الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق ، وهو الحمرة ، وقال المزني " الشفق البياض " والدليل عليه " أن جبريل عليه السلام صلى العشاء الأخيرة حين غاب الشفق " والشفق هو الحمرة . والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وقت المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق } ولأنها صلاة تتعلق بأحد النيرين والمتفقين في الاسم الخاص فتعلقت بأظهرهما وأنورهما كالصبح ، وفي آخره قولان ، قال في الجديد : إلى ثلث الليل لما روي { أن جبريل عليه السلام صلى في المرة الأخيرة العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل } وقال في القديم والإملاء : إلى نصف الليل لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل } ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني ، وقال أبو سعيد الإصطخري إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه فاتت الصلاة وتكون قضاء والمذهب الأول ، لما رويناه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه - . ويكره أن تسمى العشاء العتمة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم } قال ابن عيينة : إنها العشاء وإنهم يعتمون بالإبل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها لما روى أبو برزة رضي الله عنه قال : { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها والحديث بعدها } )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في هذه القطعة مسائل ( إحداها ) في الأحاديث ، أما حديثا جبريل الأول والثاني فصحيحان سبق بيانهما ، وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : " وقت المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق " فغريب بهذا اللفظ ، والثابت منه في صحيح مسلم وغيره عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق } كما سبق بيانه وتحصيل الدلالة بهذا ; لأن ثوره هو ثورانه وهذه صفة الأحمر لا الأبيض ، وأما حديث [ ص: 40 ] عبد الله بن عمرو بن العاص الآخر فصحيح أيضا رواه مسلم ولفظه في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم " { وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط } وأما حديث أبي قتادة فصحيح سبق بيانه ، وأما حديث ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : { لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم } فصحيح رواه مسلم ولفظه عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يغلبنكم الأعراب على أسماء صلاتكم إلا أنها العشاء وهم يعتمون بالإبل } وقول المصنف قال ابن عيينة : إنها العشاء إلى آخره كان ينبغي حذف ذكر ابن عيينة وأما حديث أبي برزة فصحيح رواه البخاري ومسلم لكن لفظه عندهما عن أبي برزة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها والحديث بعدها يعني العشاء } .

                                      ( المسألة الثانية ) في أسماء الرجال فابن عمر وأبو قتادة والمزني سبق بيانهم ، وذكر أحوالهم في مواضعهم ، وأما عبد الله بن عمرو بفتح العين فروى عنه هنا حديثين : حديث { وقت المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق ، } والحديث الآخر : { وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل . } وهو عبد الله بن عمرو بن العاصي بالياء على الفصيح وبحذفها على لغة قليلة وهو الأشهر في كتب المحدثين وغيرهم وفي ألسنتهم ، ابن وائل بن هاشم بن سعيد بضم السين وفتح العين بن سهم بن هصيص بضم الهاء بصادين مهملتين ابن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي كنيته عبد الله : أبو محمد ، وقيل أبو عبد الرحمن ، وقيل أبو نصر أسلم قبل أبيه ولم يكن بينه وبين أبيه في السن إلا إحدى عشرة سنة وقيل اثنتا عشرة ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله } وكان عبد الله مجتهدا في العبادة اجتهادا بليغا ، وكان كثير العلم والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم توفي بمكة وقيل بالطائف وقيل بمصر في ذي الحجة سنة خمس وستين وقيل ثلاث وستين وقيل : ثلاث وسبعين وقيل سنة ست وستين وقيل سبع وستين وهو ابن ثنتين وسبعين سنة . [ ص: 41 ] وأما أبو برزة فبفتح الباء الموحدة وإسكان الراء وبعدها زاي وهو أبو برزة نضلة بن عبيد الأسلمي أسلم قديما ، وشهد فتح مكة ، ثم نزل البصرة ، ثم غزا خراسان ، وتوفي بها ، وقيل : بالبصرة وقيل بنيسابور ، وقيل : في مفارق بين سجستان وهراة سنة ستين ، وقيل أربع وستين .

                                      وأما ابن عيينة فهو أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي كوفي سكن مكة وكان إمام أهلها في عصره ، وهو أحد شيوخ الشافعي وأحد أجدادنا في سلسلة التفقه ، سمع خلائق من أئمة التابعين روى عنه الأعمش وهو تابعي وأحد شيوخه وخلائق من الأئمة كالثوري وابن جريج وابن المبارك والشافعي ووكيع وابن مهدي وأحمد وغيرهم ، وكان من أعلم الناس بالقرآن قال الشافعي رحمه الله : ما رأيت أحدا من الناس فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عيينة وما رأيت أحدا أحسن تفسيرا للحديث منه . روينا عن سفيان قال : قرأت القرآن وأنا ابن أربع سنين ، وكتبت الحديث وأنا ابن سبع ، ولد سنة سبع ومائة وتوفي بمكة يوم السبت غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومائة رحمه الله .

                                      ( المسألة الثالثة في الأحكام ) : أجمعت الأمة على أن وقت العشاء مغيب الشفق واختلفوا في الشفق هل هو الحمرة ؟ أم البياض ؟ وسنذكر فيه فرعا مستقلا إن شاء الله تعالى . ومذهبنا أنه الحمرة دون البياض ، وأما الصفرة التي بعد الحمرة وقبل البياض فاختلف كلام الأصحاب فيها فقال الغزالي في الوسيط : الشفق الحمرة دون الصفرة والبياض . وقال إمام الحرمين والغزالي في البسيط : يدخل وقت العشاء بزوال الحمرة والصفرة ، وقد يستدل لهما بما نقله صاحب جمع الجوامع عن نص الشافعي أنه قال : الشفق الحمرة التي في المغرب ، فإذا ذهبت الحمرة ولم ير منها شيء فقد دخل وقتها ، ومن افتتحها وقد بقي من الحمرة شيء أعادها ، فهذا لفظه وهو محتمل لما قاله إمام الحرمين ; لأن الحمرة ترق وتستحيل لونا آخر ، بحيث يعد بقية للون الحمرة ، وفي حكم جزء منها ، ولكن نص الشافعي في مختصر المزني : الشفق الحمرة وهكذا عبارات جماهير الأصحاب . وهذا ظاهر في أنه يدخل الوقت بمغيب الحمرة وإن بقيت الصفرة وهذا هو المذهب . .



                                      [ ص: 42 ] وأما آخر وقت العشاء المختار ففيه قولان مشهوران ( أحدهما ) وهو المشهور في أنه يمتد إلى ثلث الليل ( والثاني ) وهو نصه في القديم والإملاء من الجديد : يمتد إلى نصف الليل ودليلهما في الكتاب ، وهما حديثان صحيحان ، واختلف المصنفون في أصح القولين فقال القاضي أبو الطيب صحح أبو إسحاق المروزي كونه نصف الليل ، وصحح أصحابنا ثلث الليل ، وممن صحح ثلث الليل البغوي والرافعي ، وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات منهم الماوردي في الإقناع والغزالي في الخلاصة والشاشي في العمدة ، ودليل الثلث حديث جبريل وحديث أبي موسى الأشعري ، وقد سبق بطوله ، وممن صحح النصف الشيخ أبو حامد والمحاملي وسليمان في رءوس المسائل وأبو العباس الجرجاني والشيخ نصر في تهذيبه والروياني وقطع به جماعة منهم أبو عبد الله الزبيري وسليم في الكفاية والمحاملي في المقنع ونصر المقدسي في الكافي

                                      هذه طريقة جماهير الأصحاب في وقت الاختيار أن فيه قولين كما ذكرنا ، وانفرد صاحب الحاوي فقال : فيه طريقان ( أحدهما ) فيه قولان كما سبق ، قال : وهي طريقة الجمهور ( والثانية ) وهي طريقة ابن سريج ليست على قولين بل الأحاديث الواردة بالأمرين ، والنصان للشافعي محمولان على اختلاف حال الابتداء والانتهاء ، فالمراد بالثلث أنه آخر وقت الابتداء بها ، والمراد بالنصف أنه آخر وقت الانتهاء وهذا الطريق غريب ، والمختار ثلث الليل ، فإذا ذهب وقت الاختيار بقي وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني ، هذا هو المذهب ، نص عليه الشافعي وقطع به جمهور أصحابنا المتقدمين والمتأخرين . وقال أبو سعيد الإصطخري : إذا ذهب وقت الاختيار فاتت العشاء ويأثم بتركها وتصير قضاء ، وهذا الذي قاله هو أيضا أحد احتمالين حكاهما القفال في شرح التلخيص عن أبي بكر الفارسي ، وقد قال الشافعي في باب استقبال القبلة : إذا مضى ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة ، فمن أصحابنا من وافق الإصطخري لظاهر هذا النص ، وتأول الجمهور قال القاضي أبو الطيب ، قال أصحابنا : أراد الشافعي أن وقت الاختيار فات دون وقت الجواز ; لأن الشافعي قال في هذا الكتاب : إن المعذورين إذا زالت أعذارهم قبل الفجر بتكبيرة لزمتهم المغرب والعشاء ، فلو لم يكن وقتا لها لما لزمتهم [ ص: 43 ] وقال الشيخ أبو حامد في تعليقه في الرد على الإصطخري : إذا كمل الصبي والكافر والمجنون والحائض قبل الفجر بركعة لزمتهم العشاء بلا خلاف ، ووافق عليه الإصطخري فلو لم يكن ذلك وقتا لها لم يلزمهم . فهذا كلام الشيخ أبي حامد ، وقد غلط بعض المتأخرين الشارحين للتنبيه فنقل عنه موافقة الإصطخري وهذه غباوة من هذا الشارح ، وكأنه اشتبه عليه كلام أبي حامد لطوله والصواب عن أبي حامد موافقة الجمهور في امتداد وقت العشاء إلى الفجر ، وإنكاره على الإصطخري والله أعلم .

                                      ( فرع ) للعشاء أربعة أوقات ، فضيلة واختيار وجواز وعذر ، فالفضيلة أول الوقت ، والاختيار بعده إلى ثلث الليل في الأصح وفي قول نصفه ، والجواز إلى طلوع الفجر الثاني والعذر وقت المغرب لمن جمع بسفر أو مطر . ( فرع ) قال صاحب التتمة : في بلاد المشرق نواح تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم . فأول وقت العشاء عندهم أن يمضي من الزمان بعد غروب الشمس قدر يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم .

                                      ( فرع ) قيل : إن ما بين المغرب والعشاء نصف سدس الليل ، فإن طال الليل طال نصف السدس ، وإن قصر قصر .

                                      ( المسألة الرابعة ) يستحب أن لا تسمى العشاء الآخرة عتمة للحديث السابق ، هكذا قاله المحققون من أصحابنا ( يستحب أن لا تسمى عتمة ) وكذا قال الشافعي في الأم : " أحب أن لا تسمى العشاء الآخرة عتمة " وقال المصنف والشيخ أبو حامد وطائفة قليلة : " يكره أن تسمى عتمة " فإن قيل : فقد جاءت أحاديث كثيرة بتسميتها عتمة ، كقوله صلى الله عليه وسلم { لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا } رواه البخاري وغيره من رواية أبي هريرة بهذا اللفظ . فالجواب من وجهين ( أحدهما ) أن هذا الاستعمال ورد في نادر من الأحوال لبيان الجواز ، فإنه ليس بحرام ( والثاني ) أنه خوطب به من قد يشتبه عليه العشاء بالمغرب ، فلو قيل : العشاء لتوهم إرادة المغرب ; لأنها كانت معروفة عندهم بالعشاء ، وأما العتمة فصريحة في العشاء الآخرة فاحتمل إطلاق العتمة لهذه المصلحة . [ ص: 44 ]

                                      واعلم أنه يجوز أن يقال : العشاء الآخرة ، والعشاء فقط من غير وصف بالآخرة ، قال الله تعالى : { ومن بعد صلاة العشاء } وثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة } وثبت في صحيح مسلم استعمال العشاء الآخرة من جماعات من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد أنكر الأصمعي قول العشاء الآخرة . وقال : الصواب العشاء فقط ، وهذا غلط لما ذكرته ، وقد أوضحت هذا كله في تهذيب الأسماء

                                      ( الخامسة ) يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها للحديث الصحيح السابق والمراد بالحديث الذي يكره بعدها ما كان مباحا في غير هذا الوقت ، أما المكروه في غيره فهنا أشد كراهة ، وسبب الكراهة أنه يتأخر نوعا فيخاف تفويته لصلاة الليل إن كانت له صلاة ليل ، أو تفويته الصبح عن وقتها أو عن أوله ، وهذه الكراهة إذا لم تدع حاجة إلى الكلام ، ولم يكن فيه مصلحة . أما الحديث للحاجة فلا كراهة فيه ، وكذا الحديث بالخير كقراءة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاكرة الفقه وحكايات الصالحين ، والحديث مع الضيف ونحوها فلا كراهة في شيء من ذلك ، وقد جاءت بهذا كله أحاديث صحيحة مشهورة ، وجمعتها في أواخر كتاب الأذكار . وسبب عدم الكراهة في هذا النوع أنه خير ناجز فلا يترك لمفسدة متوهمة ، بخلاف ما إذا لم يكن في الحديث خير ، فإنه مخاطرة بتفويت الصلاة لغير مصلحة والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في الشفق وآخر وقت العشاء : أما الشفق فقد سبق أنهم أجمعوا أنه يدخل وقت العشاء بمغيبه ، واختلفوا في الشفق ، فمذهبنا أنه الحمرة ، ونقله صاحب التهذيب عن أكثر أهل العلم ، ورواه البيهقي في السنن الكبير عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهم ، ومكحول وسفيان الثوري ورواه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس بثابت مرفوعا ، وحكاه ابن المنذر عن ابن أبي ليلى ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وهو [ ص: 45 ] قول أبي ثور وداود وقال أبو حنيفة وزفر والمزني هو البياض . وروي ذلك عن معاذ بن جبل وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي واختاره ابن المنذر قال : وروي عن ابن عباس روايتان . واحتج أصحابنا للحمرة بأشياء من الحديث والقياس لا يظهر منها دلالة لشيء يصح منها ، والذي ينبغي أن يعتمد أن المعروف عند العرب أن الشفق الحمرة ، وذلك مشهور في شعرهم ونثرهم ، ويدل عليه أيضا نقل أئمة اللغة .

                                      قال الأزهري : " الشفق عند العرب الحمرة " قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول " عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق " وكان أحمر . وقال ابن فارس في المجمل قال الخليل : " الشفق الحمرة التي من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة " قال وقال ابن دريد أيضا : " الشفق الحمرة " وذكر ابن فارس قول الفراء ولم يذكر هذا ، وقال الزبيدي في مختصر العين : الشفق الحمرة بعد غروب الشمس ، وقال الجوهري : الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة ، ثم ذكر قول الخليل والفراء ولم يذكر غير هذا ، فهذا كلام أئمة اللغة ، وبالله التوفيق .




                                      الخدمات العلمية