الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        وأما أربعة أخماس الفيء ، ففي مصرفها ثلاثة أقوال ، أظهرها : أنها للمرتزقة المرصدين للجهاد . والثاني : للمصالح . والثالث : أنها تقسم كما يقسم الخمس ، فيقسم جميع الفيء على الخمسة الذين ذكرناهم ، وهذا غريب . فعلى الثاني : نبدأ بالأهم [ ص: 359 ] فالأهم . وأهمها تعهد المرتزقة . وكذا حكم خمس الخمس . فالقولان الأولان متفقان على أن المصرف المرتزقة ، وإنما يختلفان فيما فضل عنهم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        وللإمام في القسمة على المرتزقة وظائف :

                                                                                                                                                                        إحداها : يضع ديوانا . قال في الشامل : وهو الدفتر الذي يثبت فيه الأسماء . فيحصي المرتزقة بأسمائهم ، وينصب لكل قبيلة أو عدد يراه عريفا ليعرض عليه أحوالهم ، ويجمعهم عند الحاجة ويثبت [ فيه ] قدر أرزاقهم .

                                                                                                                                                                        قلت : نصب العريف مستحب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية : يعطي كل شخص قدر حاجته ، فيعرف حاله وعدد من في نفقته وقدر نفقتهم وكسوتهم وسائر مؤنتهم ، ويراعي الزمان والمكان ، وما يعرض من رخص وغلاء ، وحال الشخص في مروءته وضدها ، وعادة البلد في المطاعم ، فيكفيه المئونات ليتفرغ للجهاد ، فيعطيه لأولاده الذين هم في نفقته أطفالا كانوا أو كبارا ، وكلما زادت الحاجة بالكبر ، زاد في حصته . وهل يدفع إليه ما يتعهد منه الأولاد ؟ أم يتولى الإمام تعهدهم بنفسه ؟ أو بنائب له ؟ فيه قولان . أظهرهما : الأول . وحكى الحناطي وأبو الفرج الزاز وجها أنه لا يعطي الأولاد شيئا ؛ لأنهم لا يقاتلون ، وهذا شاذ ضعيف وإذا كان له عبد يقتنيه للزينة أو للتجارة ، لم يعط له . وإن كان يقاتل معه أو يحتاج إليه في الغزو لسياسة الدواب ونحوها ، أعطي له ، وكذا لو كان عبد يخدمه وهو ممن يخدم ، بل لو لم يكن [ له ] عبد واحتاج إليه ، أعطاه الإمام عبدا ، ولا يعطي إلا لعبد واحد . وفي الزوجات ، يعطي للجماعة . [ ص: 360 ] وإذا نكح جديدة ، زاد في العطاء ؛ لأن نهايتهن أربع ، والعبيد لا حصر لهم ، وكأن هذا في عبيد الخدمة . فأما الذين يتعلق بهم مصلحة الجهاد ، فينبغي أن يعطي لهم وإن كثروا .

                                                                                                                                                                        قلت : كذا هو منقول ، وإنما يقتصر في عبيد الخدمة على واحد إذا حصلت به الكفاية . فأما من لا تحصل كفايته إلا بخدمة عبيد ، فيعطي لمن يحتاج إليه ، ويختلف باختلاف الأشخاص . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        والوجه الشاذ في الأولاد يجري في الزوجات والعبيد .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يعطى المرتزق مؤنة فرسه ، بل يعطى الفرس إذا كان يقاتل فارسا ولا فرس له ، ولا يعطى للدواب التي يتخذها زينة ونحوها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يعطى كل منهم بقدر حاجتهم ، ولا يفضل أحد منهم بشرف نسب أو سبق في الإسلام أو الهجرة وسائر الخصال المرضية ، بل يستوون كالإرث والغنيمة . وفي وجه : يفضل إذا اتسع المال .

                                                                                                                                                                        الثالثة : يستحب أن يقدم في الإعطاء وفي إثبات الاسم في الديوان قريشا على سائر الناس ، وهم ولد النضر بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ، بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان . قال الأستاذ أبو منصور : هذا قول أكثر النسابين ، [ ص: 361 ] وبه قال الشافعي وأصحابه ، وهو أصح ما قيل . وقيل : هم ولد إلياس . وقيل : ولد مضر . وقيل : ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .

                                                                                                                                                                        ثم يقدم من قريش الأقرب فالأقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو : محمد ، بن عبد الله ، بن عبد المطلب بن هاشم ، بن عبد مناف ، بن قصي ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ، بن فهر ، بن مالك ، بن النضر ، بن كنانة ، فيقدم بني هاشم ، وبني المطلب على سائر قريش ، ثم بني عبد شمس وبني نوفل أخوي هاشم ، ويقدم منهما بني عبد شمس ؛ لأنه أخو هاشم لأبويه ، ونوفل أخوه لأبيه ، ثم بني عبد العزى وبني عبد الدار ابني قصي يقدم منهما بني عبد العزى ؛ لأنهم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن خديجة - رضي الله عنها - بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ، ثم بني زهرة بن كلاب أخي قصي ، ثم بني تيم وبني مخزوم أخوي كلاب ، ويقدم منهما بني تيم ، لمكان أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وعائشة - رضي الله عنها - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بني جمح وبني سهم ، وهما [ من ] ولد هصيص بن كعب ، وبني عدي بن كعب - وهصيص وعدي أخوا مرة بن كعب - وقدم عمر - رضي الله عنه - من هؤلاء القبائل الثلاث بني جمح ، وسوى بين بني سهم وبني عدي ، كما يسوى بين بني هاشم وبني المطلب .

                                                                                                                                                                        قال الشافعي - رحمه الله - : وقدم المهدي أمير المؤمنين في زمانه بني عدي على بني جمح وبني سهم ؛ لمكان عمر - رضي الله عنه - ، والذي فعله عمر - رضي الله عنه - كان تواضعا منه .

                                                                                                                                                                        ثم يقدم بني عامر بن لؤي ، ثم بني الحارث بن فهر . فإذا فرغ من قريش ، بدأ بالأنصار ، ثم يعطي سائر العرب . هكذا رتب الأصحاب ، وهو ظاهر نص الشافعي - رحمه الله - . وفي ( ( أمالي ) ) السرخسي : أن هذا محمول على الذين هم أبعد من الأنصار ، فأما سائر العرب الذين هم أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار ، فيقدمون عليهم . ومتى استوى اثنان في القرب ، قدم أسنهما ، فإن استويا في السن ، فأقدمهما إسلاما وهجرة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 362 ] قلت : قد عكس أقضى القضاة الماوردي هذا ، فقال في الأحكام السلطانية : يقدم بالسابقة في الإسلام . فإن تقاربا فيه ، قدم بالدين . فإن تقاربا فيه ، قدم بالسن ، فإن تقاربا ، قدم بالشجاعة . فإن تقاربا فيه ، فولي الأمر بالخيار بين أن يرتبهم بالقرعة ، أو برأيه واجتهاده ، وهذا الذي قاله هو المختار . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ثم بعد العرب ، يعطي العجم . وفي ( ( المهذب ) ) و ( ( التهذيب ) ) : أن التقديم فيهم بالسن والفضائل ، ولا يقدم بعضهم على بعض بالنسب ، وفيه كلامان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن العجم قد يعرف نسبهم ، فينبغي أن يعتبر فيمن عرف نسبه القرب والبعد أيضا .

                                                                                                                                                                        الثاني : أنا قدمنا في صفة الأئمة في الصلاة عن إمام الحرمين : أن الظاهر رعاية كل نسب يعتبر في الكفاءة في النكاح ، وسنذكر إن شاء الله تعالى ، أن نسب العجم مرعي في الكفاءة على خلاف فيه ، فليكن كذلك هنا .

                                                                                                                                                                        قلت : قد أشار الماوردي إلى اعتبار نسب العجم فقال : إن كانوا عجما لا يجتمعون على نسب ، جمعهم بالأجناس ، كالترك ، والهند ، وبالبلدان . ثم إن كانت لهم سابقة في الإسلام ، ترتبوا عليها ، وإلا ، فبالأقرب من ولي الأمر . فإن تساووا ، فبالسبق إلى طاعته . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        قال الأئمة : وجميع الترتيب المذكور في هذه الوظيفة ، مستحب لا مستحق . الرابعة : لا يثبت في الديوان اسم صبي ، ولا مجنون ، ولا امرأة ، ولا عبد ، ولا ضعيف لا يصلح للغزو ، كالأعمى ، والزمن ، وإنما هم تبع للمقاتل إذا كانوا في عياله ، يعطي لهم كما سبق ، وإنما يثبت في الديوان الرجال المكلفين المستعدين للغزو ، وإذا طرأ على المقاتل مرض أو جنون ، فإن رجي زواله ، أعطي ولم يسقط اسمه ، [ ص: 363 ] وإلا أسقط اسمه . وفي إعطائه الخلاف الآتي في زوجة المقاتل بعد موته ، وأولى بالإعطاء .

                                                                                                                                                                        قلت : ترك من شروط من يثبته في الديوان الإسلام ، وذكر الماوردي في الأحكام السلطانية شرطا آخر ، وهو أن يكون فيه إقدام على القتال ومعرفة به . فإن اختل ذلك ، لم يجز إثباته ؛ لعجزه عما هو مرصد له . قال : ولا يجوز إثبات الأقطع ، ويجوز إثبات الأعرج إن كان فارسا . وإن كان راجلا ، فلا . ويجوز إثبات الأخرس والأصم . قال : وإذا كتبه في الديوان ، فإن كان مشهور الاسم ، لم يحسن تحليته . وإن كان مغمورا وصف وحلي ، فيذكر سنه وقده ولونه وحلي وجهه ، بحيث يتميز عن غيره . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من مات من المرتزقة ، هل ينقطع رزق زوجته وأولاده لزوال المتبوع ؟ أم يستمر ترغيبا للمجاهدين ؟ قولان . وقيل : وجهان . أظهرهما : الثاني . فعلى هذا ، ترزق الزوجة إلى أن تتزوج ، والأولاد إلى أن يبلغوا ويستقلوا بالكسب ، أو يرغبوا في الجهاد فيثبت اسمهم في الديوان . ومن بلغ منهم وهو أعمى أو زمن ، رزق على هذا القول كما كان يرزق قبل البلوغ ، هذا في ذكور الأولاد . وأما الإناث ، فمقتضى كلامه في الوسيط أنهن يرزقن إلى أن يتزوجن .

                                                                                                                                                                        الخامسة : يفرق الأرزاق في كل عام مرة ، ويجعل له وقتا معلوما لا يختلف . وإذا رأى مصلحة أن يفرق مشاهرة ونحوها ، فعل . وإذا اقتصر في السنة على مرة ، فيشبه أن يقال : يجتهد ، فما اقتضته الحال وتمكن فيه من الإعطاء [ ص: 364 ] في أول السنة أو آخرها ، فعله ، وعلى هذا ينزل قوله في ( ( الوجيز ) ) : يفرق في أول كل سنة ، وقول الآخرين : يفرق في آخر كل سنة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا مات واحد من المرتزقة بعد جمع المال وانقضاء الحول ، صرف نصيبه إلى ورثته ولا يسقط هذا الحق بالإعراض عنه على الظاهر ، كذا قاله الإمام . وإن مات بعد جمع المال وقبل تمام الحول ، فقولان . ويقال : وجهان . أظهرهما : يصرف قسط ما مضى إلى ورثته كالأجرة . والثاني : لا شيء لهم ، كالجعل في الجعالة ، لا يستحق قبل تمام العمل .

                                                                                                                                                                        وإن مات قبل جمع المال وبعد الحول ، فظاهر النص : أنه لا شيء للورثة ، وبه قال القاضي أبو الطيب وآخرون ، وبه قطع البغوي . وقال الشيخ أبو حامد : يصرف نصيبه مما سيحصل إلى ورثته . وإن مات قبل جمع المال وقبل انقضاء الحول ، فإن قلنا : إذا مات بعد الحول لا يستحق ، فهنا أولى ، وإلا ، ففي قسط ما مضى الخلاف فيما إذا مات قبل الحول وبعد جمع المال . هذا كله إذا كان العطاء مرة في السنة . فإن رأى الإعطاء في السنة مرتين فصاعدا ، فالاعتبار بمضي المدة المضروبة .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        جميع ما ذكرناه في المنقولات من أموال الفيء . فأما الدور والأرض ، فقد قال الشافعي - رضي الله عنه - : هي وقف للمسلمين تستغل وتقسم غلتها في كل عام كذلك أبدا . هذا نصه . فأما أربعة أخماس الفيء ، فمن الأصحاب من يقول : الحكم بأنها وقف على أنها للمصالح ، فأما إن جعلناها للمرتزقة ، فتقسم بينهم كالمنقولات [ ص: 365 ] وكالغنيمة . والأصح جريان هذا الحكم ، سواء قلنا : للمصالح أو للمرتزقة ، لتبقى الرقبة مؤبدة ، وينتفع بغلتها المستحق كل عام ، بخلاف المنقولات ، فإنها معرضة للهلاك ، والغنيمة بعيدة عن نظر الإمام واجتهاده ، لتأكد حق الغانمين . فإذا قلنا بالوقف ، فوجهان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : المراد به التوقف عن قسمة الرقبة ، دون الوقف الشرعي . وأصحهما : أن المراد الوقف الشرعي للمصلحة . فعلى هذا ، وجهان . أحدهما : يصير وقفا بنفس الحصول ، كما يرق النساء والصبيان بالأسر . وأصحهما : لا ، لكن الإمام يقفها . وإن رأى قسمتها أو بيعها وقسمة ثمنها ، فله ذلك .

                                                                                                                                                                        وقول الشافعي - رحمه الله - : هي وقف ، أي : تجعل وقفا . وأما خمسه ، فسهم المصالح لا سبيل إلى قسمته ، بل يوقف وتصرف غلته في المصالح ، أو يباع ويصرف ثمنه إليها ، والوقف أولى ويجيء الوجه السابق ، أنه يصير وقفا بنفس الحصول . وسهم ذوي القربى فيه الخلاف المذكور في الأخماس الأربعة ، تفريعا على أنها للمرتزقة . وسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل يرتب على سهم ذوي القربى . إن قلنا : إنه وقف ، فهنا أولى ، ولأن ذوي القربى متعينون ، وإلا ، فالأصح أنه وقف . وقيل : لا .

                                                                                                                                                                        وإذا تأملت هذه الاختلافات في الأخماس الأربعة ، ثم في الخمس ، علمت أن المذهب ؛ أن الجميع وقف ، وهو الموافق لنص الشافعي - رضي الله عنه - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية