الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وهو سبحانه وتعالى كما يفرق بين الأمور المختلفة فإنه يجمع ويسوي بين الأمور المتماثلة فيحكم في الشيء خلقا وأمرا بحكم مثله لا يفرق بين متماثلين ولا يسوي بين شيئين غير متماثلين ; بل إن كانا مختلفين متضادين لم يسو بينهما . ولفظ " الاختلاف " في القرآن يراد به التضاد والتعارض ; لا يراد به مجرد عدم التماثل - كما هو اصطلاح كثير من النظار - ومنه قوله : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقوله : { إنكم لفي قول مختلف } { يؤفك عنه من أفك } وقوله : { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } . وقد بين سبحانه وتعالى أن السنة لا تتبدل ولا تتحول في غير [ ص: 20 ] موضع و " السنة " هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول ; ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار وقال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } . والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه كما قال ابن عباس : هلا اعتبرتم الأصابع بالأسنان ؟ فإذا قال : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } وقال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم ; ليحذر أن يعمل مثل أعمال الكفار ; وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين أتباع الأنبياء قال تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } وقال تعالى : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا } وقال تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وهذه الآية أنزلها الله قبل الأحزاب وظهور الإسلام وذل المنافقين فلم يستطيعوا أن يظهروا بعد هذا ما كانوا يظهرونه قبل ذلك قبل بدر وبعدها وقبل أحد وبعدها فأخفوا النفاق وكتموه ; فلهذا لم [ ص: 21 ] يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم . وبهذا يجيب من لم يقتل الزنادقة . ويقول : إذا أخفوا زندقتهم لم يمكن قتلهم ولكن إذا أظهروها قتلوا بهذه الآية ; بقوله : { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } قال قتادة : ذكر لنا أن المنافقين كانوا يظهرون ما في أنفسهم من النفاق ; فأوعدهم الله بهذه الآية فلما أوعدهم بهذه الآية أسروا ذلك وكتموه { سنة الله في الذين خلوا من قبل } يقول : هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق .

                قال مقاتل بن حيان : قوله : { سنة الله في الذين خلوا من قبل } يعني كما قتل أهل بدر وأسروا فذلك قوله : { سنة الله في الذين خلوا من قبل } . قال السدي : كان النفاق على " ثلاثة أوجه " : " نفاق " مثل نفاق عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ومالك بن داعس فكان هؤلاء وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم . { والذين في قلوبهم مرض } قال : الزناة . إن وجدوه عملوا به وإن لم يجدوه لم يتبعوه . و " نفاق " يكابرون النساء مكابرة . وهم هؤلاء الذين يجلسون [ ص: 22 ] على الطريق ثم قال : { ملعونين } ثم فصلت الآية { أين ما ثقفوا } يعملون هذا العمل مكابرة النساء . قال السدي : هذا حكم في القرآن ليس يعمل به لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم ; أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم . قال السدي : قوله : { سنة } كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم . قال : فمن كابر امرأة على نفسها فقتل فليس على قاتله دية لأنه مكابر . قلت : هذا على وجهين : " أحدهما " أن يقتل دفعا لصوله عنها مثل أن يقهرها فهذا دخل في قوله : { من قتل دون حرمته فهو شهيد } وهذه لها أن تدفعه بالقتل ; لكن إذا طاوعت ففيه نزاع وتفصيل وفيه قضيتان من عمر وعلي معروفتان وأما إذا فجر بها مستكرها ولم تجد من يعينها عليه فهؤلاء نوعان : " أحدهما " أن يكون له شوكة كالمحاربين لأخذ المال وهؤلاء محاربون للفاحشة فيقتلوا . قال السدي قد قاله غيره . وذكر أبو اللوبي أن هذه جرت عنده ورأى أن هؤلاء أحق بأن يكونوا محاربين . و " الثاني " أن لا يكونوا ذوي شوكة بل يفعلون ذلك غيلة [ ص: 23 ] واحتيالا حتى إذا صارت عندهم المرأة أكرهوها فهذا المحارب غيلة كما قال السدي . يقتل أيضا وإن كانوا جماعة في المصر فهم كالمحاربين في المصر وهذه المسائل لها مواضع أخر .

                و " المقصود " أن الله أخبر أن سنته لن تبدل ولن تتحول وسنته عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ; ولهذا قال : { أكفاركم خير من أولئكم } وقال : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } أي أشباههم ونظراءهم وقال : { وإذا النفوس زوجت } قرن النظير بنظيره وقال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } وقال : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا } وقال : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } . فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة وقد قال تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } وقال تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } وقال تعالى : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم وهم خير الناس بعد الأنبياء فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس وأولئك خير أمة محمد كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } . ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك ; فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم . وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه قال تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .

                وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف . فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف ألبتة أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها فتارة يحكون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين ; طائفة أو طائفتين أو ثلاث وتارة عرفوا أقوال بعض السلف ، والأول كثير في " مسائل أصول الدين وفروعه " كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك يحكون إجماعا ونزاعا ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك ألبتة ; بل قد يكون قول السلف خارجا عن أقوالهم كما تجد ذلك في مسائل أقوال الله وأفعاله وصفاته ; مثل مسألة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك . وهم إذا ذكروا إجماع المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع فإنه لو أمكن العلم بإجماع المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به ; لعدم علمهم بأقوال السلف فكيف إذا كان المسلمون يتعذر القطع [ ص: 26 ] بإجماعهم في مسائل النزاع بخلاف السلف فإنه يمكن العلم بإجماعهم كثيرا . وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغا لم يخالف إجماعا ; لأن كثيرا من أصول المتأخرين محدث مبتدع في الإسلام مسبوق بإجماع السلف على خلافه والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعا كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ممن قد اشتهرت لهم أقوال خالفوا فيها النصوص المستفيضة المعلومة وإجماع الصحابة . بخلاف ما يعرف من نزاع السلف فإنه لا يمكن أن يقال : إنه خلاف الإجماع وإنما يرد بالنص وإذا قيل : قد أجمع التابعون على أحد قوليهم فارتفع النزاع . فمثل هذا مبني على مقدمتين : " إحداهما " العلم بأنه لم يبق في الأمة من يقول بقول الآخر وهذا متعذر .

                " الثانية " أن مثل هذا هل يرفع النزاع مشهور فنزاع السلف [ ص: 27 ] يمكن القول به إذا كان معه حجة ; إذ على خلافه ، ونزاع المتأخرين لا يمكن لأن كثيرا منه قد تقدم الإجماع على خلافه كما دلت النصوص على خلافه ومخالفة إجماع السلف خطأ قطعا . و " أيضا " فلم يبق مسألة في الدين إلا وقد تكلم فيها السلف فلا بد أن يكون لهم قول يخالف ذلك القول أو يوافقه وقد بسطنا في غير هذا الموضع أن الصواب في أقوالهم أكثر وأحسن وأن خطأهم أخف من خطأ المتأخرين وأن المتأخرين أكثر خطأ وأفحش وهذا في جميع علوم الدين ; ولهذا أمثلة كثيرة يضيق هذا الموضع عن استقصائها والله سبحانه أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية