الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم.

قوله تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه معناه: من معلوماته، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام - حين نقر العصفور من حرف السفينة "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر"، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض - ومعنى الآية: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه.

واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله تعالى بأنه وسع السموات والأرض.

فقال ابن عباس: كرسيه علمه، ورجحه الطبري، وقال: منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه الألفاظ تعطي ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم، قال الطبري: ومنه قول الشاعر:


تحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب



يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها.

وقال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل.

[ ص: 27 ] وقال السدي: هو موضع قدميه، وعبارة أبي موسى مخلصة لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك، والكرسي هو موضع القدمين، وأما عبارة السدي فقلقة، وقد مال إليها منذر البلوطي، وأولها بمعنى ما قدم من المخلوقات على نحو ما تأول في قول النبي عليه السلام: " فيضع الجبار فيها قدمه". وهذا عندي عناء، لأن التأويل لا يضطر إليه إلا في ألفاظ النبي عليه السلام، وفي كتاب الله، وأما في عبارة مفسر فلا.

وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش والعرش أعظم منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة [ ص: 28 ] ألقيت في ترس"، وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض".

وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ لا يئوده حفظ هذا الأمر العظيم.

و"يئوده" معناه: يثقله يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم.

وروي عن الزهري، وأبي جعفر، والأعرج - بخلاف عنهم - تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى، جعلوها بين بين، لا تخلص واوا مضمومة ولا همزة محققة، كما قيل في لؤم لوم.

و"العلي": يراد به علو القدر والمنزلة، لا علو المكان لأن الله منزه عن التحيز.

وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه أن لا يحكى، وكذا "العظيم" هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر، لا على معنى عظم الأجرام.

وحكى الطبري عن قوم أن "العظيم" معناه المعظم كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد قول الأعشى:

[ ص: 29 ]


وكأن الخمر العتيق من الإسـ     ـفنط ممزوجة بماء زلال



وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك، وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم إذ لا معظم له حينئذ.

التالي السابق


الخدمات العلمية