الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والصحيح تحريمه مطلقا وفساد العقد به على كل حال ، ويحرم على الآخر أخذ أجرة ضرابه ، ولا يحرم على المعطي ؛ لأنه بذل ماله في تحصيل مباح يحتاج إليه ، ولا يمنع من هذا كما في كسب الحجام ، وأجرة الكساح ، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عما يعتادونه من استئجار الفحل للضراب ، وسمى ذلك بيع عسبه ، فلا يجوز حمل كلامه على غير الواقع والمعتاد وإخلاء الواقع من البيان مع أنه الذي قصد بالنهي ، ومن المعلوم أنه ليس للمستأجر غرض صحيح في نزو الفحل على الأنثى الذي له دفعات معلومة ، وإنما غرضه نتيجة ذلك وثمرته ، ولأجله بذل ماله . وقد علل التحريم بعدة علل .

[ ص: 705 ] إحداها : أنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه ، فأشبه إجارة الآبق ، فإن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته .

الثانية : أن المقصود هو الماء وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد ، فإنه مجهول القدر والعين وهذا بخلاف إجارة الظئر ، فإنها احتملت بمصلحة الآدمي ، فلا يقاس عليها غيرها ، وقد يقال - والله أعلم - إن النهي عن ذلك من محاسن الشريعة وكمالها ، فإن مقابلة ماء الفحل بالأثمان ، وجعله محلا لعقود المعاوضات مما هو مستقبح ومستهجن عند العقلاء ، وفاعل ذلك عندهم ساقط من أعينهم في أنفسهم ، وقد جعل الله سبحانه فطر عباده لا سيما المسلمين ميزانا للحسن والقبيح ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحا ، فهو عند الله قبيح .

ويزيد هذا بيانا أن ماء الفحل لا قيمة له ، ولا هو مما يعاوض عليه ، ولهذا لو نزا فحل الرجل على رمكة غيره ، فأولدها ، فالولد لصاحب الرمكة اتفاقا ؛ لأنه لم ينفصل عن الفحل إلا مجرد الماء وهو لا قيمة له ، فحرمت هذه الشريعة الكاملة المعاوضة على ضرابه ليتناوله الناس بينهم مجانا ، لما فيه من تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل ، ولا نقصان من ماله ، فمن محاسن الشريعة إيجاب بذل هذا مجانا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من حقها إطراق فحلها وإعارة دلوها ) فهذه حقوق يضر بالناس منعها إلا بالمعاوضة ، فأوجبت الشريعة بذلها مجانا .

فإن قيل : فإذا أهدى صاحب الأنثى إلى صاحب الفحل هدية ، أو ساق إليه كرامة فهل له أخذها ؟ قيل : إن كان ذلك على وجه المعاوضة والاشتراط في [ ص: 706 ] الباطن لم يحل له أخذه ، وإن لم يكن كذلك فلا بأس به ، قال أصحاب أحمد والشافعي : وإن أعطى صاحب الفحل هدية ، أو كرامة من غير إجارة جاز ، واحتج أصحابنا بحديث روي عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا كان إكراما فلا بأس ) ، ذكره صاحب " المغني " ولا أعرف حال هذا الحديث ، ولا من خرجه ، وقد نص أحمد في رواية ابن القاسم على خلافه ، فقيل له : ألا يكون مثل الحجام يعطى ، وإن كان منهيا عنه ؟ فقال : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى في مثل هذا شيئا كما بلغنا في الحجام .

واختلف أصحابنا في حمل كلام أحمد رحمه الله على ظاهره ، أو تأويله ، فحمله القاضي على ظاهره ، وقال : هذا مقتضى النظر ، لكن ترك مقتضاه في الحجام ، فبقي فيما عداه على مقتضى القياس . وقال أبو محمد في " المغني " : كلام أحمد يحمل على الورع لا على التحريم ، والجواز أرفق بالناس ، وأوفق للقياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية