الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2127 [ ص: 262 ] باب في الإهلال بالحج من مكة

                                                                                                                              وقال النووي : ( باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج، والتمتع، والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة. ومتى يحل القارن من نسكه؟).

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 158 - 159 ج 8 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد. وأقبلت عائشة (رضي الله عنها) بعمرة. حتى إذا كنا بسرف عركت. حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة، والصفا والمروة. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يحل منا من لم يكن معه هدي.

                                                                                                                              قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: "الحل كله".

                                                                                                                              فواقعنا النساء. وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا. وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال. ثم أهللنا يوم التروية. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة (رضي الله عنها) فوجدها تبكي. فقال: "ما شأنك؟" قالت: شأني: أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل ولم أطف بالبيت. والناس يذهبون إلى الحج الآن.

                                                                                                                              فقال: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم. فاغتسلي، ثم أهلي [ ص: 263 ] بالحج". ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة.

                                                                                                                              ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا". فقالت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي: أني لم أطف بالبيت حتى حججت. قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن! فأعمرها من التنعيم". وذلك ليلة الحصبة
                                                                                                                              ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي الله عنها بعمرة، حتى إذا كنا بسرف ) بفتح السين المهملة وكسر الراء. وهو ما بين مكة والمدينة ، بقرب مكة . على أميال منها. قيل: ستة. وقيل: سبعة. وقيل: تسعة. وقيل: عشرة. وقيل: اثنا عشر ميلا.

                                                                                                                              (عركت) عائشة . بفتح العين والراء. أي: حاضت. يقال: عركت تعرك عروكا. كقعدت تقعد قعودا.

                                                                                                                              قال النووي : يقال: حاضت المرأة. وتحيضت. وطمثت. وعركت. ونفست. وضحكت. وأعصرت. وأكبرت. كله بمعنى واحد.

                                                                                                                              [ ص: 264 ] والاسم منه: الحيض. والطمث. والعراك. والضحك. والإكبار. والإعصار. وهي حائض. وحائضة في (لغة غريبة) حكاها الفراء . وطامث. وعارك. ومكبر. ومعصر.

                                                                                                                              (حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة ، والصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أن يحل منا من لم يكن معه هدي) . بإسكان الدال وتخفيف الياء. وبكسر الدال وتشديد الياء. لغتان مشهورتان. الأولى أفصح وأشهر.

                                                                                                                              وهو اسم لما يهدى إلى ( الحرم ) ، من الأنعام.

                                                                                                                              وسوق الهدي سنة، لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة.

                                                                                                                              (قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: "الحل كله، قال: فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال. ثم أهللنا يوم التروية) . وهو اليوم الثامن من ذي الحجة. وسبق بيانه.

                                                                                                                              "وفيه": أن من كان بمكة ، وأراد الإحرام بالحج. استحب له: أن يحرم يوم التروية. ولا يقدمه عليه . وبه قال الشافعي وموافقوه.

                                                                                                                              (ثم دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها ، فوجدها تبكي. فقال: "ما شأنك؟" قالت: شأني: أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت. والناس يذهبون إلى الحج الآن. فقال: [ ص: 265 ] "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ") . هذا تسلية لها.

                                                                                                                              والمعنى: أنك لست مختصة به. بل كل بنات آدم ، يكون منهن هذا. كما يكون منهن ومن الرجال: البول والغائط وغيرهما.

                                                                                                                              واستدل البخاري في صحيحه، (في كتاب الحيض) ، بعموم هذا الحديث: على أن (الحيض) كان في جميع بنات آدم . وأنكر به على من قال: إن الحيض، أول ما أرسل ووقع في بني إسرائيل.

                                                                                                                              (فاغتسلي. ثم أهلي بالحج) .

                                                                                                                              هذا الغسل، هو الغسل للإحرام . وأنه يستحب لكل من أراد الإحرام بحج أو عمرة. سواء: الحائض وغيرها.

                                                                                                                              (ففعلت. ووقفت المواقف. حتى إذا طهرت) بفتح الطاء وضمها. والفتح أفصح.

                                                                                                                              (طافت بالكعبة ، والصفا والمروة . ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا") .

                                                                                                                              يستنبط منه (ثلاث) مسائل حسنة؛إحداها: أن " عائشة ، كانت قارنة، ولم تبطل عمرتها. وأن رفض العمرة كما في حديث آخر: "ارفضي عمرتك" : متأول.

                                                                                                                              [ ص: 266 ] الثانية: أن "القارن" يكفيه طواف واحد، وسعي واحد . وهو مذهب الشافعي والجمهور.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة وطائفة: يلزمه طوافان. وسعيان. وهذا الحديث وما ورد في معناه يرد عليه، ويرجح مذهب الجمهور.

                                                                                                                              الثالثة: أن السعي بين الصفا والمروة، يشترط وقوعه بعد طواف صحيح .

                                                                                                                              وموضع الدلالة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أمرها: أن تصنع ما يصنع الحاج؛ غير الطواف بالبيت. ولم تسع. كما لم تطف.

                                                                                                                              فلو لم يكن السعي، متوقفا على تقدم الطواف عليه، لما أخرته.

                                                                                                                              وطهر عائشة هذا، كان يوم السبت. وهو يوم النحر، (في حجة الوداع).

                                                                                                                              وكان ابتداء حيضها هذا، يوم السبت أيضا. لثلاث خلون من ذي الحجة، سنة عشر.

                                                                                                                              ذكره أبو محمد بن حزم ، في كتاب (حجة الوداع). حكاه النووي .

                                                                                                                              (فقالت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي: أني لم أطف بالبيت حتى حججت) .

                                                                                                                              وإنما حرصت على ذلك، لتكثر أفعالها. وأرادت أن تكون لها: عمرة مفردة عن الحج. كما حصل لسائر أمهات المؤمنين، وغيرهن [ ص: 267 ] من الصحابة، الذين فسخوا الحج إلى العمرة، وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية. ثم أحرموا بالحج من مكة ، يوم التروية. فحصل لهم عمرة منفردة، وحجة منفردة.

                                                                                                                              وأما عائشة ، فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة القران.

                                                                                                                              (قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن! فأعمرها من التنعيم ") .

                                                                                                                              "فيه": دليل على أن من كان بمكة ، وأراد العمرة، فميقاته لها: (أدنى الحل). ولا يجوز أن يحرم بها من الحرم .

                                                                                                                              فإن خالف، وأحرم بها من ( الحرم ) ، وخرج إلى الحل قبل الطواف: أجزأه، ولا دم عليه.

                                                                                                                              وإن لم يخرج، وطاف وسعى وحلق. ففيه قولان: أصحهما: تصح عمرته، وعليه دم لتركه الميقات.

                                                                                                                              قال أهل العلم: وإنما وجب الخروج إلى الحل، ليجمع في نسكه بين الحل والحرم. كما أن الحاج يجمع بينهما؛ فإنه يقف بعرفات . وهي في الحل. ثم يدخل مكة للطواف وغيره.

                                                                                                                              هذا تفصيل مذهب الشافعي . وهكذا قال جمهور العلماء: أنه يجب الخروج لإحرام العمرة: إلى أدنى الحل . وأنه لو أحرم بها في الحرم ، ولم يخرج: لزمه دم.

                                                                                                                              وقال عطاء : لا شيء عليه.

                                                                                                                              [ ص: 268 ] وقال مالك : لا يجزئه (حتى) يخرج إلى الحل.

                                                                                                                              قال عياض : قال مالك : ولا بد من إحرامه من التنعيم خاصة. قالوا: وهو ميقات المعتمرين من مكة .

                                                                                                                              قال النووي : وهذا شاذ مردود. والذي عليه الجماهير: أن جميع جهات الحل سواء. ولا تختص بالتنعيم . انتهى.

                                                                                                                              وأقول: ذهب شيخ الإسلام (ابن تيمية) ، وتلميذه الحافظ (ابن القيم) : إلى أن يحرم المعتمر للعمرة من ( مكة ). ولا يخرج إلى الحل. لعدم ورود دليل صريح يدل على ذلك. وكان خروج عائشة إلى ( التنعيم ): تطييبا لنفسها، لا تشريعا.

                                                                                                                              وفي المسألة أبحاث، ودلائل.

                                                                                                                              وجنح العلامة ( الشوكاني ): إلى مذهب الجمهور. ولكل وجهة هو موليها.

                                                                                                                              (وذلك ليلة الحصبة) بفتح الحاء وإسكان الصاد. وهي التي بعد أيام التشريق.

                                                                                                                              وسميت بذلك: لأنهم نفروا من ( منى ) ، فنزلوا في ( المحصب ) وباتوا به.




                                                                                                                              الخدمات العلمية