيب ما يخضب .

[ ص: 83 ] قال : وحدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، عن حميد الطويل ، قال : سئل أنس عن الخضاب ، فقال : خضب أبو بكر بالحناء والكتم ، وخضب عمر بالحناء وحده ، قيل له : فرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء ، وأصغى حميد إلى رجل ، عن يمينه ، فقال : كن سبع عشرة شعرة .

وذكر مالك في الموطأ ، عن يحيى بن سعيد ، قال : أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، قال : وكان جليسا لهم ، وكان أبيض الرأس واللحية ، قال : فغدا عليهم ذات يوم ، وقد حمرهما قال ، فقال له القوم : هذا أحسن ، فقال : إن أمي عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إلي البارحة جاريتها نخيلة ، فأقسمت علي لأصبغن ، وأخبرتني أن أبا بكر الصديق كان يصبغ ، قال مالك : في هذا الحديث بيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصبغ ، ولو صبغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأرسلت بذلك عائشة إلى عبد الرحمن بن الأسود ، وقال مالك في صبغ الشعر بالسواد : لم أسمع في ذلك شيئا معلوما ، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي ، قال : وترك الصبغ إن شاء الله ، ليس على الناس فيه ضيق .

قال أبو عمر :

فضل جماعة من العلماء الخضاب بالصفرة والحمرة على بياض الشيب وعلى الخضاب بالسواد ، واحتجوا بحديث الزهري ، عن أبي سلمة ، وسليمان بن يسار جميعا ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن اليهود لا يصبغون فخالفوهم ، رواه سفيان بن عيينة ، وجماعة عن الزهري .

ومن حديث [ ص: 84 ] ابن عيينة وغيره أيضا ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : أن أبا بكر خضب بالحناء والكتم ، واحتجوا بهذا أيضا .

وجاء عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين أنهم خضبوا بالحمرة والصفرة .

وجاء عن جماعة كثيرة منهم أنهم لم يخضبوا ، وكل ذلك واسع كما قال مالك ، والحمد لله .

وممن كان يخضب لحيته حمراء قانية : أبو بكر ، وعمر ، ومحمد بن الحنفية ، وعبد الله بن أبي أوفى ، والحسن بن علي ، وأنس بن مالك ، وعبد الرحمن بن الأسود ، وخضب علي مرة ، ثم لم يعد ، وممن كان يصفر لحيته : عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأبو هريرة ، وزيد بن وهب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعبد الله بن بسر ، وسلمة بن الأكوع ، وقيس بن أبي حازم ، وأبو العالية ، وأبو السواد ، وأبو وائل ، وعطاء ، والقاسم ، والمغيرة بن شعبة ، والأسود ، وعبد الرحمن بن يزيد ، ويزيد بن الأسود ، وجابر بن عبد الله ، وجابر بن سمرة .

وروي عن علي وأنس أنهما كانا يصفران لحاهما ، والصحيح ، عن علي - رضي الله عنه - أنه كانت لحيته بيضاء ، وقد ملأت ما بين منكبيه .

ذكر وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : رأيت علي بن أبي طالب أبيض الرأس واللحية ، قد ملأت ما بين منكبيه . وقال أبو عائشة التيمي : رأيت عليا أصلع أبيض الرأس واللحية .

وكان السائب بن يزيد ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير لا يخضبون ، ذكر الربيع بن سليمان ، قال : كان الشافعي يخضب لحيته حمراء قانية .

وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن يحيى قال : [ ص: 85 ] رأيت الليث بن سعد يخضب بالحناء ، قال : ورأيت مالك بن أنس لا يغير الشيب وكان نقي البشرة ناصع بياض الشيب حسن اللحية ، لا يأخذ منها أن يدعها تطول ، قال ورأيت عثمان بن كنانة ، ومحمد بن إبراهيم بن دينار ، وعبد الله بن نافع ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وعبد الله بن وهب ، وأشهب بن عبد العزيز لا يغيرون الشيب ، ولم يكن شيبهم بالكثير ، يعني ابن القاسم وابن وهب وأشهب .

وذكر الحسن بن علي الحلواني ، قال : حدثنا أبو مسلم ، قال : حدثنا سفيان قال كان عمرو بن دينار ، وأبو الزبير ، وابن أبي نجيح لا يخضبون .

وأخبرنا أحمد بن عبد الله ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية البغدادي ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن أبي عشانة ، قال : رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد ، ويقول : نسود أعلاها وتأبى أصولها .

قال أبو عمر :

هو بيت محفوظ له :


نسود أعلاها وتأبى أصولها ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل

قال أبو عمر :

قد روي عن الحسن ، والحسين ، ومحمد بن الحنفية ، أنهم كانوا يخضبون بالوسمة . وعن موسى بن طلحة ، وأبي سلمة ، ونافع بن حمير ، أنهم خضبوا بالسواد . ومحمد بن إبراهيم ، والحسن ، ومحمد بن سيرين لا يرون به بأسا .

[ ص: 86 ] وممن كره الخضاب بالسواد : عطاء ، ومجاهد ، ومكحول ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وذكر أبو بكر ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، وسئل عن الخضاب بالوسمة ، قال : يكسو الله العبد في وجهه النور ، فيطفئه بالسواد .

قال أبو عمر :

ومما يدل على أن الصبغ بالصفرة المذكور في هذا الحديث هو صبغ الثياب لا تصفير اللحية ، ما ذكره مالك ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق والمصبوغ بالزعفران .

قال أبو عمر :

فحديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق والزعفران مع روايته ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصبغ بالصفرة ، دليل على أن تلك الصفرة كانت منه في لباسه ، والله أعلم ، وإلى هذا ذهب مالك على ما ذكرناه في باب حميد الطويل ، وأما غيره من العلماء ، فإنهم لا يجيزون للرجل أن يلبس شيئا مصبوغا بالزعفران ، لحديث عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتزعفر الرجل ، وهو معناه عند مالك ، وأكثر العلماء ، تخليق الجسد وتزعفره ، وقد ذكرنا هذا المعنى بأشبع من ذكرنا له هاهنا في باب حميد الطويل من كتابنا هذا ، والحمد لله .

[ ص: 87 ] وقد روي أن تلك الصفرة كانت في ثيابه دون تأويل .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : حدثنا سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، أنه كان يصبغ ثيابه بالصفرة حتى عمامته .

وذكر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصبغ بالصفرة وذكره ابن وهب ، عن عمر بن محمد ، عن زيد بن أسلم مرسلا .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، قال : حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران ، فقيل له ؟ فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ به ، ورأيته يحبه ، أو رأيته أحب الصبغ إليه .

وفي الموطأ : سئل مالك عن الملاحف المعصفرة في البيوت للرجال وفي الأفنية ، فقال : لا أعلم من ذلك شيئا حراما ، وغير ذلك من اللباس أحب إلي .

وأما قوله في الحديث : ورأيتك إذا كنت بمكة ، أهل الناس إذا رأوا الهلال ، ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية ، فقال ابن عمر : لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته ، فإن ابن عمر قد جاء بحجة قاطعة ، نزع بها ، وأخذ بالعموم في إهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يخص مكة من غيرها ، وقال : لا يهل الحاج إلا في وقت يتصل له عمله ، وقصده إلى البيت ، ومواضع المناسك والشعائر ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل واتصل له عمله ، وقد تابع ابن عمر على قوله هذا في إهلال المكي ومن بمكة من غير أهلها جماعة من أهل العلم .

[ ص: 88 ] ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى ، قال ابن طاوس : وكان أبي إذا أراد أن يحرم من المسجد ، استلم الركن ، ثم خرج .

قال عبد الرزاق : وأخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : وجه إهلال أهل مكة أن لا يهل أحدهم ، حتى تتوجه به دابته نحو منى ، فإن كان ماشيا فحين يتوجه نحو منى .

قال ابن جريج : قال لي عطاء : أهل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلوا في حجتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشية التروية حين توجهوا إلى منى .

قال ابن جريج : وقال لي ابن طاوس ذلك أيضا .

قال ابن جريج : وأخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله وهو يخبر ، عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فأمرنا بعدما طفنا أن نحل ، وقال إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا ، قال : فأهللنا من البطحاء .

وفي هذه المسألة ، وهذا الباب مذهب آخر لعمر بن الخطاب تابعه عليه أيضا جماعة من العلماء ، ذكر مالك في الموطأ ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب ، قال : يا أهل مكة ، ما شأن الناس يأتون شعثا ، وأنتم مدهنون ، أهلوا إذا رأيتم الهلال .

ومالك ، عن هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع سنين يهل بالحج لهلال ذي الحجة ، وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك .

قال مالك : من أهل بمكة من أهلها ، ومن كان مقيما بها من أهل المدينة وغيرهم ، فليؤخر الطواف الواجب بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، حتى يرجع من منى ، ويكون إهلاله من جوف مكة ، لا يخرج إلى الحرم ، وكذلك فعل ابن عمر [ ص: 89 ] وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أهلوا من مكة ، أخروا الطواف والسعي حتى رجعوا من منى ، قال مالك : ومن أهل بعمرة من مكة ، فليخرج إلى الحل .

وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، قال : أقام عبد الله بن الزبير تسع سنين ، يهل بالحج إذا رأى هلال ذي الحجة ، ويطوف بين الصفا والمروة قبل أن يخرج إلى منى .

قال : وأخبرنا هشام بن حسان ، قال : كان عطاء بن أبي رباح يعجبه إذا توجه إلى منى أن يهل ، ثم يمضي على وجهه .

وقال عطاء : إذا أحرم عشية التروية ، فلا يطف بالبيت حتى يروح إلى منى .

قال هشام : وقال الحسن : أي ذلك فعل ، فلا بأس ، إن شاء أهل حين يتوجه إلى منى ، وإن شاء قبل ذلك ، وإن أهل قبل يوم التروية ، فإنه يطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة .

قال أبو عمر :

ليس يريد الطواف الواجب ; لأن الطواف الواجب لا يكون إلا بعد رمي جمرة العقبة ، ولكنه يطوف ما بدا له بالبيت ، ويركع إن شاء ، وهو قول مالك أيضا .

قال أبو عمر :

قد روي ، عن ابن عمر في هذا الباب أنه فعل فيه أيضا بقول أبيه ، وهو جائز لمن فعله ، لا يختلف الفقهاء في جواز ذلك .

[ ص: 90 ] ذكر عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع قال : أهل ابن عمر مرة بالحج حين رأى الهلال ، ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة ، ومرة أخرى حين راح منطلقا إلى منى .

قال : وأخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه أهل بالحج من مكة ثلاث مرات ، فذكر مثله .

قال : وأخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله .

وعن معمر ، وابن جريج ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، نحوه .

قال مجاهد : فقلت لابن عمر : قد أهللت فينا إهلالا مختلفا ، قال أما أول عام الأول ، فأخذت بأخذ أهل بلدي ، ثم نظرت ، فإذا أنا أدخل على أهلي حراما ، وأخرج حراما ، وليس كذلك كنا نصنع ، إنما كنا نهل ، ثم نقبل على شأننا ، قلت : فبأي ذلك نأخذ ؟ قال : نحرم يوم التروية .

قال : وأخبرنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : إن شاء المكي ألا يحرم بالحج إلا يوم منى ، فعل . قال : وكذلك إن كان أهله دون الميقات ، إن شاء أهل من أهله ، وإن شاء من الحرم .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا إهلال من كان مسكنه دون المواقيت إلى مكة في باب نافع من هذا الكتاب ، والحمد لله .

وفي الموطأ أيضا : مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، أنه كان يقول : غسل الجمعة واجب على كل محتلم ، كغسل الجنابة .

وهذا قد جاء عن رجل لا يحتج به ، عن عبيد الله بن عمر [ ص: 91 ] عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روى عن أبي هريرة ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغسل يوم الجمعة .

وقد أوردنا الآثار في ذلك ، وأوضحنا معانيها في باب ابن شهاب ، عن سالم وفي باب صفوان بن سليم أيضا ذكر من ذلك ، والحمد لله .

وروى مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة أنه نهى أن يتبع بنار ، وهذا مجتمع عليه .

وقد رويت الكراهية في ذلك من حديث ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .



[ ص: 92 ] مالك ، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل حديث واحد

وهو سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي ، قد ذكرنا نسب جده سعد بن عبادة في كتاب الصحابة بما يغني ، عن ذكره هاهنا ، وسعيد هذا ثقة ، عدل فيما نقل . وحديث مالك عنه في الموطأ :

مالك ، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : خرج سعد بن عبادة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه ، فحضرت أمه الوفاة بالمدينة ، فقيل لها : أوص ، فقالت : فيم أوصي ، وإنما المال مال سعد ، فتوفيت قبل أن يقدم سعد ، فلما قدم ، ذكر ذلك له ، فقال سعد : يا رسول الله ، هل ينفعها أن أتصدق عنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فقال : حائط كذا وكذا صدقة عنها ، لحائط سماه .



هكذا قال يحيى : سعيد بن عمرو ، وعلى ذلك أكثر الرواة ، منهم ابن القاسم ، وابن وهب ، وابن كثير ، وأبو المصعب ، وقال فيه القعنبي : سعد بن عمرو .

[ ص: 93 ] وكذلك قال ابن البرقي : سعد بن عمرو بن شرحبيل كما قال القعنبي ، والصواب فيه سعيد بن عمرو ، والله أعلم .

وعلى ذلك أكثر الرواة ، وهذا الحديث مسند ; لأن سعيد بن سعد بن عبادة له صحبة ، قد روى عنه أبو أمامة بن سهل بن حنيف وغيره ، وشرحبيل ابنه غير نكير أن يلقى جده سعد بن عبادة ، على أن حديث سعد بن عبادة هذا في قصة أمه ، قد روي مسندا من وجوه ، ومقطوعا أيضا بألفاظ مختلفة ، وقد ذكرناها في أبواب سلفت من كتابنا هذا ، منها باب ابن شهاب ، عن عبيد الله ، ومنها باب عبد الرحمن بن أبي عمرة ، وقد يشبه أن يكون حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة من رواية مالك وغيره في صدقة الحي عن الميت هو حديث سعد بن عبادة هذا ، والله أعلم .

وأما معنى هذا الحديث ، فمجتمع عليه في جواز صدقة الحي عن الميت لا يختلف العلماء في ذلك ، وأنها مما ينتفع الميت بها ، وكفى بالاجتماع حجة ، وهذا من فضل الله على عباده المؤمنين أن يدركهم بعد موتهم عمل البر والخير بغير سبب منهم ، ولا يلحقهم وزر يعمله غيرهم ، ولا شر إن لم يكن لهم فيه سبب يسببونه ، أو يبتدعونه ، فيعمل به بعدهم .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن أبي عبيد اللؤلؤي البغدادي بمكة ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل ، عن أبيه ، عن جده ، عن سعد بن عبادة أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه ، وحضرت أمه الوفاة ، فقيل لها : أوص ، فقالت : بم أوصي ؟ [ ص: 94 ] إنما المال كله لسعد . قال : فلما قدمت ، أخبرت بذلك ، فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أينفعها أن أتصدق عنها ، قال : نعم وهذا الإسناد عن مالك يدل على الاتصال ، وهو الأغلب منه ، والله أعلم .

وكذلك حديث الدراوردي في ذلك : أخبرنا أحمد بن عبد الله أن أباه أخبره ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقي بن مخلد ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل ، عن سعيد بن سعد بن عبادة ، عن أبيه أن أمه توفيت وهو غائب فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أينفعها أن أتصدق عنها ، قال : نعم .

وقد روي متصلا من حديث أنس ، حدثناه أحمد بن عبد الله بن محمد قال حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي ، قال : حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، قال : حدثنا مروان ، قال : حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : قال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، إن أم سعد كانت تحب الصدقة ، أفينفعها أن أتصدق عنها ، قال : نعم ، وعليك بالماء .

قال : وحدثنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمارة بن غزية ، عن حميد بن أبي الصعبة ، عن سعيد بن سعد بن عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر سعد بن عبادة أن يسقي عنها الماء .

وسئل ابن عباس : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : الماء ، ثم قال : ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله



الخدمات العلمية