الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 176 ] فصل

[ من أفطر عامدا في رمضان ]

ومن جامع أو جومع في أحد السبيلين عامدا ، أو أكل أو شرب عامدا غذاء أو دواء وهو صائم في رمضان عليه القضاء والكفارة مثل المظاهر ، وإن جامع فيما دون السبيلين أو بهيمة ، أو قبل ، أو لمس فأنزل ، أو احتقن ، أو استعط ، أو أقطر في أذنه ، أو داوى جائفة ( سم ) أو آمة فوصل إلى جوفه أو دماغه ، أو ابتلع الحديد ، أو استقاء ( م ز ) ملء فيه ، أو تسحر يظنه ليلا والفجر طالع ، أو أفطر يظنه ليلا والشمس طالعة فعليه القضاء لا غير ، وإن أكل أو شرب أو جامع ناسيا ، أو نام فاحتلم ، أو نظر إلى امرأة فأنزل أو ادهن أو اكتحل ، أو قبل ، أو اغتاب ، أو غلبه القيء ، أو أقطر في إحليله ( س ) ، أو دخل حلقه غبار أو ذباب ، أو أصبح جنبا لم يفطر ، وإن ابتلع طعاما بين أسنانه مثل الحمصة أفطر وإلا فلا ، ويكره للصائم مضغ العلك والذوق والقبلة إن لم يأمن على نفسه .

التالي السابق


فصل

( ومن جامع أو جومع في أحد السبيلين عامدا ، أو أكل أو شرب عامدا غذاء أو دواء وهو صائم في رمضان عليه القضاء والكفارة مثل المظاهر ) ولا خلاف في وجوب القضاء ووجوب الكفارة بالجماع للإجماع . ولقوله - عليه الصلاة والسلام - للأعرابي حين قال : واقعت أهلي في نهار [ ص: 177 ] رمضان متعمدا - : " أعتق رقبة " ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : " من أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر " ولا يشترط الإنزال لوجود الجماع دونه . وروى الحسن عن أبي حنيفة عدم وجوب الكفارة في الإيلاج في الدبر اعتبارا بالحد ، والصحيح الأول لقضاء الشهوة على الكمال . وأما المرأة فيجب عليها إذا كانت مطاوعة لعموم الحديث الثاني . ولأن هذا الفعل يقوم بهما ، فيجب عليها ما يجب عليه كالغسل والحد ، وإن كانت مكرهة لا كفارة عليها كما في النسيان لاستوائهما في الحكم بالحديث ، ولو أكرهت زوجها فجامعها يجب عليهما .

وعن محمد : لا كفارة عليه للإكراه ، ولو علمت بطلوع الفجر دونه وكتمته عنه حتى جامعها فالكفارة عليها خاصة . وأما وجوبها بالأكل والشرب بالغذاء والدواء فللحديث المتقدم وهذا قد أفطر . وروى أبو داود : أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : شربت في نهار رمضان ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " من غير سفر ولا مرض ؟ " قال : نعم ، فقال له : " أعتق رقبة " وهذا نص في الباب . وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنما الكفارة في الأكل والشرب والجماع ، فإن حاضت المرأة ، أو مرض الرجل مرضا يبيح له الفطر سقطت الكفارة ؛ لأنه تبين أن صوم ذلك اليوم لم يكن مستحقا عليه صومه ، والكفارة إنما تجب بإفساد صوم مستحق عليه ، بخلاف السفر لأن الكفارة وجبت حقا لله تعالى فلا يقدر على إبطالها ، بخلاف الحيض والمرض لأنه ليس منه ، ولو سوفر به مكرها لا يسقط أيضا . وقال زفر : يسقط كالمرض والحيض ، وجوابه أنه حصل من غير صاحب الحق فلا يجعل عذرا ، بخلاف المرض والحيض .

قال : ( وإن جامع فيما دون السبيلين ، أو بهيمة . أو قبل أو لمس فأنزل ، أو احتقن ، أو [ ص: 178 ] استعط ، أو أقطر في أذنه ، أو داوى جائفة أو آمة فوصل إلى جوفه أو دماغه ، أو ابتلع الحديد ، أو استقاء ملء فيه ، أو تسحر يظنه ليلا والفجر طالع ، أو أفطر يظنه ليلا والشمس طالعة ، فعليه القضاء لا غير ) أما الجماع فيما دون السبيلين أو البهيمة مع الإنزال ، والإنزال باللمس ، والقبلة فلقضاء إحدى الشهوتين ، وأنه ينافي الصوم ، ولا تجب الكفارة لتمكن النقصان في قضاء الشهوة ، والاحتياط في الصوم الإيجاب لكونه عبادة ، وفي الكفارات الدرء لأنها من الحدود . وأما الاحتقان والاستعاط والإقطار في الأذن ، ودواء الجائفة والآمة ، فلوصول المفطر إلى الداخل ، وهو ما فيه مصلحة البدن من الغذاء أو الدواء .

قال - عليه الصلاة والسلام - : " الفطر مما دخل " ولو أقطر الماء في أذنه لا يفطر لعدم الصورة والمعنى ، بخلاف الدهن لوجوده معنى ، وهو إصلاح الدماغ .

وقال أبو يوسف ، ومحمد : لا يفسد الصوم في الجائفة والآمة ؛ لأن الشرط عندهما الوصول من منفذ أصلي ، ولعدم التيقن بالوصول لاحتمال ضيق المنفذ وانسداده بالدواء وصار كاليابس ، وله أن رطوبة الدواء إذا اجتمعت مع رطوبة الجراحة ازداد سيلانا إلى الباطن فيصل ، بخلاف اليابس لأنه ينشف الرطوبة فينسد فم الجراحة . قال مشايخنا : والمعتبر عنده الوصول حتى لو علم بوصول اليابس فسد ، ولو علم بعدم وصول الرطب لا يفسد . وأما إذا ابتلع الحديد فلصورة الإفطار ، ولا كفارة لانعدامه معنى .

وأما إذا استقاء ملء فيه فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ومن قاء فلا قضاء عليه ، ومن استقاء فعليه القضاء " روي ذلك عن عكرمة مرفوعا وموقوفا ، وعند محمد وزفر يفسده وإن لم يملأ الفم ، ولم يفصل بينهما في ظاهر الرواية لإطلاق الحديث ، والصحيح الفصل ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة ؛ لأن ما دون ملء الفم تبع للريق كما لو تجشأ ولا كذلك ملء الفم .

وأما إذا تسحر يظنه ليلا والفجر طالع ، أو أفطر يظنه ليلا والشمس طالعة فإنما يفطر لفوات الركن وهو الإمساك ولا كفارة لقيام العذر وهو عدم التعمد ، والكفارة على الجاني ولو جومعت النائمة المجنونة فسد صومهما لوجود المفطر ، ولا كفارة لعدم التعمد ، ولو استمنى بكفه أفطر لوجود الجماع معنى ، ولا كفارة لعدم الصورة .

[ ص: 179 ] قال : ( وإن أكل أو شرب أو جامع ناسيا ، أو نام فاحتلم ، أو نظر إلى امرأة فأنزل ، أو ادهن ، أو اكتحل ، أو قبل ، أو اغتاب ، أو غلبه القيء ، أو أقطر في إحليله ، أو دخل حلقه غبار أو ذباب ، أو أصبح جنبا لم يفطر ) أما الأكل والشرب والجماع ناسيا ، فالقياس أن يفطر لوجود المنافي ، وجه الاستحسان قوله - عليه الصلاة والسلام - للذي أكل وشرب ناسيا وهو صائم : " تم على صومك إنما أطعمك ربك وسقاك " وفي رواية " أنت ضيف الله " فإن ظن أن ذلك يفطره فأكل متعمدا فعليه القضاء دون الكفارة ؛ لأنه ظن في موضع الظن ، وهو القياس فكان شبهة . وعن محمد : إن بلغه الحديث ثم أكل متعمدا فعليه الكفارة لأنه لا شبهة حيث أمره - عليه الصلاة والسلام - بالإتمام . وروى الحسن عن أبي حنيفة : لا كفارة عليه لأنه خبر واحد لا يوجب العلم .

وأما إذا نام فاحتلم لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ثلاث لا يفطرن الصائم : القيء ، والحجامة ، والاحتلام " رواه الخدري ، ولأنه لا صنع له في ذلك فكان أبلغ من الناسي ; والإنزال بالنظر كالاحتلام من حيث عدم المباشرة ، فإنه مقصور عليه لا اتصال له بغيره . وأما الدهن فإنه يستعمل ظاهر البدن كالاغتسال .

وأما الكحل فلما روى أبو رافع أنه - عليه الصلاة والسلام - دعا بمكحلة إثمد في رمضان فاكتحل وهو صائم .

وأما القبلة فلما روت عائشة " أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقبل وهو صائم " .

وأما الغيبة فلعدم وجود المفطر صورة ومعنى ، فإن ظن أن ذلك يفطر فأكل متعمدا فعليه [ ص: 180 ] القضاء والكفارة ، بلغه الحديث أو لم يبلغه ؛ لأن كون الغيبة غير مفطرة قلما يشتبه على أحد لكونه على مقتضى القياس ، ولأن العلماء أجمعوا على أن الغيبة لا تفطر ، ولا اعتبار بالحديث في مقابلة الإجماع . وأما إذا غلبه القيء فلما تقدم من الحديث .

وأما الإقطار في الإحليل فعندهما لا يفطر . وقال أبو يوسف : يفطر بناء على أن بينه وبين الجوف منفذا بدليل خروج البول ، والأصح أن ليس بينهما منفذ ، بل البول يترشح إلى المثانة ثم يخرج ، وما يخرج رشحا لا يعود رشحا فلا يصل ، والخلاف إذا وصل إلى المثانة ، أما إذا وقف في القصبة لا يفطر بالإجماع . وأما دخول الغبار والذباب فلأنه لا يمكن الاحتراز عنه .

وأما إذا أصبح جنبا فلما روت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبا من غير احتلام وهو صائم ، ولأن الله تعالى أباح المباشرة جميع الليل بقوله : ( فالآن باشروهن ) الآية . ومن ضرورته وقوع الغسل بعد الصبح .

قال : ( وإن ابتلع طعاما بين أسنانه مثل الحمصة أفطر وإلا فلا ) لأن ما بين الأسنان لا يستطاع الامتناع عنه إذا كان قليلا فإنه تبع لريقه ، بخلاف الكثير وهو قدر الحمصة لأنه لا يبقى مثل ذلك عادة فلا تعم به البلوى فيمكن الاحتراز عنه .

قال : ( ويكره للصائم مضغ العلك والذوق والقبلة إن لم يأمن على نفسه ) أما مضغ العلك لما فيه من تعريض صومه للفساد ، وهذا في العلك الملتصق بعضه ببعض ، أما إذا كان غير ملتئم فإنه يفطره ؛ لأنه لا يلتئم إلا بانفصال أجزاء تنقطع منه وذلك مفسد للصوم . وأما الذوق لأنه لا يأمن أن يدخل إلى جوفه . وأما القبلة لما روي : أن شابا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة للصائم فمنعه ، وسأله شيخ فأذن له ، فقال الشاب : إن ديني ودينه واحد ، قال : " نعم ، ولكن الشيخ يملك نفسه " ، ولأنه إذا لم يأمن على نفسه ربما وقع في الجماع ؛ فيفسد صومه وتجب الكفارة وذلك مكروه ، والمباشرة كالقبلة ، ويكره للمرأة مضغ الطعام لصبيها لما فيه من تعريض الصوم للفساد ، [ ص: 181 ] فصل

فإن لم يكن لها منه بد فلا بأس ؛ لأنه لما جاز لها الإفطار إذا خيف عليه ، فلأن يجوز لها المضغ كان أولى .




الخدمات العلمية