الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما أصحاب الملاحم فركبوا ملاحمهم من أشياء .

أحدها : من أخبار الكهان .

والثاني : من أخبار منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بين أهل الكتاب .

والثالث : من أمور أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بها جملة وتفصيلا .

والرابع : من أمور أخبر بها من له كشف من الصحابة ومن بعدهم .

والخامس : من منامات متواطئة على أمر كلي وجزئي . فالجزئي : يذكرونه بعينه ، والكلي : يفصلونه بحدس وقرائن تكون حقا أو تقارب .

والسادس : من استدلال بآثار علوية جعلها الله تعالى علامات وأدلة وأسبابا لحوادث أرضية لا يعلمها أكثر الناس ، فإن الله سبحانه لم يخلق شيئا سدى ولا عبثا . وربط سبحانه العالم العلوي بالسفلي ، وجعل علويه مؤثرا في سفليه دون العكس ، فالشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، وإن كان كسوفهما لسبب شر يحدث في الأرض ؛ ولهذا شرع سبحانه تغيير الشر عند كسوفهما بما يدفع ذلك الشر المتوقع من الصلاة والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار والعتق ، فإن هذه الأشياء تعارض أسباب الشر ، وتقاومها وتدفع موجباتها إن قويت عليها .

وقد جعل الله سبحانه حركة الشمس والقمر ، واختلاف مطالعهما سببا للفصول التي هي سبب الحر والبرد ، والشتاء والصيف ، وما يحدث فيهما مما يليق بكل فصل منها ، فمن له اعتناء بحركاتهما ، واختلاف مطالعهما ، يستدل [ ص: 699 ] بذلك على ما يحدث في النبات والحيوان وغيرهما ، وهذا أمر يعرفه كثير من أهل الفلاحة والزراعة ، ونواتي السفن لهم استدلالات بأحوالهما ، وأحوال الكواكب على أسباب السلامة والعطب من اختلاف الرياح وقوتها وعصوفها ، لا تكاد تختل .

والأطباء لهم استدلالات بأحوال القمر والشمس على اختلاف طبيعة الإنسان وتهيئها لقبول التغير ، واستعدادها لأمور غريبة ونحو ذلك .

وواضعو الملاحم لهم عناية شديدة بهذا ، وأمور متوارثة عن قدماء المنجمين ، ثم يستنتجون من هذا كله قياسات وأحكاما تشبه ما تقدم ونظيره . وسنة الله في خلقه جارية على سنن اقتضته حكمته ، فحكم النظير حكم نظيره ، وحكم الشيء حكم مثله ، وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام القضاء والقدر ، واعتبار بعضه ببعض ، والاستدلال ببعضه على بعض ، كما صرف أئمة الشرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشرع ، واعتبار بعضه ببعض ، والاستدلال ببعضه على بعض ، والله سبحانه له الخلق والأمر ، ومصدر خلقه وأمره عن حكمة لا تختل ولا تتعطل ولا تنتقض ، ومن صرف قوى ذهنه وفكره ، واستنفد ساعات عمره في شيء من أحكام هذا العالم وعلمه ، كان له فيه من النفوذ والمعرفة والاطلاع ما ليس لغيره .

ويكفي الاعتبار بفرع واحد من فروعه ، وهو عبارة الرؤيا ، فإن العبد إذا نفذ فيها ، وكمل اطلاعه جاء بالعجائب . وقد شاهدنا نحن وغيرنا من ذلك أمورا عجيبة ، يحكم فيها المعبر بأحكام متلازمة صادقة سريعة وبطيئة ، ويقول سامعها : هذه علم غيب .

وإنما هي معرفة ما غاب عن غيره بأسباب انفرد هو بعلمها ، وخفيت على غيره والشارع صلوات الله عليه حرم من تعاطي ذلك ما مضرته راجحة على منفعته ، أو ما لا منفعة فيه ، أو ما يخشى على صاحبه أن يجره إلى الشرك ، وحرم بذل المال في ذلك ، وحرم أخذه به ؛ صيانة للأمة عما يفسد عليها الإيمان أو يخدشه ، بخلاف علم عبارة الرؤيا ، فإنه حق لا باطل ؛ لأن الرؤيا [ ص: 700 ] مستندة إلى الوحي المنامي ، وهي جزء من أجزاء النبوة ؛ ولهذا كلما كان الرائي أصدق كانت رؤياه أصدق ، وكلما كان المعبر أصدق ، وأبر وأعلم كان تعبيره أصح ، بخلاف الكاهن والمنجم ، وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين ؛ فإن صناعتهم لا تصح من صادق ولا بار ، ولا متقيد بالشريعة ، بل هم أشبه بالسحرة الذين كلما كان أحدهم أكذب وأفجر ، وأبعد عن الله ورسوله ودينه ، كان السحر معه أقوى وأشد تأثيرا ، بخلاف علم الشرع والحق ، فإن صاحبه كلما كان أبر وأصدق وأدين كان علمه به ونفوذه فيه أقوى ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية