الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 574 ] القول في تأويل قوله ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ( 83 ) )

قال أبو جعفر يعني بذلك - جل ثناؤه - ولولا إنعام الله عليكم - أيها المؤمنون - بفضله وتوفيقه ورحمته ، فأنقذكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم بأمر : " طاعة " فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي يقول لكنتم مثلهم ، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا كما اتبعه هؤلاء الذين وصف صفتهم .

وخاطب بقوله - تعالى ذكره - : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان : الذين خاطبهم بقوله - جل ثناؤه - ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ) [ سورة النساء : 71 ] .

ثم اختلف أهل التأويل في " القليل " الذين استثناهم في هذه الآية : من هم ؟ ومن أي شيء من الصفات استثناهم ؟

فقال بعضهم : هم المستنبطون من أولي الأمر ، استثناهم من قوله : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ، ونفى عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف .

ذكر من قال ذلك :

10007 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، [ ص: 575 ] عن قتادة قال : إنما هو : لعلمه الذين يستنبطونه منهم " إلا قليلا منهم " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان " .

10008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا : يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما قوله : " إلا قليلا " ، فهو كقوله : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " إلا قليلا .

10009 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قال يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما " إلا قليلا " فهو كقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا .

10010 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج نحوه ، يعني نحو قول قتادة وقال : لعلموه إلا قليلا .

وقال آخرون : بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " طاعة " فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا . ومعنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم .

ذكر من قال ذلك :

10011 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا : فهو في أول الآية لخبر المنافقين قال : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " يعني ب " القليل " المؤمنين ، [ كقوله تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ) [ ص: 576 ] [ سورة الكهف : 221 ] يقول : الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيما ، ولم يجعل له عوجا .

10012 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : هذه الآية مقدمة ومؤخرة ، إنما هي : أذاعوا به إلا قليلا منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير .

وقال آخرون : بل ذلك استثناء من قوله : " لاتبعتم الشيطان " . وقالوا : الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا هموا بما كان الآخرون هموا به من اتباع الشيطان . فعرف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم ، واستثنى الآخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الآخرين .

ذكر من قال ذلك :

10013 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قال : هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان إلا طائفة منهم .

وقال آخرون معنى ذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا . [ ص: 577 ] قالوا : وقوله : " إلا قليلا " خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجميع والإحاطة ، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة ، فجعل قوله : " إلا قليلا " دليلا على الإحاطة ، واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب :


أشم كثير يدي النوال ، قليل المثالب والقادحة



قالوا : فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب ، ومعلوم أن معناه أنه لا مثالب فيه ولا معايب ؛ لأن من وصف رجلا بأن فيه معايب - وإن وصف الذي فيه من المعايب بالقلة - فإنما ذمه ولم يمدحه . ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه . قالوا : فكذلك قوله : " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " إنما معناه : لاتبعتم جميعكم الشيطان .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال : عنى باستثناء " القليل " من " الإذاعة " وقال : معنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ولو ردوه إلى الرسول .

وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب ؛ لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا ، وغير جائز أن يكون من قوله : " لاتبعتم الشيطان " ؛ لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان . [ ص: 578 ]

وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب ، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل ، فنوجهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون معنى ذلك : لاتبعتم الشيطان جميعا ، ثم زعم أن قوله : " إلا قليلا " دليل على الإحاطة بالجميع ، هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل .

وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ؛ لأن علم ذلك إذا رد إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، فبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقته ، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه ، مع استواء جميعهم في علمه .

وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا ، ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل ، فبين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع ، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من " الإذاعة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية