الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان صفة الواقع بها : فالواقع بكل واحد من النوعين اللذين ذكرناهما من الصريح والكناية نوعان : رجعي وبائن أما الصريح الرجعي فهو أن يكون الطلاق بعد الدخول حقيقة غير مقرون بعوض ولا بعدد الثلاث لا نصا ولا إشارة ولا موصوفا بصفة تنبئ عن البينونة أو تدل عليها من غير حرف العطف ولا مشبه بعدد أو وصف يدل عليها

                                                                                                                                وأما الصريح البائن فبخلافه وهو أن يكون بحروف الإبانة أو بحروف الطلاق ، لكن قبل الدخول حقيقة أو بعده ، لكن مقرونا بعدد الثلاث نصا أو إشارة أو موصوفا بصفة تدل عليها إذا عرف هذا فصريح الطلاق قبل الدخول حقيقة يكون بائنا ; لأن الأصل في اللفظ المطلق عن شرط أن يفيد الحكم فيما وضع له للحال والتأخر فيما بعد الدخول إلى وقت انقضاء العدة ثبت شرعا بخلاف الأصل فيقتصر على مورد الشرع فبقي الحكم فيما قبل الدخول على الأصل ، ولو خلا بها خلوة صحيحة ثم طلقها صريح الطلاق .

                                                                                                                                وقال : لم أجامعها كان طلاقا بائنا حتى لا يملك مراجعتها وإن كان للخلوة حكم الدخول ; لأنها ليست بدخول حقيقة فكان هذا طلاقا قبل الدخول حقيقة فكان بائنا وكذلك إذا كان مقرونا بعوض وهو الخلع ببدل والطلاق على مال ; لأن الخلع بعوض طلاق على مال عندنا على ما نذكر إن شاء الله تعالى والطلاق على مال معاوضة المال بالنفس ، وقد ملك الزوج أحد العوضين بنفس القبول وهو مالها فتملك هي العوض الآخر وهو نفسها تحقيقا للمعاوضة المطلقة ، ولا تملك إلا بالبائن فكان الواقع بائنا .

                                                                                                                                وكذلك إذا كان مقرونا بعدد الثلاث نصا بأن قال لها : أنت طالق ثلاثا لقوله عز وجل { : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره }

                                                                                                                                وكذا إذا أشار إلى عدد الثلاث بأن قال لها : أنت طالق هكذا يشير بالإبهام والسبابة والوسطى وإن أشار بإصبع واحدة فهي واحدة يملك الرجعة وإن أشار باثنتين فهي اثنتان ; لأن الإشارة متى تعلقت بها العبارة نزلت منزلة الكلام لحصول ما وضع له الكلام بها وهو الإعلام ، والدليل عليه العرف والشرع أيضا أما العرف فظاهر .

                                                                                                                                ( وأما ) الشرع فقول النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 110 ] { : الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بأصابع يديه كلها } فكان بيانا أن الشهر يكون ثلاثين يوما ثم قال صلى الله عليه وسلم { : الشهر هكذا وهكذا وهكذا وحبس إبهامه في المرة الثالثة } فكان بيانا أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما ، وإذا قامت الإشارة مع تعلق العبارة بها مقام الكلام صار كأنه قال : أنت طالق ثلاثا ، والمعتبر في الأصابع عدد المرسل منها دون المقبوض لاعتبار العرف والعادة ، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه في المرة الثالثة فهم منه تسعة وعشرون يوما ، ولو اعتبر المقبوض لكان المفهوم منه أحدا وعشرين يوما فدل أن المعتبر في الإشارة بالأصابع المرسل منها لا المقبوض .

                                                                                                                                وكذا إذا كان موصوفا بصفة تنبئ عن البينونة أو تدل عليها من غير حرف العطف مثل قوله : أنت طالق بائن أو أنت طالق حرام أو أنت طالق ألبتة ونحو ذلك وهذا عندنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي : يقع واحدة رجعية وجه قوله : أنه لما قال : أنت طالق فقد أتى بصريح الطلاق وأنه معقب للرجعة ، فلما قال : بائن فقد أراد تغيير المشروع فيرد عليه كما لو قال : أعرتك عارية لا رد فيها ، وكما لو قال : أنت طالق .

                                                                                                                                وقال : أردت به الإبانة ، ولنا أنه وصف المرأة بالبينونة بالطلاق الأول وأنه مما يحتمل البينونة ألا ترى أنه تحصل البينونة قبل الدخول وبعده بعد انقضاء العدة ؟ فكان قوله : بائن قرينة مبينة لا مغيرة ، ثم إذا لم يكن له نية لا يقع تطليقة بقوله طالق والأخرى بقوله بائن ونحو ذلك ; لأن قوله : بائن ونحو ذلك يصلح وصفا للمرأة بالطلاق الأول فلا يثبت إلا مقتضى واحد ; لأن ثبوته بطريق الضرورة فيؤخذ فيه بالأدنى .

                                                                                                                                وكذا إذا قال لها : أنت طالق تطليقة قوية أو شديدة ; لأن الشدة تنبئ عن القوية ، والقوي هو البائن .

                                                                                                                                وكذا إذا قال لها : أنت طالق تطليقة طويلة أو عريضة ; لأن الطول والعرض يقتضيان القوة ، ولو قال لها : أنت طالق من هنا إلى موضع كذا فهو رجعي في قول أصحابنا الثلاثة وعند زفر هو بائن .

                                                                                                                                وجه قوله أنه وصف الطلاق بالطول فصار كما لو قال لها : أنت طالق تطليقة طويلة ( ولنا ) أنه وصفه بالطول صورة وبالقصر معنى ; لأن الطلاق إذا وقع في مكان يقع في الأماكن كلها فكان القصر على بعض الأماكن وصفا له بالقصر ، والطلقة القصيرة هي الرجعية ، ولو قال : أنت طالق أشد الطلاق ، فإن لم يكن له نية أو نوى واحدة فهي واحدة بائنة ; ; لأن حكم البائن أشد من حكم الرجعي فيقع بائنا وإن نوى ثلاثا فثلاث ; لأن ألف التفضيل قد تذكر لبيان أصل التفاوت وهو مطلق التفاوت وذلك في الواحدة البائنة ; لأنها أشد حكما من الرجعية وقد تذكر لبيان نهاية التفاوت وهو مطلق التفاوت وذلك في الثلاث ، فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله كلامه فصحت نيته وإن لم يكن له نية ينصرف إلى الأدنى ; لأنه متيقن به ، ولو قال لها : أنت طالق ملء البيت فإن نوى الثلاث كان ثلاثا وإن لم يكن له نية فهو واحدة بائنة ; لأن قوله : ملء البيت يحتمل أنه أراد به الكثرة والعدد ويحتمل أنه أراد به الصفة وهي العظم والقوة فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله لفظه وعند انعدام النية يحمل على الواحدة البائنة لكونه متيقنا بها ، ولو قال لها : أنت طالق أقبح الطلاق قال أبو يوسف هو رجعي .

                                                                                                                                وقال محمد هو بائن .

                                                                                                                                وجه قول محمد إنه وصف الطلاق بالقبح والطلاق القبيح هو الطلاق المنهي عنه وهو البائن فيقع بائنا ولأبي يوسف أن قوله : أقبح الطلاق يحتمل القبح الشرعي ، وهو الكراهية الشرعية ويحتمل القبح الطبعي وهو الكراهية الطبيعية وهو أن يطلقها في وقت يكره الطلاق فيه طبعا فلا تثبت البينونة فيه بالشك .

                                                                                                                                وكذا قوله : أقبح الطلاق يحتمل القبح بجهة الإبانة ويحتمل القبح بإيقاعه في زمن الحيض أو في طهر جامعها فيه ، فلا تثبت البينونة بالشك ، ولو قال : أنت طالق للبدعة فهي واحدة رجعية ; لأن البدعة قد تكون في البائن وقد تكون في الطلاق حالة الحيض فوقع الشك في ثبوت البينونة فلا تثبت البينونة بالشك ، ولو قال لها : أنت طالق طلاق الشيطان فهو كقوله أنت طالق للبدعة وروي عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته : أنت طالق للبدعة ونوى واحدة بائنة تقع واحدة بائنة ; ; لأن لفظه يحتمل ذلك على ما بينا فتصح نيته ، ولو شبه صريح الطلاق بالعدد فهذا على وجهين إما أن شبه بالعدد فيما له عدد وإما أن شبه بالعدد فيما لا عدد له فإن شبه بالعدد فيما هو ذو عدد كما لو قال لها : أنت طالق كألف أو مثل ألف فهنا ثلاثة فصول : ( الأول ) هذا .

                                                                                                                                ( والثاني ) أن يقول لها : أنت طالق واحدة كألف أو مثل ألف ، والثالث أن يقول لها : أنت طالق [ ص: 111 ] كعدد ألف ( أما ) الفصل الأول فإن نوى ثلاثا فهو ثلاث بالإجماع وإن نوى واحدة أو لم يكن له نية فهي واحدة بائنة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف .

                                                                                                                                وقال : محمد هو ثلاث ، ولو قال : نويت به واحدة دينته فيما بينه وبين الله تعالى ولم أدينه في القضاء .

                                                                                                                                وجه قوله أن قوله : كألف تشبيه بالعدد إذ الألف من أسماء الأعداد فصار كما لو نص على العدد فقال لها : أنت طالق كعدد ألف ، ولو قال ذلك كان ثلاثا كذا هذا ، ولهما أن التشبيه بالألف يحتمل التشبيه من حيث العدد ويحتمل التشبيه من حيث الصفة وهو صفة القوة والشدة فإن الواحد من الرجال قد يشبه بألف رجل في الشجاعة ، وإذا كان محتملا لهما فلا يثبت العدد إلا بالنية ، فإذا نوى فقد نوى ما يحتمله كلامه وعند عدم النية يحمل على الأدنى ; لأنه متيقن به ، ولا يحمل على العدد بالشك .

                                                                                                                                وأما الفصل الثاني وهو ما إذا قال : أنت طالق واحدة كألف فهي واحدة بائنة في قولهم جميعا ; لأنه لما نص على الواحدة علم أنه ما أراد به التشبيه من حيث العدد فتعين التشبيه في القوة والشدة .

                                                                                                                                وذلك في البائن فيقع بائنا .

                                                                                                                                وأما الفصل الثالث وهو ما إذا قال لها : أنت طالق كعدد ألف أو كعدد ثلاث أو مثل عدد ثلاث فهو ثلاث في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ، ولو نوى غير ذلك فنيته باطلة ; لأن التنصيص على العدد ينفي احتمال إرادة الواحد فلا يصدق أنه ما أراد به الثلاث أصلا كما إذا قال : أنت طالق ثلاثا ونوى الواحدة ، وإن شبه بالعدد فيما لا عدد له بأن قال : أنت طالق مثل عدد كذا أو كعدد كذا لشيء لا عدد له كالشمس والقمر ونحو ذلك فهي واحدة بائنة في قياس قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف هي واحدة يملك الرجعة .

                                                                                                                                وجه قول أبي يوسف أن التشبيه بالعدد فيما لا عدد له لغو فبطل التشبيه ، وقوله : أنت طالق ولأبي حنيفة أن هذا النوع من التشبيه يقتضي ضربا من الزيادة لا محالة ، ولا يمكن حمله على الزيادة من حيث العدد فيحمل على الزيادة من حيث الصفة ، وقالوا فيمن قال : لامرأته أنت طالق عدد شعر راحتي أو عدد ما على ظهر كفي من الشعر وقد حلق ظهر كفه طلقت واحدة ; لأنه شبه بما لا عدد له ; لأنه علق الطلاق بوجود الشعر على راحته أو على ظهر كفه للحال وليس على راحته ولا على ظهر كفه شعر للحال فلا يتحقق التشبه بالعدد فلغا التشبه وبقي قوله : أنت طالق فيكون رجعيا ولو قال : أنت طالق عدد شعر رأسي وعدد شعر ظهر كفي وقد حلقه طلقت ثلاثا ; لأنه شبه بما له عدد ; لأن شعر رأسه ذو عدد وإن لم يكن موجودا في الحال فكان هذا تشبيها به حال وجوده ، وهو حال وجوده ذو عدد بخلاف المسألة الأولى ; لأن ذلك تعليق التشبيه بوجوده للحال وهو غير موجود للحال ، فيلغو التشبيه ، ولو قال لها : أنت طالق مثل الجبل أو مثل حبة الخردل فهي واحدة بائنة في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف هي واحدة يملك الرجعة .

                                                                                                                                وجه قول أبي يوسف أن قوله : مثل الجبل أو مثل حبة الخردل يحتمل التشبيه في التوحد ; لأن الجبل بجميع أجزائه شيء واحد غير متعدد فلا تثبت البينونة بالشك ، ولأبي حنيفة أن هذا التشبيه يقتضي زيادة لا محالة وأنه لا يحتمل الزيادة من حيث العدد لأنه ليس بذي عدد لكونه واحدا في الذات فيحمل على الزيادة التي ترجع إلى الصفة وهي البينونة فيحمل على الواحدة البائنة ; لأنها المتيقن بها ، ولو قال مثل عظم الجبل أو قال : مثل عظم كذا فأضاف ذلك إلى صغير أو كبير فهي واحدة بائنة وإن لم يسم واحدة وإن نوى ثلاثا فهو ثلاث ; لأنه نص على التشبيه بالجبل في العظم فهذا يقتضي زيادة لا محالة على ما يقتضيه الصريح ثم إن كان قد سمى واحدة تعينت الواحدة البائنة ; لأن الزيادة فيها لا تكون إلا البينونة وإن كان لم يسم واحدة احتمل الزيادة في الصفة وهي البينونة بواحدة أو بالثلاث فإن نوى الثلاث يكون ثلاثا ; لأنه نوى ما يحتمله كلامه وإن لم يكن له نية يحمل على الواحدة لكونها أدنى والأدنى متيقن به وفي الزيادة عليه شك ، ولو قال : أنت طالق مثل هذا وهذا وأشار بثلاث أصابع فإن نوى به ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة بائنة فواحدة بائنة ; لأنه شبه الطلاق بما له عدد فيحتمل التشبيه من حيث العدد ويحتمل التشبيه في الصفة وهي الشدة فإذا نوى به الثلاث صحت نيته ; لأنه نوى ما يحتمله لفظه كما في قوله : أنت طالق كألف وإذا نوى به الواحدة كانت واحدة ; لأنه أراد به التشبيه في الصفة .

                                                                                                                                وكذا إذا لم يكن له نية يحمل على التشبيه من حيث الصفة لأنه أدنى والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية