الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 450 ] ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في شوال منها كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يدي ولده المنتصر ، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة ، فأداها أداء عظيما بليغا ، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ ، وحنق على أبيه وأخيه ، ثم اتفق أن أحضره أبوه بين يديه فأهانه وأمر بضربه في رأسه وصفعه وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه ، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان . فلما كان يوم عيد الفطر خطب الخليفة المتوكل على الله بالناس وعنده بعض التشكي من علة به ، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له ; أربعة أميال في مثلها ، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث الشهر بندمائه ، وكان على عادته في سمره وحضرته وشربه ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به ، فدخلوا عليه في ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال - ويقال : من شعبان - من هذه السنة ، وهو على السماط ، فابتدروه بالسيوف فقتلوه ، ثم ولوا بعده ولده المنتصر على ما سنذكره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 451 ] وهذه ترجمة المتوكل على الله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جعفر ابن المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، أبو الفضل المتوكل . وأمه أم ولد يقال لها : شجاع . وكانت من سروات النساء سخاء وحزما . كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين ، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين كما تقدم . وروى الخطيب من طريقه عن يحيى بن أكثم عن محمد بن عبد الوهاب ، عن سفيان ، عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حرم الرفق حرم الخير ثم أنشأ المتوكل يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الرفق يمن والأناة سعادة فاستأن في رفق تلاق نجاحا     لا خير في حزم بغير روية
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والشك وهن إن أردت سراحا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 452 ] وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه : وحدث عن أبيه المعتصم ، ويحيى بن أكثم القاضي . وروى عنه علي بن الجهم الشاعر ، وهشام بن عمار الدمشقي ، وقدم دمشق في خلافته ، وابتنى بها قصرا بأرض داريا ، وقال يوما لبعضهم : إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها ، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني . وقال أحمد بن مروان المالكي : ثنا أحمد بن علي البصري قال : وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء ، فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه غير أحمد بن المعذل ، فقال المتوكل لعبيد الله : إن هذا لا يرى بيعتنا ؟ فقال له : بلى يا أمير المؤمنين ، ولكن في بصره سوء . فقال أحمد بن المعذل : يا أمير المؤنين ، ما في بصري سوء ، ولكن نزهتك من عذاب الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الخطيب البغدادي أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما ، فأنشده قصيدته التي يقول فيها :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 453 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإذا مررت ببئر عر     وة فاسقني من مائها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأعطاه التي في يمينه وكانت تساوي مائة ألف ، ثم أنشده :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بسر من رأى أمير عدل     تغرف من بحره البحار
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يرجى ويخشى لكل خطب     كأنه جنة ونار
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الملك فيه وفي بنيه     ما اختلف الليل والنهار
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يداه في الجود ضرتان     عليه كلتاهما تغار
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لم تأت منه اليمين شيئا     إلا أتت مثله اليسار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فأعطاه التي في يساره أيضا . وقال الخطيب : وقد رويت هذه الأبيات عن علي بن هارون للبحتري في المتوكل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر عن علي بن الجهم قال : وقفت قبيحة حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية : جعفر . فتأمل ذلك ، ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا     بنفسي محط المسك من حيث أثرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لئن أودعت سطرا من المسك خدها     لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا [ ص: 454 ]
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيا من مناها في السريرة جعفر     سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويا من لمملوك لملك يمينه     مطيع له فيما أسر وأظهرا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : ثم أمر المتوكل عريبا فغنت به . وقال الفتح بن خاقان : دخلت يوما على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما لك مفكرا ؟ فوالله ما على الأرض أطيب منك عيشا ، ولا أنعم منك بالا . فقال : أطيب مني عيشا رجل له دار واسعة ، وزوجة صالحة ، ومعيشة حاضرة ، لا يعرفنا فنؤذيه ، ولا يحتاج إلينا فنزدريه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان المتوكل محببا إلى رعيته ، قائما بالسنة فيها ، وقد شبهه بعضهم بالصديق في رده على أهل الردة ، حتى رجعوا إلى الدين ، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية . وهو أظهر السنة بعد البدعة ، وأخمد البدعة بعد انتشارها واشتهارها ، فرحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور ، فقال : [ ص: 455 ] آلمتوكل ؟ ! فقال : المتوكل . قال : فما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى الخطيب عن صالح بن أحمد أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء ، وقائلا يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ملك يقاد إلى مليك عادل     متفضل في العفو ليس بجائر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن عمرو بن شيبان الحلبي قال : رأيت ليلة قتل المتوكل قائلا يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا نائم العين في أقطار جثمان     أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلوا     بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وافى إلى الله مظلوما فضج له     أهل السماوات من مثنى ووحدان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسوف تأتيكم أخرى مسومة     توقعوها لها شأن من الشان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم     فقد بكاه جميع الإنس والجان

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فأصبحت فأخبرت الناس ، فجاء نعيه أنه قتل في تلك الليلة . قال : ثم [ ص: 456 ] رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل ، فقلت : ما فعل بك ربك ؟ فقال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها . قلت : فما تصنع هاهنا ؟ قال : أنتظر ابني محمدا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكرنا قريبا كيفية مقتله ، وأن ابنه محمدا المستنصر مالأ جماعة من الأمراء على قتله في ليلة الأربعاء أول الليل ، لأربع خلت من شوال من هذه السنة أعني سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية ، وهي الماحوزة . وصلي عليه يوم الأربعاء ودفن بالجعفرية ، وله من العمر أربعون سنة ، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام . وكان أسمر ، حسن العينين ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين ، أقرب إلى القصر . والله سبحانه أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية