الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل السادس : حديث الوصية

          فإن قلت : قد تقررت عصمته - صلى الله عليه وسلم - في أقواله في جميع أحواله ، وأنه لا يصح منه فيها خلف ، ولا اضطراب في عمد ولا سهو ولا صحة ولا مرض ولا جد ولا هزل ولا رضى ولا غضب . ولكن ما معنى الحديث في وصيته - صلى الله عليه وسلم - الذي حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي - رحمه الله - ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، وأبو الهيثم ، وأبو إسحاق ، قالوا : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا عبد الرزاق بن همام ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما احتضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي البيت رجال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده .

          فقال بعضهم : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع
          . . . الحديث .

          وفي رواية : آتوني أكتب لكم كتابا لن [ ص: 524 ] تضلوا بعدي أبدا ، فتنازعوا فقالوا : ما له أهجر ! استفهموه ، فقال دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير .

          وفي بعض طرقه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يهجر .

          وفي رواية : هجر . ويروى : أهجر . ويروى : أهجرا .

          وفيه فقال عمر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اشتد به الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا .

          وكثر اللغط ، فقال : قوموا عني
          .

          وفي رواية : واختلف أهل البيت ، واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا .

          ومنهم من يقول ما قال عمر
          .

          قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي - صلى الله عليه وسلم - غير معصوم من الأمراض ، وما يكون من عوارضها من شدة وجع وغشي ، ونحوه مما يطرأ على جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، ويؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان أو اختلال كلام .

          وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجر إذ معناه هذى يقال : هجر هجرا ، إذا هذى . وأهجر هجرا ، إذا أفحش ، وأهجر تعدية هجر ، وإنما الأصح ، والأولى أهجر ؟ على طريق الإنكار على من قال : لا يكتب .

          وهكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث الزهري المتقدم ، وفي حديث محمد بن سلام ، عن عيينة ، وكذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه ، وغيره من هذه الطرق ، وكذا رويناه عن مسلم في حديث سفيان وعن غيره .

          وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام ، والتقدير :

          أهجر ؟ أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك ، وحيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وشدة وجعه ، وهو المقام الذي اختلف فيه عليه ، والأمر الذي هم بالكتاب فيه ، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه ، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر ، كما حملهم الإشفاق على حراسته ، والله - تعالى - يقول : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] ، ونحو هذا .

          وأما على رواية : أهجرا ؟ وهي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير ، عن ابن عباس ، من رواية قتيبة فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده - صلى الله عليه وسلم - ، ومخاطبة [ ص: 525 ] لهم من بعضهم ، أي جئتم باختلافكم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبين يديه هجرا ، ومنكرا من القول .

          والهجر بضم الهاء : الفحش في المنطق .

          وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث ، وكيف اختلفوا بعد أمره لهم - عليه السلام - أن يأتوه بالكتاب ، فقال بعضهم : أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن ، فلعله قد ظهر من قرائن قوله - صلى الله عليه وسلم - لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة ، بل أمر رده إلى اختيارهم ، وبعضهم لم يفهم ذلك ، فقال : استفهموه ، فلما اختلفوا كف عنه ، إذا لم يكن عزمة ، ولما رأوه من صواب رأي عمر ، ثم هؤلاء قالوا ، ويكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، وأن تدخل عليه مشقة من ذلك ، كما قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتد به الوجع .

          وقيل : خشي عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ، ورأى أن الأوفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد ، وحكم النظر ، وطلب الصواب ، فيكون المصيب ، والمخطئ مأجورا .

          وقد علم عمر تقرر الشرع ، وتأسيس الملة ، وأن الله - تعالى - قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . وقوله - صلى الله عليه وسلم - أوصيكم بكتاب الله ، وعترتي .

          وقول عمر : حسبنا كتاب الله رد على من نازعه ، لا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

          وقد قيل : إن عمر خشي تطرق المنافقين ، ومن في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة ، وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية ، وغير ذلك .

          وقيل : إنه كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم على طريق المشورة ، والاختيار . هل يتفقون على ذلك أم يختلفون ؟ فلما اختلفوا تركه .

          وقالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مجيبا في هذا الكتاب لما طلب منه ، لا أنه ابتدأ بالأمر به ، بل اقتضاه منه بعض أصحابه ، فأجاب رغبتهم ، وكره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها .

          واستدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي : انطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن كان الأمر فينا علمناه ، وكراهة علي هذا وقوله : والله لا أفعل . . . الحديث .

          واستدل بقوله : دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير ، أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر ، وترككم ، وكتاب [ ص: 526 ] الله . وأن تدعوني مما طلبتم .

          وذكر أن الذي طلب كتابة أمر الخلافة بعده ، وتعيين ذلك .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية