الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

الحكم السادس : خبث كسب الحجام ، ويدخل فيه الفاصد والشارط ، وكل من يكون كسبه من إخراج الدم ، ولا يدخل فيه الطبيب ، ولا الكحال ولا البيطار لا في لفظه ولا في معناه ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه حكم بخبثه وأمر صاحبه أن يعلفه ناضحه أو رقيقه ) وصح عنه أنه ( احتجم وأعطى الحجام أجره ) .

[ ص: 701 ] فأشكل الجمع بين هذين على كثير من الفقهاء ، وظنوا أن النهي عن كسبه منسوخ بإعطائه أجره ، وممن سلك هذا المسلك الطحاوي ، فقال في احتجاجه للكوفيين في إباحة بيع الكلاب ، وأكل أثمانها : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال : ( ما لي وللكلاب ) ، ثم رخص في كلب الصيد ، وكلب الغنم ، وكان بيع الكلاب إذ ذاك والانتفاع به حراما ، وكان قاتله مؤديا للفرض عليه في قتله ، ثم نسخ ذلك ، وأباح الاصطياد به ، فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه ، قال : ومثل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ، وقال : ( كسب الحجام خبيث ) ثم أعطى الحجام أجره ، وكان ذلك ناسخا لمنعه وتحريمه ونهيه . انتهى كلامه .

وأسهل ما في هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليل عليها ، فلا تقبل ، كيف وفي الحديث نفسه ما يبطلها ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال : ( ما بالهم وبال الكلاب ؟ ) ثم رخص لهم في كلب الصيد .

( وقال ابن عمر : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب إلا كلب الصيد ، أو كلب غنم أو ماشية ، وقال عبد الله بن مغفل : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال : ما بالهم وبال الكلاب ؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم )

والحديثان في " الصحيح " فدل على أن الرخصة في كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب ، فالكلب الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتنائه هو الذي حرم ثمنه ، وأخبر أنه خبيث دون الكلب الذي أمر بقتله ، فإن المأمور بقتله غير مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه ، ولم تجر العادة ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه ، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى من حاجتهم إلى بيان ما لم تجر عادتهم ببيعه ، بل قد أمروا بقتله .

[ ص: 702 ] ومما يبين هذا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأربعة التي تبذل فيها الأموال عادة ؛ لحرص النفوس عليها ، وهي ما تأخذه الزانية والكاهن والحجام وبائع الكلب ، فكيف يحمل هذا على كلب لم تجر العادة ببيعه ، وتخرج منه الكلاب التي إنما جرت العادة ببيعها ، هذا من الممتنع البين امتناعه ؟ وإذا تبين هذا ظهر فساد ما شبه به من نسخ خبث أجرة الحجام ، بل دعوى النسخ فيها أبعد .

وأما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره ، فلا يعارض قوله : ( كسب الحجام خبيث ) ؛ فإنه لم يقل : إن إعطاءه خبيث ، بل إعطاؤه إما واجب ، وإما مستحب ، وإما جائز ، ولكن هو خبيث بالنسبة إلى الآخذ ، وخبثه بالنسبة إلى أكله ، فهو خبيث الكسب ، ولم يلزم من ذلك تحريمه ؛ فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما ، ولا يلزم من إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجام أجره حل أكله فضلا عن كون أكله طيبا ؛ فإنه قال : ( إني لأعطي الرجل العطية يخرج بها يتأبطها نارا ) ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعطي المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة والفيء مع غناهم ، وعدم حاجتهم إليه ؛ ليبذلوا من الإسلام والطاعة ما يجب عليهم بذله بدون العطاء ، ولا يحل لهم توقف بذله على الأخذ ، بل يجب عليهم المبادرة إلى بذله بلا عوض .

وهذا أصل معروف من أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكون جائزا ، أو مستحبا ، أو واجبا من أحد الطرفين ، مكروها أو محرما من الطرف الآخر ، فيجب على الباذل أن يبذل ، ويحرم على الآخذ أن يأخذه .

وبالجملة فخبث أجر الحجام من جنس خبث أكل الثوم والبصل ، لكن هذا خبيث الرائحة ، وهذا خبيث لكسبه .

فإن قيل : فما أطيب المكاسب وأحلها ؟ قيل : هذا فيه ثلاثة أقوال للفقهاء .

أحدها : أنه كسب التجارة .

[ ص: 703 ] والثاني : أنه عمل اليد في غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوها .

والثالث : أنه الزراعة ، ولكل قول من هذه وجه من الترجيح أثرا ونظرا ، والراجح أن أحلها الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كسب الغانمين وما أبيح لهم على لسان الشارع ، وهذا الكسب قد جاء في القرآن مدحه أكثر من غيره ، وأثني على أهله ما لم يثن على غيرهم ؛ ولهذا اختاره الله لخير خلقه ، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقول : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) ، وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله ، وجعل أحب شيء إلى الله ، فلا يقاومه كسب غيره . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية