الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        760 [ ص: 165 ] ( 14 ) باب إهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم

                                                                                                                        721 - ذكر فيه مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ; أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة . ما شأن الناس يأتون شعثا وأنتم مدهنون ؟ أهلوا ، إذا رأيتم الهلال .

                                                                                                                        722 - وعن هشام بن عروة ; أن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع سنين . يهل بالحج لهلال ذي الحجة . وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك .

                                                                                                                        15848 - قال مالك : وإنما يهل أهل مكة وغيرهم بالحج إذا كانوا بها . ومن كان مقيما بمكة من غير أهلها من جوف مكة لا يخرج من الحرم .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        15849 - قال أبو عمر : ما جاء عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن الزبير في إهلال أهل مكة اختيار واستحباب ليس على الإلزام والإيجاب ; لأن الإهلال إنما يجب على من يتصل به عمله في الحج لا على غيره ; لأنه ليس من السنة أن يقيم المحرم في أهله .

                                                                                                                        15850 - والأصل في هذا حديث مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبيد [ ص: 166 ] بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر : " رأيتك تفعل أربعة لم أر أحدا من أصحابك يفعلها . . . " ، فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية ، فأجابه ابن عمر أنه لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل إلا حين انبعثت به راحلته .

                                                                                                                        15851 - يريد ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل من ميقاته في حين ابتدائه عمل حجته .

                                                                                                                        15852 - وفي حديث عبيد بن جريج هذا على أن الاختلاف في هذه المسألة قديم بين السلف وأن ابن عمر لم ير أحدا حجة على السنة ، ولا التفت إلى عمل من عمل عنده بغيرها ، وإن كان أبوه ( رضي الله عنه ) كان يأمر أهل مكة بخلاف ذلك .

                                                                                                                        15852 م - وقد تابع ابن عمر في هذه المسألة جماعة ، منهم : ابن عباس وغيره .

                                                                                                                        15853 - ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أبيه ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لا يهل أحد بالحج من مكة حتى يروح إلى منى .

                                                                                                                        15854 - قال : وأخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا عطاء وجه إهلال أهل مكة حين تتوجه به دابته نحو منى ، فإن كان ماشيا فحين يتوجه نحو منى .

                                                                                                                        15855 - قال ابن جريج : وقال لي عطاء : إنما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ دخلوا في حجتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشية التروية حتى توجهوا إلى منى .

                                                                                                                        [ ص: 167 ] 15856 - قال ابن جريج : وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يحكي عن حجة النبي ( عليه السلام ) ، قال : فأمرنا بعد ما طفنا أن نحل ، وقال : " إذا أردتم أن تحلوا إلى منى فانطلقوا " .

                                                                                                                        15857 - قال أبو عمر : لما فسخوا حجهم في عمرة ، وحلوا إلى النساء صاروا كأهل مكة في اطراح الشعث والتفث ومس النساء ، فإذا كانت السنة فيهم ألا يهلوا إلى يوم التروية فكذلك أهل مكة .

                                                                                                                        15858 - وهذا خلاف ما روي عن ابن عمر ، وابن الزبير من رواية مالك وغيره ، ولا وجه لقول عمر عندي إلا الاستحباب كما وصفنا ، وبالله توفيقنا .

                                                                                                                        15859 - وقد روي عن ابن عمر ما يوافق قول عمر لأهل مكة وفعل ابن الزبير . ذكره مالك في موطئه أن عبد الله بن عمر كان يهل لهلال ذي الحجة من مكة ويؤخر الطواف بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى .

                                                                                                                        15860 - وذكر عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، قال : أهل ابن عمر بحجة حين رأى الهلال من جوف الكعبة ، ومرة أخرى حين انطلق إلى منى .

                                                                                                                        15861 - وأخبرنا عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه أهل بالحج من مكة ثلاث سنوات .

                                                                                                                        15862 - وعن معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر مثله .

                                                                                                                        15863 - وعن ابن جريج ، عن مجاهد نحوه .

                                                                                                                        [ ص: 167 ] 15864 - قال مجاهد : فقلت لابن عمر : قد أهللت فينا إهلالا مختلفا ؟ قال : أما أول عام فأخذت بأخذ بلدي ، ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلي حراما وأخرج حراما وليس كذلك كنا نصنع ، إنما كنا نهل ثم نجعل على شأننا . قلت : فبأي شيء تأخذ ؟ قال : نحرم يوم التروية .

                                                                                                                        15865 - قال : وأخبرنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : إن شاء المكي أن لا يحرم بالحج إلا يوم منى يعمل .

                                                                                                                        15866 - أخبرنا هشام بن حسان ، قال : كان عطاء بن أبي رباح يعجبه أن يهل إذا توجه إلى منى .

                                                                                                                        15867 - قال : وقال عطاء : إذا أحرم يوم التروية فلا يطوف بالبيت حتى يروح إلى منى .

                                                                                                                        15868 - قال هشام : وقال الحسن : أي ذلك فعل فلا بأس إن شاء أهل حين يتوجه إلى منى ، وإن شاء قبل ذلك ، وإذا أهل قبل يوم التروية فإنه يطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، يعني إن شاء .

                                                                                                                        15869 - وليس طوافه ذلك له بلازم ولا سنة ; لأنه طواف سنة لقادم مكة من غيرها من الآفاق .

                                                                                                                        15870 - وأما قول مالك في هذا الباب أن المكي لا يخرج من مكة للإهلال ولا يهل إلا من جوف مكة ، فهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه ، وليس كالمعتمر عند الجميع ، لأن الشأن في الحاج والمعتمر أن يجمع بين الحل والحرم ، فأمروا المعتمر المكي أو من كان بمكة أن يخرج إلى الحل ; لأن عمرته تنقضي بطوافه بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة ، والحاج لا بد له من عرفة وهي حل فيحصل بذلك له الجمع بين [ ص: 169 ] الحل والحرم ، ولذلك لم يكن الخروج إلى الحل ليهل منه بخلاف المعتمر .

                                                                                                                        15871 - وأما قول مالك في هذا الباب : من أهل من مكة بالحج فليؤخر الطواف بالبيت والسعي من الصفا والمروة حتى يرجع من منى .

                                                                                                                        15872 - قال : وكذلك صنع عبد الله بن عمر ، وفعله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أهلوا بمكة لم يطوفوا ولم يسعوا حتى رجعوا بمكة .

                                                                                                                        15873 - فإن ما ذكره عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن ابن عمر أيضا ، فالآثار به متواترة محفوظة صحاح ، وأهل العلم كلهم قائمون به ، لا يرون على المكي طوافا إلا الطواف المفترض ، وهو طواف الإفاضة عند أهل الحجاز . ويسميه أهل العراق : الطواف .

                                                                                                                        15874 - وأما الطواف الأول وهو دخول طواف الدخول فساقط عند المكي ، وساقط عن المراهن الذي يخاف وقت الوقوف قبل الفجر من ليلة النحر ، ويصل المكي والمراهن طواف الإفاضة بالسعي بين الصفا والمروة ; لأن الطواف الأول هو الوصول به السعي لمن قدم مكة ودخلها ساعيا أو معتمرا .

                                                                                                                        15875 - وذكر ابن الحكم وغيره ، عن مالك : من أحرم من مكة وطاف وسعى قبل خروجه إلى منى لزمه أن يطوف بعد الرمي والسعي ، فإن لم يعد الطواف حتى رجع إلى بلده أجزى .

                                                                                                                        15876 - وأما قول مالك : لا يهل الرجل من أهل مكة حتى يخرج إلى الحل فيحرم منه ، فقد ذكرت لك أن ذلك إجماع من العلماء لا يختلفون فيه - والحمد لله - ; لأن العمرة زيارة البيت ، وإنما يزار الحرم من خارج الحرم كما يزار المزور في بيته من [ ص: 170 ] غير بيته ، وتلك سنة الله في المعتمرين من عباده .

                                                                                                                        15877 - واختلفوا فيمن أهل بالعمرة من مكة فقالت طائفة : يخرج إلى الميقات أو إلى الحل فيحرم منه بعمرة ، وإن لم يخرج وطاف وسعى فعليه دم لتركه الخروج إلى الحل .

                                                                                                                        15878 - هذا قول أبي حنيفة وأصحابه ، وابن القاسم وأبي ثور ، وهو أحد قولي الشافعي .

                                                                                                                        15879 - وللشافعي قول آخر أنه لا يجزئه وعليه الخروج إلى الحل والإهلال منه بالعمرة وغيرها .

                                                                                                                        15880 - وهو قول الثوري ، وأشهب ، والمغيرة .




                                                                                                                        الخدمات العلمية