الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على " أقسام " : منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم فيبدأ بالخوارج . ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه كعبد الله ابنه ونحوه وكالخلال وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما وكأبي الفرج المقدسي وكلا الطائفتين تختم بالجهمية ; لأنهم أغلظ البدع وكالبخاري في صحيحه فإنه بدأ بـ " كتاب الإيمان والرد على المرجئة " وختمه " بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية " . [ ص: 50 ] ولما صنف الكتاب في الكلام صاروا يقدمون التوحيد والصفات فيكون الكلام أولا مع الجهمية وكذلك رتب أبو القاسم الطبري كتابه في أصول السنة والبيهقي أفرد لكل صنف مصنفا فله مصنف في الصفات ومصنف في القدر ومصنف في شعب الإيمان ومصنف في دلائل النبوة ومصنف في البعث والنشور وبسط هذه الأمور له موضع آخر . والمقصود هنا أن منشأ النزاع في " الأسماء والأحكام " في الإيمان والإسلام أنهم لما ظنوا أنه لا يتبعض قال أولئك : فإذا فعل ذنبا زال بعضه فيزول كله فيخلد في النار فقالت الجهمية والمرجئة : قد علمنا أنه ليس يخلد في النار وأنه ليس كافرا مرتدا ; بل هو من المسلمين وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنا تام الإيمان [ ليس ] معه بعض الإيمان ; لأن الإيمان عندهم لا يتبعض فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئا واحدا يشترك فيه جميع أهل القبلة فقال فقهاء المرجئة : هو التصديق بالقلب والقول باللسان فقالت الجهمية بعد تصديق اللسان قد لا يجب إذا كان الرجل أخرس أو كان مكرها فالذي لا بد منه تصديق القلب وقالت المرجئة : الرجل إذا أسلم كان مؤمنا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال . وأنكر كل هذه الطوائف أنه " ينقص " والصحابة قد ثبت عنهم [ ص: 51 ] أن الإيمان يزيد وينقص وهو قول أئمة السنة وكان ابن المبارك يقول : هو يتفاضل ويتزايد ويمسك عن لفظ ينقص وعن مالك في كونه لا ينقص روايتان والقرآن قد نطق بالزيادة في غير موضع ودلت النصوص على نقصه كقوله : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } ونحو ذلك لكن لم يعرف هذا اللفظ إلا في قوله في النساء { ناقصات عقل ودين } وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص . وذلك أن أصل أهل السنة أن الإيمان يتفاضل من وجهين : من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العبد .

                أما " الأول " فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة فكان من الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة .

                و " أيضا " فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب [ ص: 52 ] على غيره إلا مجملا وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان وهذا من أصول غلط المرجئة ; فإنهم ظنوا أنه شيء واحد وأنه يستوي فيه جميع المكلفين فقالوا : إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء ; كما أنه إذا تلفظ الفاسق بالشهادتين أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس . فيقال لهم : قد تبين أن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده يتنوع ويتفاضل ويتباينون فيه تباينا عظيما فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم ويجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط ; بل ومن التصديق والإقرار .

                فإن الناس وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلا وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها فيجب عليه من الإيمان [ ص: 53 ] والعمل ما لا يجب على غيره وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر الله به من الزكاة ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره فيجب عليه من العلم والإيمان والعمل ما لا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان وإن جعل جميع ذلك داخلا في مسمى الإيمان كان أبلغ فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره .

                ولهذا كان من الناس من قد يؤمن بالرسول مجملا فإذا جاءت أمور أخرى لم يؤمن بها فيصير منافقا مثل طائفة نافقت لما حولت القبلة إلى الكعبة وطائفة نافقت لما انهزم المسلمون يوم أحد ونحو ذلك . ولهذا وصف الله المنافقين في القرآن بأنهم آمنوا ثم كفروا كما ذكر ذلك في سورة المنافقين وذكر مثل ذلك في سورة البقرة فقال : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } وقال طائفة من السلف : عرفوا ثم أنكروا وأبصروا ثم عموا .

                فمن هؤلاء من كان يؤمن أولا إيمانا مجملا ثم يأتي أمور لا يؤمن [ ص: 54 ] بها فينافق في الباطن وما يمكنه إظهار الردة بل يتكلم بالنفاق مع خاصته وهذا كما ذكر الله عنهم في الجهاد فقال : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } . و " بالجملة " فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء { ناقصات عقل ودين } وقال في نقصان دينهن : { إنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي } وهذا مما أمر الله به فليس هذا النقص دينا لها تعاقب عليه لكن هو نقص حيث لم تؤمر بالعبادة في هذا الحال والرجل كامل حيث أمر بالعبادة في كل حال فدل ذلك على أن من أمر بطاعة يفعلها كان أفضل ممن لم يؤمر بها وإن لم يكن عاصيا فهذا أفضل دينا وإيمانا وهذا المفضول ليس بمعاقب ومذموم فهذه زيادة كزيادة الإيمان بالتطوعات ; لكن هذه زيادة بواجب في حق شخص وليس بواجب في حق شخص غيره فهذه الزيادة لو تركها بهذا لا يستحق العقاب بتركها وذاك لا يستحق العقاب بتركها ولكن إيمان ذلك أكمل . قال النبي صلى الله عليه وسلم { أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا } . [ ص: 55 ] فهذا يبين تفاضل الإيمان في نفس الأمر به وفي نفس الأخبار التي يجب التصديق بها .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية