الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك قال ابن الزاغوني، وهو من القائلين بوجوب النظر [ ص: 444 ] والاستدلال، وحكى ذلك عن عامة العلماء، كما ذكره القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهم.

قال: (والذي فرضه الله على الأعيان على ضربين: أحدهما: ما لا يتم الإيمان إلا به، وهو معرفة الله وتوحيده، وأنه صانع الأشياء، وأن الكل عبيده، وأمثال ذلك. فهذا يستوي في لزومه العالم والعامي، ونعني بقولنا: العالم، الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة، وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة، وانتصب دافعا بالحق شبه أهل الاعتراض، على وجه يترجح به الثقة، ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة. ونعني بالعامي من فصل عن أرباب الاختصاص في إحراز العلم وكثرة التبحر، وإنما سمي عاميا من جهة قلة العدد في خواص العلماء، بالإضافة إلى من بقي، فخواص العلماء في كل زمان آحاد يسير عددهم، والناس غيرهم أعم وجودا، وأكثر عددا. فلهذا سمي من قل علمه عاميا ومن جملة العامة. ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال.

فإذا ثبت هذا، فسائر العامة مؤمنون عارفون بالله في عقائدهم وديانتهم، غير مقلدين في شيء قدمنا ذكره).

قال: (وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء، فأما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله) . [ ص: 445 ]

قال: (والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول: حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس، وسكون القلب إلى معرفة ما يعتقد، بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له. وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة. وبيان ذلك: أنه لو قيل لأحد من العوام: بم عرفت ربك؟ لقال: بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها، فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر. وهذا مأخوذ من قوله تعالى: وإلى السماء كيف رفعت [سورة الغاشية: 18]، ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها. وهذه الآيات هي الأصل عند العلماء، وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببسيط البيان المليح، والتشقيق، والغامض الدقيق. وفي بيان حكم يدركها العامي فهما بجنانه، ويقصر عن شرحها بلسانه، فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة، وأحدهما في الكشف أبسط باعا، وأفصح شرحا. وهذا يرجع إلى شيء، وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته، وضمن فيما كلف أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع، بقوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [سورة البقرة: 286] وقوله: لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها [سورة الطلاق: 7]، فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به، ولا يوصل إلى ذلك في [ ص: 446 ] حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله، فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي، لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه، وهذا خلاف ما نص الله عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية