الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] وقد رأيت من كلام الناس في هذا الباب وغيره ألوانا لا يسعها هذا الموضع، وكثير من نزاع الناس يكون نزاعا لفظيا، أو نزاع تنوع، لا نزاع تناقض.

فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا، هو معنى اللفظ الذي يقوله هذا، وإن اختلف اللفظان، فيتنازعان، لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما، غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر، وهذا كثير.

والثاني أن يكون هذا يقول نوعا من العلم والدليل صحيحا، ويقول الآخر نوعا صحيحا.

وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب، وكثير منه نزاع في المعنى، والنزاع المعنوي: إما أن يكون في ثبوت شيء وانتفائه، وإما أن يكون في وجوب شيء وسقوطه.

فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوي، وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان، أو توقف صحة الإيمان عليه، ونحو ذلك.

ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة، مأخوذا في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات: هل هو النظر، أو القصد، أو الشك، أو المعرفة؟ صار كثير من المنتسبين إلى [ ص: 4 ]

السنة، المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم، يوافقونهم على ذلك. ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم، كمالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه: (قال أصحابنا) و (اختلف أصحابنا) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام، وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام، إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص، فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس، وقد يجتمع فيه الوصفان.

وهذا موجود كثيرا في أتباع جميع الأئمة، فتجد الواحد، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يقول: اختلف أصحابنا في أول الواجبات، ونحو ذلك، ولا يصح كلامه إلا على هذا الوجه.

كما يقول أبو الفرج المقدسي الحنبلي في تبصرته فإنه قال: [ ص: 5 ]

(فصل): في أول ما أوجب الله على العبد المكلف، وفي ذلك وجهان لأصحابنا: أحدهما: أن أول ما أوجب الله على العبد معرفته، والثاني: أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال، المؤديان إلى معرفة الله تعالى) .

قال: (وقال قوم: أول ما أوجب الله على العبد الطهارة والصلاة وغير ذلك) .

ثم قال: (دليلنا أن معرفة الله يجب أن تتقدم على عبادته، لأنه لا يجوز للمكلف أن يعبد ما لا يعرف وإذا ثبت هذا، وجب تقدم المعرفة على العبادة) .

قال: (وإلى ذلك دعانا الباري بقوله تعالى: أولم يتفكروا في أنفسهم [سورة الروم: 8] وقال: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض [سورة الأعراف: 185].

قال: (ولم يندبنا إلى النظر والتفكر إلا لكي نستدل على معرفته) .

قال: (دليل ثان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أول ما أرسل به إلى الأمة التوحيد، ومعرفة الله تعالى بالوحدانية ونفي الإلهية عما سواه.

ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « أمرت أن أقاتل الناس [ ص: 6 ]

حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»
.

ثم فرض عليهم بعد ذلك الفرائض، فدل على ما قلناه) .

التالي السابق


الخدمات العلمية