الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فروع تتعلق بهذه المسألة

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الأول : اعلم أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود ، فيستقبله ، ويستلمه ، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة ، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر ، وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ، ثم يبتدئ طوافه مارا بجميع بدنه على جميع الحجر ، جاعلا يساره إلى جهة البيت ، ثم يمشي طائفا بالبيت ، ثم يمر وراء الحجر بكسر الحاء ، ويدور بالبيت . فيمر على الركن اليماني ، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود ، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه ، فتتم له بهذا طوافة واحدة ، ثم [ ص: 389 ] يفعل كذلك ، حتى يتمم سبعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصح أقوال أهل العلم فيما يظهر لنا والله أعلم : أنه لا بد من أن يكون خارجا جميع بدنه ، حال طوافه عن شاذروان الكعبة ; لأنه منها ، وكذلك لا بد أن يكون خارجا جميع بدنه حال طوافه عن جدار الحجر ; لأن أصله من البيت ، ولكن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم ، ولأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين ; لأن أصلهما من وسط البيت ; لأن قريشا لم تبن ما كان عن شمالهما من البيت ، وهو الحجر الذي عليه الجدار ، وأصله من البيت كما بينا ، ومما يدل على ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، عن عائشة رضي الله عنها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : لولا حدثان قومك بالكفر ، لفعلت " . قال عبد الله رضي الله عنه : لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم . وفي رواية عنها في صحيح البخاري قالت : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر ، أمن البيت هو ؟ قال : نعم ، قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : ألم تري قومك قصرت بهم النفقة ، قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت ، وأن ألصق بابه بالأرض " اهـ . والمراد بالجدر بفتح الجيم ، وسكون الدال المهملة هنا : الحجر . وفي رواية عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أيضا قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حداثة قومك بالكفر ، لنقضت البيت ، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام ، فإن قريشا استقصرت بناءه ، وجعلت له خلفا " قال أبو معاوية : حدثنا هشام خلفا يعني : بابا . وفي رواية عنها فيه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : " يا عائشة ، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم ، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ، بابا شرقيا ، وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم " فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه قال يزيد : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه ، وأدخل فيه من الحجر ، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جرير : فقلت له : أين [ ص: 390 ] موضعه ؟ قال : أريكه الآن . فدخلت معه الحجر ، فأشار إلى مكان ، فقال : ههنا ، قال جرير : فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها . انتهى من صحيح البخاري ، وزيد المذكور هو ابن رومان ، وجرير هو ابن حازم ، وهما مذكوران في سند الحديث المذكور . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة . عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا حداثة عهد قومك بالكفر ، لنقضت الكعبة ، ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا " . ا هـ وقال النووي خلفا ؛ أي : بابا من خلفها ، وفي رواية عنها فيه أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " قالت : فقلت : يا رسول الله ، أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت " فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم . وفي رواية عنها فيه أيضا قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ، أو قال : بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها من الحجر " . وفي رواية عنها فيه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين ، بابا شرقيا ، وبابا غربيا وستة فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة " انتهى من صحيح مسلم . وحديثها هذا المتفق عليه الذي ذكرنا بعض رواياته في الصحيحين ، نص صريح فيما ذكرنا وبه تعلم أن قول من زعم من أهل العلم أن من سلك نفس الحجر في طوافه ، ثم رجع إلى بلده ، لزمه دم مع صحة طوافه غير صحيح لما رأيت من أن الحجر من البيت ، وأن الطواف فيه ليس طوافا بالبيت . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية