الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 167 ] فصل في ذكر شروط العلة

                                                      الأول : أن يكون مؤثرا في الحكم :

                                                      فإن لم يؤثر فيه لم يجز أن يكون علة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجم ماعزا لاسمه ولا لهيئة جسمه ، ولكن الزنى علة الرجم ، وكذا الطعم علة الربا دون الزرع ، هكذا ذكره الماوردي والروياني . ومرادهما بالتأثير المناسبة وأحسن من عبارتهما قول الأستاذ أبي منصور : أن يكون وصفها مما يصح تعليق الحكم بها ، فإن لم يجز تعليق الحكم بها فإن لم يجز تعليق الحكم على وصف لم يجز أن يكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، ولهذا قلنا : إن المعصية لا تكون علة للتخفيف ، وأبطلنا بذلك قول من جعل الردة علة لإسقاط وجوب الصلاة والصوم ، وإباحة الفطر والقصر وأكل الميتة في السفر الذي يكون معصية .

                                                      وأجاز بعضهم التعليل بمجرد الأمارة الطردية . والحق خلافه وأنه لا بد أن يشتمل على حكم يبعث المكلف على الامتثال ويصح شاهدا لإناطة الحكم بها على ما تقدم .

                                                      وقال القاضي في " التقريب " : معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو الحكم بأن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها ، والمراد من تأثيرها في الحكم دون ما عداها أنها جعلت علامة على ثبوت الحكم فيما هي فيه وليس المراد أنها موجبة لثبوت الحكم لا محالة كالعلة العقلية التي يستحيل ثبوتها مع انتفاء الحكم أو ثبوت حكمها مع انتقائها ، وقيل : معناه إنها جالبة للحكم ومقتضية له ويجب أن يكون معنى هذه الألفاظ أجمع أنها علامة على ثبوت الحكم لا يوجبه في حق من غلب على ظنه كونها مؤثرة فيه . [ ص: 168 ]

                                                      وفي أي موضع يعتبر تأثير العلة ؟ وجهان حكاهما الشيخ في " اللمع " :

                                                      أحدهما : في الأصل لأن العلة تنزع من الأصل أولا . والثاني : أنه يكفي أن يؤثر في موضع من الأصول . قال : وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله وهو الصحيح عندي ، وحكى شارحه فيها ثلاثة أوجه :

                                                      أحدها : تأثيره في الأصل . قال : وهو قول أكثر أصحابنا واختاره ابن الصباغ ، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة . والثاني : اشترط تأثيرها في الفرع ، لأنه المقصود والأصل ثابت بالإجماع . والثالث : أنه يكفي في موضع من الأصول سواء المقيس عليه وغيره وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والغزالي وغيرهم لأن تأثيرها في موضع يدل على صحتها .

                                                      الثاني : أن يكون وصفا ضابطا :

                                                      لأن تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا حكمة مجردة لخفائها ، فلا يظهر إلحاق غيرها بها ، وهل يجوز كونها نفس الحكمة ، وهي الحاجة إلى جلب مصلحة أو دفع مفسدة ؟ قال الإمام الرازي في " المحصول " : يجوز . وقال غيره : يمتنع واختاره في " المعالم " ، وفصل آخرون فقالوا : إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها لمساواة ظهور الوصف ، واختاره الآمدي والهندي ، واتفقوا على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها ، أي مظنتها بدلا عنها ، ما لم يعارضه قياس والمنقول عن أبي حنيفة المنع ، وقال : الحكمة من الأمور الغامضة ، وشأن الشرع فيما هو كذلك قطع النظر عند تقدير الحكم عن دليله ومظنته . وعن الشافعي الجواز وأن [ ص: 169 ] اعتبارها هو الأصل ، وإنما اعتبرت المظنة للتسهيل .

                                                      وعلى هذا الأصل ينبني خلافهما في المصابة بالزنى ، هل تعطى حكم الأبكار أو الثيبات في السكوت ؟ فإن قطع بانتفاء الحكمة في بعض الصور كاستبراء الصغيرة فإنه شرع لتبين براءة الرحم وهو مفقود في الصغيرة ، فقال الغزالي وتلميذه محمد بن يحيى : ثبت الحكم بالمظنة ، فإن الحكم قد صار متعلقا بها ، والذي عليه الجدليون أنه لا يثبت لانتفاء الحكمة فإنها أصل العلة ، وقال ابن رحال : التعليل بالحكمة ممتنع عند من يمنع القياس في الأسباب ، وجائز عند من جوزه . فرعان فيهما نظر :

                                                      الأول : هل العلة حقيقة في الوصف المترجم عن الحكمة مجاز في الحكمة ؟ أو العكس ، لأن الحكمة هي المقصودة اعتبارا والملاحظ بالحقيقة إنما هو معناها وتوسط الوصف مقصود لأجلها .

                                                      الثاني : إذا وجد محل قابل للتعليل بالوصف والحكمة ، والحكمة نهضت بشرطها وسارت العلة في تأثير التعدية بإلحاق فروع تنشئ أحكاما من الأصل ، فالأولى في النظر أن ينظر إلى الوصف أو الحكمة ؟ فيه احتمالان :

                                                      أحدهما : الوصف لاتفاقهم على التعليل به واختلافهم في الثاني . [ ص: 170 ]

                                                      والثاني : الحكمة لأنها المقصودة بالذات والوصف وسيلة إلى العلم بوجودها .

                                                      الثالث : أن تكون ظاهرة جلية :

                                                      وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء ، ذكره الآمدي في جدله " . وظاهره أن العلة يجب أن تكون في الأصل أظهر منها في الفرع ، وقول الأصوليين : " القياس في معنى الأصل " يقتضي استواء حالهما في المحلين ، والحق أن كل وصف يمكن الوقوف عليه بدليل ينبغي أن يصح نصبه أمارة ، لأن مقصود التعريف يحصل منه . كما يحصل من غيره ، سواء كان خفيا أو لا وقد قال تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وفي الحديث : { إنما البيع عن تراض } ، وهذا يدل على أن الرضا هو المعتبر في العقود وإن كان خفيا عندهم ، وكذلك العمدية علة في القصاص ، وهو كثير في الكتاب والسنة .

                                                      واعلم أنهم فسروا الخفاء بما لا يمكن الاطلاع عليه ، ومثلوه بالرضا في العقود والعمدية في القصاص ، واستشكل لأنهم إن عنوا بكونه لا يطلع عليه أنه لا سبيل إلا الوقوف عليه لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره مما يدل عليه ، فهذا لا يصح نصبه أمارة بنفسه ولا مظنة ، وإن عنوا به أنه لا يطلع عليه باعتبار نفسه ويمكن [ أن ] يوقف عليه باعتبار ما يدل عليه ، فيلزمهم على هذا أن يكون الإشكال خفيا ، لأنه لا يوقف عليه باعتبار نفسه وإنما يستدل [ ص: 171 ] عليه بآثاره . قالوا : وينبغي أن يكون التعليل بالقدر المشترك بين الأصل والفرع إذ يعسر تعيين قدر في الأصل هو ثابت في الفرع ، وأيضا إذا فعل ذلك اندفعت النصوص إذ يمنع أن يكون ما في محلها من الحكم غير قاصر عن ذلك القدر المشترك . قال ابن النفيس في " الإيضاح " : إن الأمر وإن كان كذلك ولكن يرد حينئذ منع يعسر دفعه ، وهو أنه لم قلتم : إن هذا القدر المشترك قدر يجوز التعليل به ؟ فإن التعليل بالحكمة إنما يجوز إذا كان لذلك الحكم قدر يعتد به ولا يجوز التعليل بكل حكمة .

                                                      الرابع : أن تكون سالمة بشرطها ، أي بحيث لا يردها نص ولا إجماع . لأن القياس فرع لها لا يستعمل إلا عند عدمها فلم يجز أن يكون رافعا لها ، فإذا رده أحدهما بطل .

                                                      الخامس : أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها ، فإن الأقوى أحق بالحكم ، كما أن النص أحق بالحكم من القياس ، وما أدى إلى إبطال الأقوى فهو الباطل بالأقوى . ذكره - والذي يليه - الماوردي والروياني .

                                                      السادس : أن تكون مطردة ، أي كلما وجدت وجد الحكم ليسلم من النقض والكسر ، فإن عارضها نقض أو كسر فعدم الحكم مع وجودها بطلت .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية