الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          اليهود والتحالف مع الأقوياء

          الدكتور / نعمان عبد الرازق السامرائي‏

          تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة

          الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه، وحفظه من التحريف والتبديل والعبث البشري، الذي لحق بالكتب السماوية السابقة، وهيأ له أوعية الحفظ من كتبة الوحي وحفظته في كل جيل: " كتابا وقرآنا " ؛ فكان النص الديني الوحيد، الذي وصل بطريق علمي صحيح، ورد بالتواتر الذي يفيد قطعية الثبوت، وعلم اليقين، فاكتسب بذلك خصوصية المعيارية، وصفة التقويم للكتب السماوية السابقة ( مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة: 48) .. وشكل الأمة التي تمتلك القيم والمبادئ الصحيحة الثابتة، التي تجعل منها الأمة المعيار أيضا، في ثقافتها وحضارتها، ووسطيتها واعتدالها ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة: 143) . لذلك كان التقويم والنقد والشهادة والمراجعة والتصويب، من خصائص هـذه الأمة ومؤهلاتها، بما تمتلك من معايير، ووظيفتها ومسئوليتها وتكليفها لاستنقاذ الناس، وإلحاق الرحمة بهم، وقيادتهم إلى الخير والحق ( لتكونوا شهداء على الناس )

          والصلاة والسلام على النبي الخاتم الذي حذر الأمة المسلمة من السقوط في الارتهان الثقافي، والاستلاب الحضاري، بسبب عدم استمساكها بقيمها المعيارية، وغلبة التقليد الجماعي والمحاكاة والتخاذل الفكري، ( بقوله: لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى أنهم لو [ ص: 7 ] دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله: آليهود والنصارى؟.. قال: فمن!؟.. ) (رواه مسلم ) .. المبعوث كافة للناس بشيرا ونذيرا، والذي كانت الغاية من ابتعاثه؛ إلحاق الرحمة بالعالمين: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء: 107) .. وبذلك تكافأت الفرص، وألغيت الفوارق القسرية، من الألوان والأجناس والأقوام التي تورث التعصب، وتثير العداوة، وربطت كرامة الإنسان وفضله بكسبه وتقواه: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات: 13) فتأصلت المساواة التي هـي روح الحضارة الإسلامية.. وبعد:

          فهذا كتاب الأمة الثاني والثلاثون: (اليهود والتحالف مع الأقوياء) ، للأخ الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي في سلسلة الكتب، التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات برئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر، مساهمة في إعادة تشكيل الشخصية المسلمة المعاصرة، وبناء الأمة المعيار، وتبصيرها برسالتها، ووظيفتها، وموقعها الحضاري، وفك قيود التحكم الثقافي، ومعالجة أسباب التخاذل والتقليد الجماعي، وفتح مجالات الاجتهاد الفكري الفقهي، في محاولة لاسترداد دورها في الشهادة على الناس، والقيادة لهم، وإلحاق الرحمة بهم، ومنحها القدرة على قراءة التاريخ العام بأبجدية سليمة، وحماية تاريخها من النهب الثقافي والحضاري، ومن ثم صناعة التاريخ في ضوء سنن الله الفاعلة في الأنفس والآفاق، استجابة لتكليف الله بقوله: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (آل عمران: 137) ، والاضطلاع بهذا الفرض الكفائي، ذلك أن التاريخ هـو المختبر الحقيقي في إطار علوم الإنسان، وهو الأب الشرعي للعلوم الاجتماعية التي لا بد من الرسوخ فيها، ومعرفة قوانينها وسننها، التي تحدد المداخل الصحيحة للشهود الحضاري، والتحويل الثقافي، وتقود إلى صناعة تاريخية مستقبلية علمية، بعيدة عن التنبؤ والظن والتخمين، وتحدد خصائص [ ص: 8 ] وصفات الأمم في المجال الإنساني، التي تمكن من التعامل معها في ضوء تلك اليقينيات التاريخية التي هـي أشبه ما تكون -وإلى حد بعيد- بنتائج التجارب المعملية في العلوم التطبيقية.

          والتاريخ -كما هـو معلوم- لا يأتي من فراغ، ولا ينشأ في فراغ، وليست حوادثه عبثا من العبث، وإنما هـو في الحقيقة يمثل الاستجابة الطبيعية، والصور التطبيقية المجسدة لعقيدة الأمة، وقيمها، ونظرتها للحياة والكون والإنسان، أو ما يمكن أن نطلق عليه: عالم أفكارها، أو تشكيلها الثقافي، والذي يعتبر التاريخ إحدى الوسائل التي تشكله، والثمرات التي تتشكل به.. لذلك يعتبر التاريخ أحد المداخل الرئيسة التي لا بد من استصحابها لإدراك حقائق الحاضر وأبعاده العميقة، بعيدا عن الصور، وما يعتريها من الإيهام والزيف، خاصة عند من يمتلكون القدرة على التكيف، والتشكل، والمخادعة..

          كما لا بد من استصحابه مع وضع الحاضر في موقعه الملائم من المسيرة التاريخية، لقراءة المستقبل قراءة صحيحة، وتقدير ما سوف يصير إليه، في ضوء المقدمات والعبر التي يوفرها التاريخ ويؤكدها الحاضر..

          لذلك نعتقد: أننا حتى نتمكن من إدراك الأبعاد الحقيقية لأية أمة من الأمم، أو حضارة من الحضارات، لا بد لنا من دراسة عقيدتها، التي تشكل نظرتها للحياة، ومنظومتها الفكرية (عالم أفكارها) ، أي: الإنتاج الفكري الذي يضع الأوعية الفكرية المستمدة من تلك العقيدة، والذي يمثل الاتجاهات والمحددات الرئيسة لحركة الأمة، وصناعة تاريخها، وتجسيد عقيدتها في فعل وممارسة. ومن ثم لا بد لنا أيضا من دراسة تاريخها الذي يحدد لنا بدقة نصيب العقيدة من التطبيق والواقع، أي أثر العقيدة في صياغة الأمة، وتشكيلها الثقافي، وتنظيم حركة الحياة فيها.. وهنا نصل إلى السؤال الملح والأهم: ما هـو نصيب الحاضر من العقيدة؟ وكيف يمكن تحديد موقعه من المسيرة التاريخية؟ فإذا أدركنا هـذه المقدمات تماما، وبشكل موضوعي بعيد عن [ ص: 9 ] الأماني والرغبات، واكتشفنا من خلال إدراكها أن المسيرة البشرية ليست عبثا من العبث، وإنما تحكمها سنن وقوانين، وأقدار لا تتخلف، استطعنا استشراف المستقبل، والمدى الذي يمكن لنا بلوغه، ومن ثم وسائل التأثير في الفعل البشري، وصناعة تاريخ المستقبل، والفرار من قدر إلى قدر، ومغالبة قدر بقدر، للوصول إلى امتلاك القدرة على المداخلة المأمولة في مقدمات السنن والقوانين البشرية قبل أن نحكم بنتائجها.

          إننا بهذا الفقه الحضاري، أو العلم بالعقائد والثقافة التاريخية، وعلم المجتمع البشري، نكون قادرين على التعامل الصحيح، وتحديد الأبعاد والمداخل الصحيحة للتعامل، والمجالات المؤثرة في التغيير والتحويل الثقافي، والحكم على الأمم والشعوب والحضارات، ذلك أن المعرفة المحيطة (بالآخر) أصبحت اليوم من الأبجديات، والحواس التي لا يستغنى عنها لأي باحث، أو دارس، أو سياسي، أو مثقف، أو صاحب قرار.. ولذلك نرى أن مراكز البحوث والدراسات، هـي التي تقدم الخرائط الفكرية، وأدلة العمل والتعامل، للمعاهد والجامعات، ومراكز القرار، ومؤسسات التنصير، والتجسس، والتحكم الثقافي، فهي في استقرائها لواقع الشعوب والأمم، ومسحها الاجتماعي لتجاربها وثقافاتها، وتوفير التخصص بالعقائد والأفكار والثقافات المتنوعة، واللغات المختلفة، كأدوات للتفكير وليست للتعبير فقط، ومن ثم تحليلها للمعلومات، توفر الحقائق الدقيقة التي هـي بالنسبة لجامعات الدراسات الإنسانية ومؤسساتها، أشبه بالمخابر المعملية بالنسبة لجامعات ومعاهد الدراسات التطبيقية.

          لذلك نحسب أن العدول عن هـذه المحددات المعرفية، تحت شتى المعاذير والفلسفات، سوف يوقع بالفشل في التعامل، والإحباط في النتيجة، والخيبة في المسعى، حتى لو ترافق ذلك مع المزيد من التوثب الروحي، والإخلاص الأمي الأعمى، والفهم الديني المعوج -الذي يورث التدين المغشوش- لقولة الرسول صلى الله عليه وسلم: [ ص: 10 ] (نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب) ، وادعاء بعضهم أننا انتصرنا على حضارات كانت متمكنة من العلوم والمعارف على الرغم من أميتنا وعدم معارفنا وعلومنا ! وكأن الأمية ضربة لازب على العقل المسلم، أو تكليف شرعي نخشى أن يقول صاحبه: إن الخارج عليه يمكن أن يكون خارجا عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما هـو الحال عند بعض المغفلين والمتنطعين، الذين يعيشون بعيدا عن الرصيد العلمي والفكري للحضارة الإسلامية، وكل النصوص الدينية التي تنهى الإنسان المسلم أن يقفو ما ليس له به علم.

          وأحسب أننا نحن مسلمي اليوم، على الرغم مما نمتلك من الرصيد الفكري والتاريخي والواقعي عن يهود، أحسب أن الكثير منا ما يزال يتعامل مع قضية يهود على غير بيان، وهدى، وموعظة، وعلم؛ أو من خلال التشكيل الثقافي الخاص الذي فعلته فينا مناهج التربية والتعليم والإعلام الخارجة عن النسق الإسلامي، والتي لم تكن أصابع يهود بعيدة عن التمهيد لها؛ أو من خلال الأماني والإرادات الرغائبية، البعيدة عن أي حيثيات علمية، والتي غالبا ما يلتبسها الخلط لمختلف جوانب التعامل وطرائقه، وظروفه، وشروطه، الأمر الذي حمل لنا الكثير من النتائج الخاسرة، والمضاعفات السيئة، والإحباطات المستمرة، والتناقضات العجيبة، وذلك بسبب العجز عن التعامل من خلال ثوابت معينة قررتها العقيدة، واختبرها التاريخ، وصدقها الواقع.. وإن صدق هـذا على الذهنية الإسلامية المعاصرة التي تشكلت وصيغت خارج النمط المعرفي الإسلامي في تعاملها بشكل عام، فإنه أشد صدقا ووضوحا في علاقتنا مع يهود، التي يحكمها تاريخ طويل، ونماذج تطبيقية شتى في أكثر من ظرف، وأكثر من عصر.

          والقضية التي نرى أنه لا بد من الإلحاح عليها، وتأكيدها باستمرار، لأنها أصبحت غائبة عمليا عن الذهنية الإسلامية المعاصرة، هـي: خاصية خلود النص القرآني، وتجرده عن حدود الزمان والمكان، وأن أصول القضايا والمشكلات التي عرض لها، هـي أصول خالدة لا تخص عصرا بعينه، [ ص: 11 ] وأن العصر الأول، فترة السيرة والخلافة الراشدة -مرحلة القدوة- وسيلة إيضاحها، وبيان كيفية تنزيلها على الواقع، ومن ثم تعدية الرؤية للمستقبل.. والخلود يعني، فيما يعني: أنها حقائق مستمرة، لها شواهدها في كل عصر.. فالعدول عن تمثلها، أو افتقاد القدرة على تمثلها، يعني محاصرة خلود القرآن بعصر من بعض الوجوه، وإسقاطا لبعدي الزمان والمكان في التنزيل، وفصل النص الديني عن مسيرة الحياة، وتوجيه مسالك الأحياء، من وجوه أخرى.

          والخلود يعني فيما يعني أيضا: أن المعادلات الاجتماعية وسنن الله في الأنفس والآفاق التي وردت في القرآن، أمور يقينية، ماضية في الحياة، كخصائص وصفات المادة، في قوانينها الفيزيائية، ومعادلاتها الكيميائية إلى حد بعيد.. وفي اعتقادنا أن المسلمين لا يزالون يؤتون، كلما غابت عنهم هـذه الحقائق، أو غيبت، بسبب من التضليل الثقافي، أو التشكيل التربوي الخارج عن النسق الإسلامي.

          وقد يمثل هـذا التشكيل المغلوط، أو هـذا التضليل الثقافي، لونا أو بعضا من الخروج عن الدين، ويلحق إصابات بالغة في الدين، حتى ولو كان صاحبه يصوم ويصلي، ويحج ويزكي، ذلك أن حالة الخزي والتخاذل التي نعيشها اليوم، إنما هـي بسبب هـذا التبعيض، وعدم أخذ الحيطة التي أشار إليها القرآن بقوله: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائدة: 49) .. لقد حذر من التنازل عن بعض ما أنزل الله، كما حذر أيضا من الوقوع في علل التدين للأمم السابقة بقوله: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة: 85) .

          ومعاذ الله أن نعتبر المعادلات الاجتماعية، ويقينيات القصص القرآني عن الأمم السابقة، والسنن والأقدار التي شرعها الله لحكم الحياة والأحياء، هـي بعض القرآن، الذي يمكن التساهل فيه ! [ ص: 12 ] وإنما هـي من المحاور الرئيسة التي تتحرك ضمن إطارها الحياة البشرية، والتي جعل القرآن معيارها: (مهيمنا عليه) ، وجعلت أمة القرآن شهيدة عليها، وقائدة لها: ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة: 143) .. فكيف تتحقق الشهادة والقيادة والمعيارية، بدون الرؤية القرآنية الشاملة والخالدة، المجردة عن حدود الزمان والمكان؟!

          من هـنا نقول: إن التقصير، والتخاذل الفكري، تجاه المسألة الاجتماعية وقوانينها، التي بينها القرآن بشكل عام، وتبلورت في القصص القرآني بشكل خاص، وعجز المسلمون عن استنباطها، وتأصيل فقه اجتماعي، أو علم اجتماع إسلامي، هـو السبب في التخلف، والسقوط في الحفر، على الرغم من كل التلاوات القرآنية التي لا يخرج معظمها عن مقاصد التبرك إلى مواقع التدبر، والتبين، والاهتداء، لهذه المعادلات الاجتماعية، ومن ثم الاتعاظ بها، والله يقول: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هـذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) . فأين فقه هـذه السنن القرآنية، وأين الاهتداء إلى إدراكها، وأين الاتعاظ بتجارب الآخرين، الأمر الذي لا بد أن يثمر التقوى، أو الوقاية الاجتماعية؟!

          إن استمرار السقوط والتخلف في عالم المسلمين، على الرغم من تلاوة القرآن، وحفظه، دليل على وجود خلل في أدوات ومناهج التوصيل الذي لم يحقق المأمول، ولم يحملهم إلى التدبر المطلوب الذي يورث الهداية والاتعاظ والوقاية، أو التقوى الحضارية.

          وقد يكون الأولى للمشتغلين بالمسألة الفكرية، والمهتمين بالتشكيل الثقافي، وإعادة بعث الأمة وإحياء مواتها، من الإسلاميين، الذين يكتبون، ويحاضرون، ويتحدثون عن عظمة هـذا الدين -الأمر الذي أصبح يقينا عند معظم المسلمين اليوم- أن يتوقفوا، ولو مرة واحدة، للقيام بعملية التقويم، والمراجعة لطروحاتهم ووسائلهم، في ضوء المتغيرات من حولهم، ومن خلال المشكلات التي يعاني منها المسلم المعاصر عمليا، [ ص: 13 ] ويسألوا أنفسهم السؤال نفسه الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان، رحمه الله: (لماذا تأخر المسلمون؟) ولما تتحقق الإجابة المحددة التي تسهم بالتغيير وتحقيق النقلة النوعية بعد لأننا ما نزال نخلط بين السبب والنتيجة.

          كما عليهم أن يطرحوا على أنفسهم أيضا السؤال التالي: لماذا لم يحدث هـذا الدين العظيم التفاعل والتغيير المطلوب في الواقع الإسلامي؟ ويخرجون من نطاق التعميمات، والإعلانات، والشعارات، والاقتصار على التوجه صوب " الآخر " ، والإلقاء بالتبعة عليه، ويضعون أيديهم على الأسباب الحقيقية التي هـيأت الأمة للإصابة، ومن ثم يقترحون المناهج، والأوعية الفكرية والفقهية العملية، وأدوات التوصيل المطلوبة لإنتاج الأمة المعيار، وتحقيق التدين العظيم الفاعل، المتوازي مع الدين العظيم الذي ما نزال نتحدث عنه، دون أن نغادر مواقع الفكر التعبوي الذي قد يكون استدعته مرحلة استرداد الذات، وتجديد الانتماء للإسلام، واليقين بعظمة هـذا الدين.

          وأعتقد أن المساحة التعبيرية الكبيرة والمتكررة، التي أعطاها القرآن لتاريخ بني إسرائيل، والتي تحكي عمليا قصة وتاريخ النبوة مع البشر، في مجال العقيدة، والعبادة، والسلوك، يمكن أن تعتبر منجما فكريا لا ينضب للبيان، والهدى، والموعظة، والوقاية للأمة المسلمة، التي أورثت الكتاب، وانتقلت إليها القيادة الدينية للعالم بعد بني إسرائيل، إضافة إلى ما قدمته السيرة والتاريخ الإسلامي بشكل عام من مختبرات وتحليلات عملية، لشتى صور التعامل، من ألوان الحوار والمجادلة، والمباهلة والمشاركة، والمعاهدة، والمواجهة ... إلخ، مما لم يدع استزادة لمستزيد.

          وهنا قضية لا بد أن نتوقف عندها قليلا، وهي: أنه على الرغم من كل الكيود والعهود المنقوضة، والممارسات التي أكدت على مدار التاريخ أن اليهود هـم أشد الناس عداوة للمؤمنين: ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ) (المائدة: 82) ، واعتبار الإسلام لهم [ ص: 14 ] أنهم كفار على مستوى العقيدة -وهذا أمر طبيعي متسق مع إقرار حرية الاختيار- إلا أنه اعترف بهم كمواطنين معاهدين، لهم حقوقهم الاجتماعية والإنسانية والدينية، وأقام معهم علاقات اجتماعية متنوعة.. بمعنى: أن الإسلام الذي رفضهم على مستوى العقيدة، اعترف بهم على المستوى الاجتماعي والوطني، وبذلك تميز الإسلام تاريخيا عن ممارسات الدولة الدينية الثيوقراطية ، وكسر أسوار الكهانة، وتسلط الإنسان على الإنسان، وألغى نوازع التعصب، وحمى حرية التدين والاختيار، وقبل في مجتمعه مواطنين لا يؤمنون بعقيدته، الأمر الذي لم تستطعه الدولة الدينية في كل مراحل التاريخ، والذي حمل الكثير من أبناء الأديان الأخرى، وعلى رأسهم اليهود، للجوء إلى الإسلام، والاحتماء به.

          ولا بد من الإشارة هـنا إلى أهمية التمييز بين ما أقره الإسلام لغير المسلم كمواطن معاهد، له حقوقه وعليه واجباته، وبين العدو المحارب في الدين، الذي يحتل الأرض الإسلامية، ويخرج المسلمين من ديارهم، أو يظاهر على إخراجهم، حيث الحكم الشرعي لمثل هـذه الحالة معروف، يقول تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هـم الظالمون ) (الممتحنة: 8-9) .

          إن قصة بني إسرائيل في القرآن، والمساحة التعبيرية الكبيرة التي يفردها لهم، هـي بالنسبة للمسلم دين يلتزم، ويقين يعتمد، لا بد من استمرار حضوره، واليقين بخلوده، الذي يعني تعديته إلى كل عصر.

          كما أن قصة يهود العملية في السيرة، في الظروف المختلفة، تعطي المسلم أيضا آفاقا وأشكالا للتعامل متعددة، كما تمنحه في الوقت نفسه ضرورة الحذر، واستصحاب الرصيد التاريخي الذي لا يجوز أن يحمل إلى مواقع [ ص: 15 ] الظلم والتعصب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داود.

          لقد خاطب القرآن يهود عصر النزول بما فعل آباؤهم وأجدادهم من جرائم ومواقف، وبين علاقاتهم بالنبوة تاريخيا، ليسقطها على واقع تعاملهم مع النبوة الخاتمة، وكأن تلك الخصائص والصفات تنحدر من الآباء إلى الأبناء بحيث أصبحت جبلة تورث، وهي ماضية في الأحفاد أيضا في كل عصر وجيل.. وهذا لا يمنع من أن يكون هـناك من أسلم وحسن إسلامه، لكن الأحكام إنما تكون للأغلبية، كما هـو معروف.

          وخلود القرآن، وتجرده عن حدود الزمان، يعني أن تلك القوانين الاجتماعية، والصفات النفسية، مستمرة استمرار الحياة، وإلا كان القرآن قصصا تاريخيا للمتعة والتسلية ‍ ذلك أن عجزنا عن السير في الأرض، والتوغل في التاريخ، وامتلاك القدرة على التحليل، والقراءة للمعادلات الاجتماعية، لا يعني توقف السنن، أو عطالتها وعدم نفاذها في الحياة ومضيها في الخلق، وإنما يعني أننا أصبحنا خارج نطاق التاريخ والحاضر.. وكثيرا ما نتوهم أن المقابر التي نعيش فيها، مدن تنبض بالحياة‍!

          ونحن الآن، لا ندعي بهذه المساحة البسيطة، أننا سوف نحيط بالرؤية القرآنية الشاملة لبني إسرائيل: عقيدتهم، وخصائصهم، ودورهم في التاريخ العام، والحقائق اليقينية التي يقدمها القصص القرآني عنهم.. كما لا ندعي أيضا أننا نعرض لمواقفهم خلال المسيرة الإسلامية، ابتداء من البعثة، وتحول القيادة الدينية من بني إسرائيل لنكولهم عن حمل الأمانة، ومرورا بالتاريخ الإسلامي المديد، وصولا إلى الحال الذي نحن عليه الآن، على أهمية ذلك وضرورته، وإنما هـي ملامح لا بد من التذكير بها، ونوافذ لا بد من الإطلالة منها، واستحضارها، واستصحابها، لإبصار مجموعة من الحقائق التي يصعب تجاوزها، والقفز من فوقها، خاصة وأننا [ ص: 16 ] نعتقد أن صور العداوة والكيد والمواجهة، بمختلف ميادينها، ستبقى خالدة ومستمرة، خلود النص القرآني المجرد عن حدود الزمان والمكان..

          ولا نقصد بالمواجهة هـنا: المواجهة العسكرية فقط، التي لا تخرج عن أن تكون إحدى الوسائل المطلوب الإعداد لها، حيث هـو الإعداد المطلوب لترهيب العدو، حتى لا تسول له نفسه بالاعتداء والتدمير ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (الأنفال: 60) .. وليس معنى الترهيب هـنا: انتقاص حقه، أو نبذ عهده، أو ترويعه، وهو مسالم معاهد، ذلك أن بناء الشوكة العسكرية الجاهزة لوقت الحاجة، من لوازم إقرار السلم، والعدل، وعدم الاعتداء، وحماية حرية العقيدة والاختيار.. كما أن بناء الشوكة العسكرية لا يغني أيضا عن بناء الشوكة في الميادين المختلفة: الشوكة الفكرية، والشوكة التربوية والثقافية والعلمية ... إلخ، التي تمنح الحصانة، وتحول دون الظلم والعدوان.

          ونعود إلى تأكيد القول: بأن القرآن خاطب يهود البعثة بجرائم آبائهم وأجدادهم، وعرض لممارساتهم مع النبوة، ونكولهم للعهد، وتحريفهم للكلم، وكنزهم للذهب والفضة، وإشاعتهم للربا، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، وادعائهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه ... إلخ، مع أن المسئولية في الإسلام فردية ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (فاطر: 18) ، وكأن هـذه الثقافة، أو هـذه الصفات هـي خصائص متأصلة متوارثة، إلى درجة أصبحت معها وكأنها جبلة لا ينفك عنها يهود، ولعل ذلك التشكل والتوارث كان بسبب توهمهم بأنهم متميزون، وادعائهم أنهم الشعب المختار، الأمر الذي أدى إلى حياتهم المنعزلة عن الآخرين، وتشكيل مجتمعاتهم المغلقة في أحياء وحارات خاصة بهم، وهي سوف تصدق على أحفادهم، كما صدقت عليهم وعلى أجدادهم -كما أسلفنا- وستبقى هـذه الخصائص والصفات متحدرة فيهم، وخالدة على الزمن، تظهر في أشكال من الصراع والمواجهات، وتشتد وتخبو لتأخذ أشكالا من التجسس والتسلل إلى الأفكار، والأحزاب، والتنظيمات، وإفسادها من الداخل، [ ص: 17 ] حتى قيام الساعة، وتغير نظام الحياة.. فهي معارك مستمرة، وجولات دائمة - والشر من لوازم الخير - حتى ينطق الشجر والحجر، ويتغير نظام الدنيا، وتقوم الساعة.. وما أعتقد أن هـذه المساحة التعبيرية في الرؤية القرآنية لمسألة يهود، تخص زمن عصر النبوة، وينتهي الأمر.. لو كان ذلك كذلك لافتقد القرآن سمة الخلود! فاليهود هـم هـم في كل عصر، والخصائص والصفات التي عرض لها القرآن هـي خصائص خالدة، خلود النص القرآني نفسه.

          ولعل فترة السيرة النبوية، مرحلة القدوة، وما حملت لنا من أخبار يهود، في مواجهة الدعوة منذ مراحلها الأولى، والكيد لها، بعد أن جاء النبي الذي كان اليهود يستفتحون به، من العرب، أو من غير الشعب المختار، والصورة المجسدة للتعامل بأشكاله المتعددة، من المجادلة بالتي هـي أحسن، إلى الدعوة إلى كلمة سواء والحوار، إلى المشاركة في وثيقة المدينة، إلى المعاهدات مع القبائل اليهودية، من بني قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، إلى المباهلة بعد العجز عن الوصول إلى الاتفاق، إلى المواجهة العسكرية، إلى التسلل إلى الصف الإسلامي من خلال صناعة النفاق والمنافقين، والتآمر، والكيد، والتشكيك في العقيدة وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض القضايا للإحراج، ومن ثم استقرار الحكم الشرعي والفعل الإسلامي مع ذلك بقبول اليهود كمواطنين معاهدين في المجتمع الإسلامي في كل حقب التاريخ المختلفة، من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام والعراق ، إلى الأندلس ... إلخ، يعطي المسلم تجربة غنية، ورؤية واضحة لكل الأبعاد المطلوبة للتعامل مع يهود؛ وأن المسلمين كلما تحققوا بالرؤية القرآنية، واعتبروا بالواقع العملي في السيرة النبوية، كانوا الأقدر على إعطاء حقوق يهود، والحذر من مكرهم وخداعهم، وكلما ابتعدوا عن الرؤية القرآنية، والعبرة التاريخية، أو غفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم وقعوا في حبائل يهود بشكل أو بآخر، أو تصرفوا معهم تصرفات شاذة ناتجة عن ردود الفعل، إلى درجة قد تكون مرفوضة إسلاميا. [ ص: 18 ]

          وقد لا نحتاج اليوم دليلا على خلود الرؤية القرآنية عامة، وفي مسألة يهود خاصة، فاستقراء التاريخ يؤكدها، وقراءة الحاضر تشهد لها، وبصائر المستقبل تبرهن عليها، مصداقا لقوله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت: 53) .. فعملية استبانة الحق والخلود لا تزال تؤكدها الأيام. وما لم يتحقق المسلمون بالرؤية القرآنية، أو بالرؤية الإسلامية عامة في التعامل مع اليهود، فسوف تستمر الهزائم والخسائر في مختلف الأصعدة، لذلك كان من أولويات اليهود تاريخيا إخراج المسلمين عن دينهم لضمان الغلبة عليهم.. ومحاولات إخراج المسلمين عن دينهم، أخذت أشكالا متعددة ومتنوعة، من محاولات التسلل إلى النص الديني وتأويله من خلال إشاعة الروايات الإسرائيلية التي شحنت بها الكثير من كتب التراث، أو من خلال التسلل إلى الصف الإسلامي وصناعة النفاق، أو من التظاهر بالإيمان لفترة، لتخريب الداخل الإسلامي وتفجيره، وتشكيك أتباعه، قال تعالى: ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، لعلهم يرجعون ) (آل عمران: 72) .

          وقضية تسلل اليهود إلى الأديان، والأفكار، والأحزاب، والعقائد، والتنظيمات، والجماعات، والتنظير لها، والحماسة لأهدافها، وتوزع المواقع والأدوار، والمراهنة عليها جميعا في وقت واحد، لا تحتاج إلى دليل وشاهد، وقد لا نأتي بجديد إذا ذكرنا بدورهم في تخريب النصرانية، وبقصة بولس (شاول) ، الذي كان من أشد الناس عداوة للنصرانية وهو لم ير عيسى عليه السلام ، ولم يسمعه، وكان من أبرز وأنشط المضطهدين للحواريين ، فانقلب فجأة إلى أشد المتحمسين لها، وادعى أن المسيح ظهر له، وطلب إليه إيصال تعاليمه الجديدة إلى النصارى ، فأصبح (بولس الرسول) ، أو (القديس بولس) الذي يشرع للنصارى دينهم!

          وإذا عرفنا أيضا أن ( كالفين ) ، رائد حركة الإصلاح الديني في أوربا، [ ص: 19 ] كان يهودي الأصل، وأن " مارتن لوثر " صاحب حركة الإصلاح الديني، كان يتصرف من خلال إيحاءات أصدقائه اليهود! وأن 60% تقريبا من الأميركيين هـم بروتستانت وأن 15% تقريبا من قسس البروتستانت الذين يمارسون الوعظ يوم الأحد في الكنائس النصرانية من اليهود! وأن البروتستانت يستعملون في صلواتهم التوراة (العهد القديم) ! وأنهم يؤمنون بفكرة أرض الميعاد، وإعادة بناء الهيكل، والوعد الإلهي لإسرائيل!

          وأنهم -أي اليهود- وصلوا في الإطار الكاثوليكي أيضا إلى وثيقة التبرئة المشهورة: تبرئة اليهود من دم المسيح، وإبطال العقيدة والعبادة النصرانية في ذلك الموضوع لقرون طويلة! إذا عرفنا ذلك، أدركنا البعد الديني الذي يتحرك فيه يهود عالميا، سواء في أميركا، أو في بريطانيا، أو في غيرهما من دول أوروبا بعامة (راجع كتاب الأصولية الإنجيلية) .

          حتى أننا لنجد الكثير من تصريحات الزعماء والقادة السياسيين الأميركيين، والغربيين بشكل عام، ومواقفهم، محكومة بالرؤية الدينية التوراتية.. وقد لا يكون المطلوب هـنا الاستقصاء لتلك التصريحات والمواقف، ولكنها نماذج يمكن أن تشكل نافذة كافية، وإثارة مطلوبة من خلال المساحة المتاحة. ويبقى الموضوع مطروحا للاستقصاء والتتبع، وإدراك مدى أهمية التعرف على الخلفية الفكرية والثقافية للعالم الذي نتعامل معه:

          يقول الرئيس الأميركي السابق " رونالد ريغان " لأحد أعضاء اللوبي اليهودي الأميركي: إنني أعود إلى نبوءاتكم القديمة في التوراة، حيث تخبرني الإشارات بأن المعركة الفاصلة بين ا لخير والشر مقبلة.. وأجد نفسي أتساءل: إذا ما كنا الجيل الذي سيشهد وقوع ذلك، إنني لا أعرف إذا ما كنت أنت قد لاحظت هـذه النبوءات مؤخرا.. ولكن صدقني أنها تصف الأوقات التي نجتازها الآن.. (مجلة الأمة، العدد 58، 1985م) .

          ويقول وزير خارجية أميركا الحالي (جيمس بيكر) في معرض سرده لقصة تنشئته الدينية في تكساس : لقد احتلت دولتان على نحو خاص مكانا في ضميرنا، وهما الولايات المتحدة حيث نعيش، وإسرائيل القديمة التي شهدت مولد الديانة المسيحية، ولذا فإن إسرائيل تمثل جزءا من القيم التي أعتز بها (جريدة الخليج، 21 / 3 /1991م) . [ ص: 20 ] أما موضوع المنظمات اليهودية الأميركية، ونشاطاتها المتنوعة تحت شعارات متعددة، فأكثر من أن تحصى أو يحاط بها، حيث يوجد أكثر من مائتي منظمة قومية يهودية في أميركا، مما يجعل اليهود أكثر الأقليات الأميركية تنظيما، وتأثيرا، فلديهم كنس، ومراكز للشبان، ووكالات للعلاقات الطائفية، واتحادات، ومنظمات تمويل، ومجموعات ثقافية وتعليمية، ومحافل أخوية، وجمعيات صداقة، وتنظيمات خيرية، بحيث استطاع اليهود الاندماج في المجتمع الأميركي، والوصول إلى مراكز التأثير والفاعلية فيه، وتشكيل النخبة العالمة والمتحكمة، والتي يصعب معها على أميركا الخروج عن رغبة يهود..

          والاندماج الذي نعنيه هـنا، لا يعني الذوبان وفقدان الهوية، وإنما يعني الدخول في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وتوظيفه لخدمة أهدافهم.

          أما اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية، فحسبنا أن نعلم أن رواد الشيوعية ومنظريها، ومفكريها، معظمهم من يهود، أو ممن وقعوا تحت تأثيرهم -واليهود لا يزيد عددهم عن ثلاثة ملايين تقريبا- وعلى الرغم من ذلك، كانوا يحتلون سبعة مقاعد من أربعة عشر مقعدا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (اعتبارا من عام 1917م) ، وأن معظم قادة إسرائيل، وعمقها البشري الذي شكل الاستعمار الاستيطاني، هـم من يهود الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وأنهم الطائفة الوحيدة التي استطاعت الرهان على [ ص: 21 ] الشرق والغرب معا، وحسن التعامل مع الماركسية والفوز بالنصيب الأوفر منها، حيث المراهنة دائما على حصاني السابق.

          نعود إلى القول: إن اليهود كانوا الأقدر على التسلل إلى الأديان، والعقائد، والأفكار، والتنظيمات، والجماعات، والمراهنة على أكثر من صيد، وتبادل الأدوار، وأن ذلك هـو ديدنهم تاريخيا، وأن المسلمين لم ينجوا منهم بإطلاق.. فمنذ اللحظات الأولى للنبوة، وتحول القيادة الدينية إلى العرب، اتخذ اليهود موقفا من النبوة، على الرغم مما كانوا يستفتحون به على الذين كفروا. يقول تعالى: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) (البقرة: 89) . ولما لم يستطيعوا مواجهة المسلمين، عمدوا إلى التسلل والتستر، وصناعة النفاق، وكان اليهود هـم شياطين المنافقين الذين ينظمون لهم خططهم، ومن ثم تمذهب النفاق، وجاءت كل الفرق الباطنية التي تعيش في الجسد الإسلامي كألغام حاضرة للانفجار في كل وقت، والتي ترجع في جذورها إلى النفاق.

          كما أنهم لما لم يستطيعوا أن يتسللوا إلى النص الديني المحفوظ والمنقول بالتواتر (القرآن) ، حاولوا التأويل والتحريف، وشحن هـوامش النصوص الدينية بالقصص الخرافية والإسرائيليات، إضافة إلى ما وجدوه مجالا خصبا في نطاق وضع الحديث النبوي، الأمر الذي استفز المسلمين لوضع ضوابط وتدوين الحديث الصحيح.. هـذا بالنسبة للتراث الفكري الإسلامي. أما في المجال السياسي والاقتصادي فالأمر يطول ذكره، وحسبنا أن نعلم أن تسلل اليهود إلى دولة الخلافة، وإعلان الإسلام ظاهرا كوسيلة مرور، ومن ثم العمل على تقويضها من الداخل -ما فعله يهود الدونمة- ساهم إلى حد بعيد بسقوطها.. حتى لقد وصل اليهود إلى بعض المراكز الدينية الإسلامية في أكثر من بلد إسلامي، تحت ستار اعتناق الإسلام والتفقه في الدين، ولعل قصة ( موسى بن ميمون ) الذي حفظ القرآن، وتفقه بالمالكية في الأندلس، وعلاقته بالحكام، ومن ثم عودته إلى [ ص: 22 ] مصر وإشهار يهوديته، واستمراره ثلاثين سنة المسئول الروحي لليهود في مصر، ووصوله إلى البلاط الأيوبي ليكون طبيبا لعلاج صلاح الدين رحمه الله، فيها الكثير من العبر والعظات..

          لم تتوقف محاولات يهود، ولن تتوقف، ولو توقفت لكان خلود الرؤية القرآنية محل شك بيقين.. لكن امتلاك القدرة على تغيير الأساليب، هـي التي تغرر ببعض المسلمين. ولا شك اليوم أن المؤرق الوحيد لإسرائيل، هـو الصحوة الإسلامية التي سوف تفسد عليها مخططاتها -إذا ما تحققت تماما بالرؤية القرآنية- لذلك فهي تحاول محاصرتها على مختلف الأصعدة، وتغري بشل حركتها، ومحاربتها، وتوقع بينها وبين الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، وتخوفها منها، وتخوف العالم كله من عودة الأصولية، وخطرها على الحضارة العالمية، وتحاول الامتداد بذراعها لتطول كل عناصرها ومؤسساتها.. والذي يقرأ التاريخ، لا بد أن يدرك أن إسرائيل سوف لا تقتصر على ذلك، وقد بلغت في ذلك نجاحا ملحوظا، واستطاعت محاصرة الصحوة والإغراء بضربها إلى حد بعيد، على يد بعض أبناء المسلمين، الذين أعدوا لمثل هـذه الأهداف، وإنما تفكر اليوم في كيفية التسلل إلى داخلها في محاولة لتخريبها من الداخل بعد أن كادت تحكم الحصار حولها، وشل نشاطها من الخارج، لأنها تعلم أن ذلك حالة مؤقتة لا تقوى على الاستمرار.

          ولعل القضية الأخطر في هـذا الموضوع، ما نشرته جريدة القبس الكويتية في ملحق عددها رقم 6495، بتاريخ 7 / 6 /1990م، تحت عنوان (قضايا القبس) : من أنها حصلت على معلومات من باريس تقول: " إن هـناك إسرائيليين شرقيين يتقنون اللغة العربية كأبنائها، كلفوا من قبل الموساد بتشكيل مجموعات تزعم أنها أصولية، هـدفها زعزعة البنى العقائدية والاجتماعية في الشرق الأوسط، خاصة وأن الأصولية الآن تبدوا كأنها الصرخة العقائدية الأخيرة في المنطقة، فلماذا لا يدخل اليهود في هـذه الصرخة؟! " . [ ص: 23 ]

          وتتابع القبس القول: (والمعلومات التي وردت تدق ناقوس الخطر.. فهناك يهود في بلدان غربية يدعون الانتماء إلى دول إسلامية أو عربية، لا بل يحملون جوازات سفر (صادرة) عن هـذه الدول، يقومون الآن بتشكيل مجموعات إسلامية، إما في الجامعات، أو في المصانع، أو في أي مكان آخر تتمركز فيه جالية إسلامية.. وهذه المجموعات المبرمجة تصل إليها الإمدادات المالية..) .

          وتقول المعلومات -والكلام ما يزال للقبس-: (إن الموساد استطاعت وخلال عقود من العمل في أوربا الغربية بشكل خاص، تجنيد مئات الأشخاص العرب للعمل لحسابها، وقد أعطيت التعليمات للعديد من هـؤلاء لإطلاق لحاهم، ولمتابعة دورات في التثقيف الديني ليكونوا بمثابة القنابل البشرية التي يمكن أن تستخدم في الوقت المناسب. أي أننا أمام نوع جديد من القنابل التي تتمسح برداء الدين..) ..

          ولعل قدرة اليهود في إقناع العالم لإسقاط نوع الديانة من جوازات السفر، والوثائق المدنية عامة، مكن لهم المرور إلى معظم المواقع، تحت جنسيات شتى.. ورغم خطورة هـذه المعلومات التي أوردتها جريدة القبس، وحساسيتها، وما يمكن أن تبثه من الشكوك والريب حول بعض العاملين في الحقل الإسلامي، وبعض قياداته أيضا، إلا أنه لا بد من الإتيان على ذكرها للحذر، والتحذير، ذلك أن الكثير من الانفجارات المسماة بالإسلامية، والمواجهات الهستيرية، تجعل الإنسان المسلم يقبل مجرد طرح مثل هـذه القضية للحذر والتحذير، وللتأكيد من جديد على أهمية الانضباط بالمعيار الإسلامي، واليقظة الدائمة، وعدم الغفلة التي تمكن من تسلل بعض العناصر والأموال المشبوهة، كما تدعو إلى اعتماد وسائل أكثر تقدما للمراقبة والحذر.

          وقد لا يكون ذلك التسلل أمرا مستغربا، بل المستغرب الغفلة عنه، التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، بعيدا عن الرؤية القرآنية الخالدة، التي لم تكتف برصد تحركات يهود، وكشف أساليبهم تاريخيا، تلك الأساليب التي [ ص: 24 ] لم تتوقف في عهد النبوة، على الرغم من أن الوحي كان يعري هـذه المواقف ويفضح تلك المؤامرات، ومع ذلك كان يحصل الاختراق، ويسقط بعض المسلمين في حبائلهم، إلى درجة القول: (إن لنا فيهم ولاية ) ، وذلك عندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاقبهم على خياناتهم..

          ولولا أن هـذه القولة: (إن لنا فيهم ولاية) قائمة في كل زمان، والاختراق محتمل في كل عصر، لما كان هـناك أي معنى لخلود قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض ) (المائدة: 51) ، الذي جعل قرآنا يتلى على الزمن، وعلى الرغم من أنه لا علاقة للنصارى مباشرة بسبب النزول، لكن جاء النص لتحديد جهة الولاء الوحيدة بالنسبة للمسلم، واستمرار حالة الحذر الدائم.. والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما يقول علماء الأصول، وكما تقتضي صفة الخلود.

          نعود إلى القول: بأن القرآن لم يكتف برصد تحركات يهود وكشف أساليبهم، وإنما تجاوز ذلك إلى بيان طوايا نفوسهم ودخائلها، ليكون المسلم على بينة وحذر مبصر. وأعتقد أن هـذه المساحة التعبيرية الكبيرة في القرآن، التي عرضت لجميع الجوانب، ليست للتهويل وإشاعة الرعب في النفس المسلمة، بقدر ما هـي بيان وهدى وموعظة للمتقين.. وكلما تجددت الأيام والأحداث، شعرنا بأهمية التحقق بالرؤية القرآنية للتشكيل الثقافي، والوصول إلى المناعة الحضارية، وأدركنا لماذا أعطى القرآن هـذه المساحة لقضية يهود.

          والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها: أن اليهود تاريخيا، كانوا الأقدر على الإفادة من سنة التدافع الحضاري.. ولعل ذلك بسبب قلة مساحتهم البشرية، واعتقادهم بالتميز، وافتقادهم للقوة.. وكانوا الأقدر على اعتلاء المنابر الفاعلة، والتحقق بالاختصاصات المؤثرة، وجعل التخصص في خدمة الفكرة والعقيدة.. كما لا بد أن نعترف بأن وصولهم إلى هـذه الأزرار الاجتماعية التي يضغطون من خلالها على العالم، لم يأت من فراغ، [ ص: 25 ] وإنما من تقدير وتدبير ومعاناة، وقراءة للواقع العالمي، ورسم المداخل الصحيحة للاندماج به، والتعامل معه، وعدم الذوبان فيه، واحتلال كل المواقع والتخصصات المؤثرة؛ في الوقت الذي لا يزال الكثير من الغوغائية يسيطر على بعض العقول التي تنتسب إلى الإسلام، وتتبارى في القدرة على الخطب والحماس، ورفع الأصوات، وسماكة الحناجر! وقد يرى بعضها أن من مقتضيات الدعوة والعمل الإسلامي، مغادرة مقاعد العلم والتخصص.. إن العجز عن إدراك قيمة التخصص في قيادة المجتمعات، والتأثير فيها، وإدراك حكمه الشرعي، وأنه من الفروض الكفائية، أوصلنا إلى هـذا الواقع المريع من التخاذل الثقافي، والسقوط الحضاري، والقصور الديني، إن صح التعبير، أو تكريس التخلف باسم التدين، وكأن الدعوة تقتضي التفرغ من التعلم أمام تلك المعادلة المغلوطة والمختلة في الوقت نفسه: إما التفرغ للدعوة، وإما التفرغ للعلم، بحجة أن جيل الصحابة الذي فتح الدنيا لم يكن متخصصا، كان لا يكتب ولا يحسب!!.

          وقد يكون من المفيد الإتيان على ذكر الكثير من النماذج والأمثلة لقدرة اليهود على الإفادة من سنة التدافع الحضاري، واعتلاء المنابر الاجتماعية والتخصصية الفاعلة، وامتلاك القدرة على جعل التخصص والمهنة في خدمة الفكرة والعقيدة، فلعل في ذلك استشعارا للتحدي، واستفزازا للواقع، واستنفارا للهمم، وإيقافا لحالة السبات العام التي ما تزال تسيطر على العالم الإسلامي، وترشيدا للصحوة والدعوة، وتبصيرا لها ببعض المواقع والخرائط الفكرية، وإيضاحا لإدراك أبعاد المواجهة المتعددة، وليس لليأس وإشاعة ذهان الاستحالة والعجز، حيث لا مجال اليوم للكسالى والأغبياء في عالم الأذكياء.

          وسوف أكتفي بإبراز بعض النماذج بقدر ما تسمح به هـذه المساحة.. تلك النماذج التي استطاعت أن تتحكم في وجهة العالم السياسية، والعلمية، والإعلامية، والمالية ... إلخ، وأن توظف الحضارة العالمية لخدمة أهداف يهود، [ ص: 26 ] في الوقت الذي نرى فيه كثيرا ممن يسمون مسلمين، من الذين ذهبوا إلى بلاد الحضارة الغربية، إما أن ينتهي معظمهم إلى مقابر الحضارة في الغرب، ويصبح دماء في شرايينها، بعيدا عن الشاكلة الثقافية الإسلامية المطلوبة، وإما أن ينتهي إلى مزابل الحضارة وقذارتها الجنسية.. وأما الباقون في العالم الإسلامي، فمعظمهم يمارسون حالة الانتظار لسقوط الحضارة لصالحهم، دون أن يقدموا لذلك شيئا يذكر!

          لقد أدرك اليهود بشكل مبكر، دور التخصص، وإتقان العمل، في التحكم بالمجتمعات، والتأثير فيها، فكان منهم العلماء، والمفكرون، والباحثون، الذين يحتلون اليوم معظم المنابر العلمية والتقنية المؤثرة، سواء في تلك العلوم الإنسانية، أو التطبيقية على حد سواء.. ففي علم النفس، وعلم الاقتصاد، والاجتماع، والكيمياء، والفيزياء، وعلوم الذرة، وعلوم الأسلحة الاستراتيجية (حرب النجوم) ، وفي الجامعات ومراكز البحوث والدراسات، وفي مجال الصحافة، والإعلام، والإنتاج، والسينما، لهم ريادات وقيادات. فاسم فرويد في علم النفس.. ودور كهايم في علم الاجتماع.. وانشتاين في الرياضيات.. ووايزمن في الكيمياء.. وغيرهم من حاخامات العلم الذين يتابعون رحلة بولس (شاول) ، وموسى بن ميمون، وغيرهم من حاخامات الدين، لا يزالون يثيرون الجدل، ويخطفون الأبصار، إلى اليوم.

          نعود إلى القول: بأننا سوف نكتفي بذكر بعض النماذج المعاصرة في أكثر من مجال، لعل في ذلك عبرة واتعاظا.. فمثلا..

          - رجل الأعمال اليهودي الدكتور " آرماند هـامر " ، الذي وصل لأن يكون مفتاح العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي -أيام عظمته وتعصبه الأيديولوجي- رغم كل الحواجز والموانع الأيديولوجية والسياسية، ابتداء من عهد لينين، وحتى في أشد أيام الحرب الباردة.. أما تعريفه، فهو طبيب، ورئيس شركة أوكسيد نتال للنفط.. والده أحد مؤسسي الحزب الشيوعي الأميركي.. قاد عملية الاستثمار الغربي في أوربا الشرقية.. [ ص: 27 ] والدور الذي قام به بالنسبة ليهود الاتحاد السوفييتي، وتأمين عمليات الهجرة من خلال الضغط الأميركي، ليس محل مناقشة.. إن انتماء هـامر الأب للشيوعية، كان الغطاء المثالي لتلك العلاقات المثلثة التي أقامها هـامر الابن، بين أميركا وروسيا وإسرائيل ، على الرغم من انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفيتي وإسرائيل، لكن العلاقات العلمية والسفارات الشعبية لم تتوقف.. وبعد وصول الرئيس غورباتشوف - أو إيصاله - أقام معه هـامر علاقات شخصية، واستطاع مد الجسور، وكان أحد عناصر القمة التي عقدت بين ريغان وغورباتشوف!.

          - شابيرو عالم الكيمياء: ابن أحد الحاخامات الذين نزحوا من ليتوانيا، والذي درس الكيمياء، وبدأ حياته في برنامج تطوير مفاعل لأول غواصة نووية أميركية، والذي تمثل نشاطه وسعيه الدائب على جمع المعلومات والأجهزة العلمية، وإيصالها إلى مؤسسة (تكنيون) الإسرائيلية للتكنولوجيا في حيفا !

          - إدوارد تيلر العالم الفيزيائي: الذي يلقب " أبو القنبلة الهيدروجينية " ، والمشارك الرئيس بأسلحة حرب النجوم، أو مبادرة الدفاع الاستراتيجية، والذي يعلن اليوم أن الاستمرار فيها ضرورة قومية، لا من أجل الولايات المتحدة وأصدقائها، كسلاح فعال ورادع، وإنما لما يترتب عليها من تقنيات واختراعات متطورة تساهم بتقدم البشرية.. ويقول: لولا البرنامج الأخير، لما وصلنا إلى إشعاعات الليزر ذات الطاقة الكبيرة.

          - روبرت ماكسويل، اليهودي، التشيكي الأصل، الذي انتقل إلى بريطانيا عام 1964م، وادعى أنه اعتنق النصرانية، وترك اليهودية، واختير كعضو للبرلمان البريطاني، كان عند وفاته يرأس 71 شركة عالمية، وكان صاحب أكبر إمبراطورية صحفية في العالم تقريبا، إذ بلغ عدد موظفيه أكثر من عشرين ألف موظف.

          تقول زوجته: بالرغم من أنه كان عضوا في البرلمان، إلا أنه لم ينس يوما بأنه أجنبي، [ ص: 28 ] وأنه يهودي.. وهو يقول عن نفسه: ولدت يهوديا، وسأموت يهوديا.

          لقد اعتبره اسحق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي " بطلا إسرائيليا.. وشخصا عظيما.. وضع إمكاناته المالية في خدمة الصناعة الإسرائيلية " . وكان جون ميجور رئيس الوزراء البريطاني قد قال عنه عقب وفاته: إنه " شخصية عظيمة، أعطاني معلومات ذات قيمة كبيرة عن الوضع الداخلي في الاتحاد السوفييتي خلال المحاولة الانقلابية في أغسطس الماضي " .

          أما احتفال يهود بمراسم دفنه، التي شارك فيها مسئولون إسرائيليون على أعلى المستويات، وتمت في أقدس بقعة -من وجهة نظرهم- في فلسطين ، فلا تخفى مدلولاتها..

          إن اهتمام يهود بمنابر الإعلام أو بالقضية الإعلامية، وإدراك أثرها في تشكيل الإنسان، وصناعة قناعاته، وتضليله الثقافي والسياسي، ليس بأقل شأنا من غيرها من القضايا الفاعلة، والمواقع المؤثرة، إن لم يكن أعظمها.. وحسبنا أن نعلم: أن العالم اليوم يعيش مرحلة الدولة الإعلامية الواحدة، التي ألغت الحدود، وأزالت السدود، واختزلت مسافات الزمان والمكان.. وأن لدى يهود 244 صحيفة أو يزيد، في الولايات المتحدة، منها 158 دورية.. وثلاثين دورية في كندا.. و118 صحيفة في أمريكا اللاتينية.. و 348 دورية ومجلة في أوروبا.. وأن كبار أصحاب الصحف ورجال الأعمال في مجال الصحافة والإعلام في العالم من اليهود.. ولا بد أن نذكر بالجهود الكبرى التي بذلوها لشراء صحف ومحطات إذاعة وتلفزيون في أوروبا الشرقية بعد السقوط الشيوعي، في محاولة لاستغلال مناخ الانفتاح السياسي والاقتصادي، وركون الموجة، واستثمار رءوس الأموال، بهدف التأثير على سياسة وتوجهات الإعلام، وخلق آراء وقناعات محددة في تلك البلدان!

          هذا وإذا تجاوزنا إلى دور اليهود في وكالات الأنباء العالمية، التي تنتقي الخبر، [ ص: 29 ] وتصوغه، وتبثه، ليشكل المادة الإعلامية المسموعة، رأينا العجب العجاب.

          ولعل إدراك اليهود، المبكر لخطورة فن السينما، وصناعتها، والوصول إلى المواقع المؤثرة في الإخراج، والإنتاج، والتمثيل، منحهم قدرات هـائلة على احتلال وقت، وعقل، ومشاعر الناس، وصياغة وجدانهم، على مستوى العالم، انطلاقا من هـوليود، المركز العالمي للسينما، عدا عن الإنتاج الخاص، حيث تنتج إسرائيل سنويا من 160-170 فيلما روائيا وتسجيليا قصيرا، كما يوجد فيها 360 دارا للعرض.

          لقد استطاع الإعلام الصهيوني عامة، وفن السينما خاصة، تحويل الضحية إلى قاتل، والقاتل إلى ضحية، ذلك أن السينما تعتبر إلى حد بعيد، المدخل الثقافي والفني للجماهير، حتى أن بعضهم يرى أن عشرة سينمائيين مهرة، يعدل تأثيرهم مليون كتاب.

          - ولعل ما أوردته بعض الصحف عن فريق الظل الذي يمثل فيه اليهود أربعة أخماس الوفد الأميركي في مباحثات السلام المرسومة في الشرق الأوسط، لمتابعة لقاءات مدريد، والعمل على بلورة المواقف وتحديد مسارها وأولوياتها، خلال سير المفاوضات، يعتبر الصورة الأحدث لما نحن بصدده.. وقد يكون من المفيد الإشارة إلى المواقع التي يحتلها أعضاء هـذا الوفد في السياسة الأميركية:

          1- دينيس روس، رئيس الفريق: يهودي، رئيس مجموعة تخطيط السياسة في الخارجية الأميركية.

          2- دانيال كورتسير: يهودي، متدين ملتزم.. نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشئون التخطيط السياسي، أسهم في تصميم الحوار الأميركي مع منظمة التحرير الفلسطينية.

          3- أرون ميلر: يهودي، يحمل شهادة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط.. له كتابان عن الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية، سبق أن عاش في إسرائيل، ويتقن اللغة العبرية. [ ص: 30 ]

          4- ريتشارد هـاس: مساعد خاص للرئيس الأميركي لشئون الأمن القومي، وهو بدوره يهودي سبق له أن عاش ودرس في إسرائيل.

          أربعة من خمسة في فريق الظل الذي يشرف على هـندسة المفاوضات حول الحل السلمي للشرق الأوسط، من اليهود المتخصصين في قضايا المنطقة، ويشغلون هـذه المراكز المتحكمة والحساسة في السياسة الأميركية ! ومع ذلك، لا يزال الكثير منا يستغرب التحكم اليهودي في السياسة الأميركية، ولا يدرك مداخل هـذا التحكم ويظن أنه جاء من فراغ!

          نعود إلى القول: إن قدرة يهود على الإفادة من سنن التدافع الحضاري، واعتلاء المنابر الفاعلة، والوصول إلى التخصصات النادرة، مكنهم من عملية التحكم إلى حد بعيد، وجعل الثقافة اليهودية، والرؤية التوراتية، هـي الموجه والضابط للمسيرة العلمية عندهم. والمسلمون اليوم، قد لا ينقصهم العقل، ولا التخصص، ولا القدرات المالية، ولا غيرها، وإنما الذي ينقصهم القدرة على الخروج من دائرة التحكم، وإعادة تشكيل العقل المسلم وفق النسق الإسلامي، والمنهج الإسلامي، والفاعلية الإسلامية، والهدف الإسلامي، ليكون العلم والمعرفة في خدمة الرسالة والفلسفة الإسلامية.. ينقصهم التشكيل الثقافي ليصلوا إلى مرحلة جعل العلم في خدمة العقيدة.. فكثيرا ما تفوق المسلم في جامعات الغرب علميا على اليهودي، وكانت درجاته أكثر تميزا، لكن اليهودي يبقى أكثر فاعلية وتأثيرا، وما ذلك إلا لغياب التشكيل الثقافي السليم الذي يدع المسلم نسخة من كتاب، بدل أن يكون إنسانا فاعلا.

          والحقيقة التي لا بد أن ننتهي إليها: أن اليهود تاريخيا، لم يقتصروا على صناعة الزعامات، وإيصالها إلى الحكم، والمكوث في ظلها كمستشارين وخبراء، والتحالف معها، وتوظيفها لتحقيق أهدافهم، وإنما تجاوزوا تلك الصورة البسيطة إلى الوصول إلى مراكز التحكم والفاعلية، وذلك بتوفير طاقاتهم للاختصاصات المؤثرة، والمنابر الفاعلة التي تجعل من الدول والمؤسسات، ذات النفوذ والقدرة، في دائرة التحكم.. فالتحالف مع [ ص: 31 ] الأقوياء لا ينطبق على الأشخاص والدول والزعامات فقط، وإنما التحالف مع التخصصات المتحكمة في المجتمع هـو الأخطر أيضا.

          والكتاب الذي نقدمه اليوم: يعتبر محاولة وثائقية تاريخية، ومعاصرة، لرصد وتفسير المسالك اليهودية، من الداخل، كمدخل لا بد منه للمعرفة، التي تعتبر المقدمة الضرورية لكل أنواع التعامل.. لكن تبقى المعرفة تشكل نصف المطلوب، بينما يتمثل النصف الآخر في قدرتنا على توظيف تلك المعرفة، والإفادة منها، لحياتنا المستقبلية.. ونعتقد أن جذور تلك المعرفة متوفر في الرؤية القرآنية، لو استصحبناها، إضافة إلى الشواهد التاريخية، والواقعية التي عرض لها الكتاب، والتي تؤكد خلود الرؤية القرآنية، وصوابها.. ولو كنا في مستوى إسلامنا وعصرنا، لأمكننا أن نحقق المناعة الحضارية والثقافية، وأن نحمل للعالم الرحمة والخير، ونقضي على نزعات التعصب والعنصرية، والتمييز، فدين الله سبحانه أسمى من أن يكون وسيلة للظلم، والتمييز، وإلغاء حرية الاختيار، وتسليط الإنسان على الإنسان. [ ص: 32 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية