الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) ( ومن طاف طواف القدوم محدثا فعليه صدقة ) وقال الشافعي رحمه الله : [ ص: 50 ] لا يعتد به لقوله صلى الله عليه وسلم { الطواف بالبيت صلاة } إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق فتكون الطهارة من شرطه . ولنا قوله تعالى { وليطوفوا بالبيت العتيق } من غير قيد الطهارة فلم تكن فرضا ، ثم قيل : هي سنة ، والأصح أنها واجبة لأنه يجب بتركها الجابر ; ولأن الخبر يوجب العمل فيثبت به الوجوب ، فإذا شرع في هذا الطواف وهو سنة ، يصير واجبا بالشروع ويدخله نقص بترك الطهارة فيجبر بالصدقة إظهارا لدنو رتبته عن الواجب بإيجاب الله ، وهو طواف الزيارة ، وكذا الحكم في كل طواف هو تطوع .

التالي السابق


( فصل ) ( قوله ومن طاف طواف القدوم محدثا فعليه صدقة ) موافق لما في عامة النسخ وصرح به عن محمد ، ومخالف [ ص: 50 ] لما في مبسوط شيخ الإسلام قال : ليس لطواف التحية محدثا ولا جنبا شيء ، لأنه لو تركه لم يكن عليه شيء فكذا تركه من وجه . والوجهان اللذان أبطل بهما المصنف كون الطهارة سنة : أعني قوله ; لأنه يجب بتركها الجابر ، ولأن الخبر يوجب العمل كافلان بإبطاله ، ولما استشعر أن يقال على الأول لزوم الجابر مطلقا ممنوع ، وهو أول المسألة فإنا ننفيه في غير الطواف الواجب ، دفعه بتقرير أن كل ترك لا يخلو من كونه في واجب ، فإن التطوع إذا شرع فيه صار واجبا بالشروع ثم يدخله النقص بترك الطهارة فيه . غاية الأمر أن وجوبه ليس بإيجابه تعالى ابتداء فأظهرنا التفاوت في الحط من الدم إلى الصدقة فيما إذا طاف محدثا ، ومن البدنة إلى الشاة إذا طاف جنبا .

( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { الطواف بالبيت صلاة } ) روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم لا يتكلم إلا بخير } . وجه الاستدلال أنه تشبيه في الحكم بدليل الاستثناء من الحكم في قوله { إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم } ، فكأنه قال هو مثل الصلاة في حكمها إلا في جواز الكلام فيصير ما سوى الكلام داخلا في الصدر ومنه اشتراط الطهارة . واستدل ابن الجوزي [ ص: 51 ] بما في الصحيحين { عن عائشة رضي الله عنها أنها حاضت فقال لها عليه الصلاة والسلام : اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } فرتب منع الطواف على انتفاء الطهارة ، وهذا حكم وسبب ، وظاهر أن الحكم يتعلق بالسبب فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول المسجد للحائض . ولنا في الجواب عن الأول طريقان : أحدهما ينتظم الجواب عن هذا ، وهو تسليم أنه تشبيه في الحكم لكنه خبر واحد لو لم يلزم نسخه لإطلاق كتاب الله تعالى لثبت به الوجوب لا الافتراض لاستلزامه الإكفار بجحد مقتضاه ، وليس ذلك لازم مقتضاه بل لازمه التفسيق به ، فكيف ولو ثبت به افتراض الطهارة كان ناسخا له ، إذ قوله تعالى { وليطوفوا } يقتضي الخروج عن عهدته بالدوران حول البيت مع الطهارة وعدمها .

فجعله لا يخرج مع عدمها نسخ لإطلاقه ، وهو لا يجوز فرتبنا عليه موجبه من إثبات وجوب الطهارة حتى أثمنا بتركها وألزمنا الجابر ، وليس مقتضى خبر الواحد غير هذا لا الاشتراط المفضي إلى نسخ إطلاق كتاب الله تعالى . ويؤيد انتفاء الاشتراط ما ذكره الشيخ تقي الدين في الإمام . روى سعيد بن منصور : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء قال : حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين فأتمت بها عائشة سنة طوافها . وقال روى أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة قال : سألت حمادا ومنصورا عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة فلم يروا به بأسا . وقد انتظم ما ذكرناه الجواب عما أورده ابن الجوزي . ثانيهما منع ذلك التقرير ، ونقول : بل التشبيه في الثواب لا في الأحكام . وقوله { إلا أنكم تتكلمون فيه } كلام منقطع مستأنف بيان لإباحة الكلام فيه وجب المصير إلى هذا ; لأنه لو كان كما قالوا لكان المشي ممتنعا لدخوله في الصدر ، وكأن الشيخ رحمه الله استشعر فيه منعا وهو أن يقال : المشي قد علم إخراجه قبل التشبيه فإن الطواف نفس المشي ، فحيث قال صلاة فقد قال المشي الخاص كالصلاة فيكون وجه التشبيه ما سوى المشي فلذا اقتصر على الأول لكن يبقى الانحراف مؤيدا للوجه الثاني . فإن قيل : الأصح هو الأول ; لأن الوجوب ثابت عندنا ولا بد له من دليل ، وحمله على الوجه الثاني ينفيه ، وما أورده ابن الجوزي ظاهر فيه ، والحديث المذكور يحتمله على الوجه الأول فوجب المصير إليه ، ويخص الانحراف أيضا بإجماع المسلمين وباتفاق رواة { مناسكه عليه الصلاة والسلام أنه جعل البيت عن يساره حين طاف } ، ولاعتباره وجب ستر العورة في الطواف ، فلو طاف مكشوف العورة لزم الدم إن لم يعده .

فالجواب لو كان الأول هو المعتبر لكان مقتضاه وجوب طهارة الثوب والبدن فيه لكنهم صرحوا بعدم وجوبها . وفي البدائع أنها ليست بشرط بالإجماع ، فلا يفترض تحصيلها ولا يجب لكنه سنة ، حتى لو طاف وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم لا يلزمه شيء لكنه يكره . ا هـ .

فيحمل الحديث على أن التشبيه في الثواب ، ويضاف إيجاب الطهارة عن الحدث إلى ما أورده ابن الجوزي ، وإيجاب ستر العورة إلى قوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 52 ] { ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان } قال محمد رحمه الله : ومن طاف تطوعا على شيء من هذه الوجوه فأحب إلينا إن كان بمكة أن يعيد الطواف ، وإن كان قد رجع إلى أهله فعليه صدقة سوى الذي طاف وعلى ثوبه نجاسة . هذا وما ذكر في بعض النسخ من أن في نجاسة البدن كله الدم لا أصل له في الرواية ، والله أعلم . وقد يقال : فلم لم تلحق الطهارة عن النجس بالطهارة عن الحدث وهو الأصل المنصوص عليه قياسا أو بستر العورة ، وليس هذا قياسا في إثبات شرط بل في إثبات الوجوب . وقد يجاب بحاصل ما في المبسوط من أن حكم النجاسة في الثوب أخف حتى جازت الصلاة مع قليل النجاسة في الثوب ومع كثيرها حالة الضرورة فلا يتمكن بنجاسة الثوب نقصان في الطواف وهذا يخص الفرق بطهارة الحدث دون الستر ، ثم أفاد فرقا بين الستر وبينه بأن وجوب الستر لأجل الطواف أخذا من قوله عليه الصلاة والسلام { ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان } فبسبب الكشف يتمكن نقصان في الطواف واشتراط طهارة الثوب ليس للطواف على الخصوص فلا يتمكن بتركه نقصان فيه ، ولم يبين الجهة المشاركة للطواف في سببية المنع .

وأفادها في البدائع فقال : المنع من الطواف مع الثوب النجس ليس لأجل الطواف بل لصيانة المسجد عن إدخاله النجاسة وصيانته عن التلويث فلا يوجب ذلك نقصا في الطواف فلا حاجة إلى الجبر إلا أنه نفى سببية الطواف بالكلية . وقوله المنع من الطواف مع الثوب النجس إما أن يكون معناه أنه لو كان منع لكان لصيانة المسجد ، أو أن المنع ثابت مع النجاسة ولذا تثبت الكراهة به إلا أنه لا يبلغ إلى الوجوب فلا ينتهض موجبا للجابر ، والله سبحانه أعلم . ولم يكن في ظاهر الرواية تنصيص سوى على الثوب ، والتعليل يفيد تعميم البدن أيضا .




الخدمات العلمية