الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة فلا بد أن يسلبه الله ما كان معه من ذلك وأن يقيض له من يعارضه ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه الله فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي مما لم يكن معتادا للناس قالوا : إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة فهذه هي المعجزات عندهم وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا المعجزات هي خرق العادة لكن أنكروا كرامات الصالحين وأنكروا أن يكون السحر والكهانة إلا من جنس الشعبذة والحيل لم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي قالوا : فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحا بهذا الإجماع . وهؤلاء أنفسهم قد ذكروا أنها يكون للسحرة ما هو مثلها وتناقضوا في ذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع . [ ص: 91 ] فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب وظنوا أنها لا تكون إلا لرجل صالح ; فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك ثم يقولون : الولي إذا تولى لا يعترض عليه فمنهم من يراه مخالفا لما علم بالاضطرار من دين الرسول مثل ترك الصلاة المفروضة وأكل الخبائث كالخمر والحشيشة والميتة وغير ذلك وفعل الفواحش والفحش والتفحش في المنطق وظلم الناس وقتل النفس بغير حق والشرك بالله وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء الله قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل فضلا من الله تعالى ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين وأن هذه من أولياء الشياطين تضل بها الناس وتغويهم . ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك فتارة يأتون الشخص في النوم يقول أحدهم : أنا أبو بكر الصديق وأنا أتوبك لي وأصير شيخك وأنت تتوب الناس لي ويلبسه فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان وقد جرى مثل هذا لعدة من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصا وتارة يقول : أنا الشيخ فلان فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره .

                [ ص: 92 ] وكثيرا ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت فيأتونه في صورة ذلك الشيخ وقد يخلصونه مما يكره فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه أو أن ملكا تصور بصورته وجاءه ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك بالله أضلته الشياطين والملائكة لا تجيب مشركا .

                وتارة يأتون إلى من هو خال في البرية وقد يكون ملكا أو أميرا كبيرا ويكون كافرا وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه فيسلم على يديه ويتوبه ويطعمه ويدله على الطريق ويقول من أنت ؟ فيقول : أنا فلان ويكون [ من مؤمني الجن ] . كما جرى مثل هذا لي . كنت في مصر في قلعتها وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق وقال له ذلك الشخص أنا ابن تيمية فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو وأخبر بذلك ملك ماردين وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا وكنت في الحبس ; فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم ; لما جاءوا إلى دمشق : كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم [ ص: 93 ] ما تيسر فعمل معهم مثل ما كنت أعمل وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك . قال لي طائفة من الناس . فلم لا يجوز أن يكون ملكا ؟ قلت لا . إن الملك لا يكذب وهذا قد قال أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك .

                وكثير من الناس رأى من قال إني أنا الخضر وإنما كان جنيا . ثم صار من الناس من يكذب بهذه الحكايات إنكارا لموت الخضر والذين قد عرفوا صدقها يقطعون بحياة الخضر وكلا الطائفتين مخطئ فإن الذين رأوا من قال إني أنا الخضر هم كثيرون صادقون والحكايات متواترات ; لكن أخطئوا في ظنهم أنه الخضر وإنما كان جنيا ولهذا يجري مثل هذا لليهود والنصارى فكثيرا ما يأتيهم في كنائسهم من يقول إنه الخضر وكذلك اليهود يأتيهم في كنائسهم من يقول إنه الخضر وفي ذلك من الحكايات الصادقة ما يضيق عنه هذا الموضع يبين صدق من رأى شخصا وظن أنه الخضر وأنه غلط في ظنه أنه الخضر وإنما كان جنيا وقد يقول : أنا المسيح أو موسى أو محمد أو أبو بكر أو عمر أو الشيخ فلان فكل هذا قد وقع والنبي صلى الله عليه وسلم قال : { من رآني في المنام فقد رآني حقا [ ص: 94 ] فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي } قال ابن عباس : في صورته التي كان عليها في حياته .

                وهذه رؤية في المنام وأما في اليقظة فمن ظن أن أحدا من الموتى يجيء بنفسه للناس عيانا قبل يوم القيامة فمن جهله أتي ومن هنا ضلت النصارى حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب - كما يظنون - أنه أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور في أناجيلهم وكلها تشهد بذلك وذاك الذي جاء كان شيطانا قال أنا المسيح ولم يكن هو المسيح نفسه ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذي يجب عليهم تبليغه ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء . وأصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول أنا الحلاج فيرونه في صورته عيانا وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة وأراني صادق من أصحابه الكتاب الذي أرسله فرأيته بخط الجن - وقد رأيت خط الجن غير مرة - وفيه كلام من كلام الجن وذاك المعتقد يعتقد أن الشيخ حي وكان يقول : انتقل ثم مات وكذلك شيخ آخر كان بالمشرق وكان له خوارق من الجن وقيل كان بعد هذا يأتي خواص [ ص: 95 ] أصحابه في صورته فيعتقدون أنه هو وهكذا الذين كانوا يعتقدون بقاء علي أو بقاء محمد بن الحنفية قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جني في صورته وكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم أحيانا ويكون المرئي جنيا .

                فهذا باب واسع واقع كثيرا وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر ففي المشركين أكثر مما في النصارى وهو في النصارى كما هو في الداخلين في الإسلام وهذه الأمور يسلم بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كان عليه كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيرا مما كانوا وإن كان قصد ذلك الرجل فاسدا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم } وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل ويقوى بها قلوب كثير من أهل الحق وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها والخير والشر درجات فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه . [ ص: 96 ] وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين : من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين وذاك كان شرا بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير . وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذبا وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرا فانتقل إلى خير مما كان عليه وخف الشر الذي كان فيه . ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية