الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

وأما إن أجره الشاة أو البقرة أو الناقة مدة معلومة لأخذ لبنها في تلك المدة ، فهذا لا يجوزه الجمهور ؛ واختار شيخنا جوازه ، وحكاه قولا لبعض أهل العلم ، وله فيها مصنف مفرد ، قال : إذا استأجر غنما أو بقرا ، أو نوقا أيام اللبن بأجرة مسماة ، وعلفها على المالك ، أو بأجرة مسماة مع علفها على أن يأخذ اللبن ، جاز ذلك في أظهر قولي العلماء كما في الظئر

قال : وهذا يشبه البيع ، ويشبه الإجارة ؛ ولهذا يذكره بعض الفقهاء في البيع ، وبعضهم في الإجارة ، لكن إذا كان اللبن يحصل بعلف المستأجر وقيامه على الغنم ، فإنه يشبه استئجار الشجر ، وإن كان المالك هو الذي يعلفها ، وإنما يأخذ المشتري لبنا مقدرا ، فهذا بيع محض ، وإن كان يأخذ اللبن مطلقا ، فهو بيع أيضا ، فإن صاحب اللبن يوفيه اللبن بخلاف الظئر ، فإنما هي تسقي الطفل ، وليس هذا داخلا فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر ؛ لأن الغرر تردد بين الوجود والعدم ، فنهى عن بيعه ؛ لأنه من جنس القمار الذي هو الميسر ، والله حرم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل ، وذلك من الظلم الذي حرمه الله تعالى ، وهذا إنما يكون قمارا إذا كان أحد المتعاوضين يحصل له مال ، والآخر قد يحصل له وقد لا يحصل ، فهذا الذي لا يجوز كما في بيع العبد الآبق ، والبعير الشارد ، وبيع حبل الحبلة ، فإن البائع يأخذ مال المشتري ، والمشتري قد يحصل له شيء وقد لا يحصل ، ولا يعرف قدر الحاصل ، فأما إذا كان شيئا معروفا بالعادة كمنافع الأعيان بالإجارة مثل منفعة الأرض والدابة ، ومثل لبن الظئر [ ص: 731 ] المعتاد ، ولبن البهائم المعتاد ، ومثل الثمر والزرع المعتاد ، فهذا كله من باب واحد وهو جائز .

ثم إن حصل على الوجه المعتاد ، وإلا حط عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة المقصودة ، وهو مثل وضع الجائحة في البيع ، ومثل ما إذا تلف بعض المبيع قبل التمكن من القبض في سائر البيوع .

فإن قيل : مورد عقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان ؛ ولهذا لا يصح استئجار الطعام ليأكله ، والماء ليشربه ، وأما إجارة الظئر ، فعلى المنفعة وهي : وضع الطفل في حجرها ، وإلقامه ثديها ، واللبن يدخل ضمنا وتبعا ، فهو كنقع البئر في إجارة الدار ، ويغتفر فيما دخل ضمنا وتبعا ما لا يغتفر في الأصول والمتبوعات .

قيل : الجواب عن هذا من وجوه .

أحدها : منع كون عقد الإجارة لا يرد إلا على منفعة ، فإن هذا ليس ثابتا بالكتاب ولا بالسنة ولا بالإجماع ، بل الثابت عن الصحابة خلافه ، كما صح عن عمر رضي الله عنه أنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين ، وأخذ الأجرة فقضى بها دينه ، والحديقة : هي النخل ، فهذه إجارة الشجر لأخذ ثمرها ، وهو مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولا يعلم له في الصحابة مخالف ، واختاره أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب أحمد ، واختيار شيخنا ، فقولكم : إن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منفعة غير مسلم ، ولا ثابت بالدليل ، وغاية ما معكم قياس محل النزاع على إجارة الخبز للأكل ، والماء للشرب ، وهذا من أفسد القياس ، فإن الخبز تذهب عينه ، ولا يستخلف مثله بخلاف اللبن ونقع البئر ، فإنه لما كان يستخلف ويحدث شيئا فشيئا ، كان بمنزلة المنافع .

يوضحه الوجه الثاني : وهو أن الثمر يجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوها فيجوز أن يقف الشجرة لينتفع أهل الوقف بثمراتها كما [ ص: 732 ] يقف الأرض ؛ لينتفع أهل الوقف بغلتها ، ويجوز إعارة الشجرة ، كما يجوز إعارة الظهر ، وعارية الدار ، ومنيحة اللبن ، وهذا كله تبرع بنماء المال وفائدته ، فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه ، فهو بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها ، وبمنزلة من دفع شجرة إلى من يستثمرها ، وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها ، وبمنزلة من دفع شاته إلى من يشرب لبنها ، فهذه الفوائد تدخل في عقود التبرع ، سواء كان الأصل محبسا بالوقف ، أو غير محبس . ويدخل أيضا في عقود المشاركات ، فإنه إذا دفع شاة ، أو بقرة ، أو ناقة إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها صح على أصح الروايتين عن أحمد ، فكذلك يدخل في العقود للإجارات .

يوضحه الوجه الثالث : وهو أن الأعيان نوعان : نوع لا يستخلف شيئا فشيئا ، بل إذا ذهب ذهب جملة ، ونوع يستخلف شيئا فشيئا ، كلما ذهب منه شيء خلفه شيء مثله ، فهذا رتبة وسطى بين المنافع وبين الأعيان التي لا تستخلف ، فينبغي أن ينظر في شبهه بأي النوعين ، فيلحق به ، ومعلوم أن شبهه بالمنافع أقوى ، فإلحاقه بها أولى .

يوضحه الوجه الرابع : وهو أن الله سبحانه نص في كتابه على إجارة الظئر ، وسمى ما تأخذه أجرا ، وليس في القرآن إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف ) [ الطلاق : 6 ] .

قال شيخنا : وإنما ظن الظان أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ، وليس الأمر كذلك ، بل الإجارة تكون على كل ما يستوفى مع بقاء أصله ، سواء كان عينا أو منفعة ، كما أن هذه العين هي التي توقف وتعار فيما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوض يستوفيه المستأجر وبالعوض ، فلما كان لبن الظئر مستوفى مع بقاء الأصل جازت الإجارة عليه ، كما جازت على المنفعة ، وهذا محض القياس ، فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد شيء ، وأصلها باق كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شيء ، وأصلها باق .

[ ص: 733 ] ويوضحه الوجه الخامس : وهو أن الأصل في العقود وجوب الوفاء إلا ما حرمه الله ورسوله ، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا ، فلا يحرم من الشروط والعقود إلا ما حرمه الله ورسوله ، وليس مع المانعين نص بالتحريم البتة ، وإنما معهم قياس قد علم أن بين الأصل والفرع فيه من الفرق ما يمنع الإلحاق ، وأن القياس الذي مع من أجاز ذلك أقرب إلى مساواة الفرع لأصله ، وهذا ما لا حيلة فيه ، وبالله التوفيق .

يوضحه الوجه السادس : وهو أن الذين منعوا هذه الإجارة لما رأوا إجارة الظئر ثابتة بالنص والإجماع ، والمقصود بالعقد إنما هو اللبن ، وهو عين ، تمحلوا لجوازها أمرا يعلمون هم والمرضعة والمستأجر بطلانه ، فقالوا : العقد إنما وقع على وضعها الطفل في حجرها وإلقامه ثديها فقط ، واللبن يدخل تبعا ، والله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك ، وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصودا أصلا ، ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفا ولا حقيقة ولا شرعا ، ولو أرضعت الطفل وهو في حجر غيرها ، أو في مهده لاستحقت الأجرة ، ولو كان المقصود إلقام الثدي المجرد ، لاستؤجر له كل امرأة لها ثدي ، ولو لم يكن لها لبن ، فهذا هو القياس الفاسد حقا ، والفقه البارد ، فكيف يقال : إن إجارة الظئر على خلاف القياس ، ويدعى أن هذا هو القياس الصحيح .

الوجه السابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى منيحة العنز والشاة للبنها ، وحض على ذلك ، وذكر ثواب فاعله ومعلوم أن هذا ليس ببيع ولا هبة ، فإن هبة [ ص: 734 ] المعدوم المجهول لا تصح ، وإنما هو عارية الشاة للانتفاع بلبنها كما يعيره الدابة لركوبها ، فهذا إباحة للانتفاع بدرها ، وكلاهما في الشرع واحد ، وما جاز أن يستوفى بالعارية جاز أن يستوفى بالإجارة ، فإن موردهما واحد ، وإنما يختلفان في التبرع بهذا والمعاوضة على الآخر .

والوجه الثامن : ما رواه حرب الكرماني في " مسائله " : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا عباد بن عباد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين ، فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه " غرماءه ، فقبلهم أرضه سنتين " ، وفيها الشجر والنخل ، وحدائق المدينة الغالب عليها النخل والأرض البيضاء فيها قليل ، فهذا إجارة الشجر لأخذ ثمرها ، ومن ادعى أن ذلك خلاف الإجماع ، فمن عدم علمه ، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب ، فإن عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد المهاجرين والأنصار وهي قصة في مظنة الاشتهار ، ولم يقابلها أحد بالإنكار ، بل تلقاها الصحابة بالتسليم والإقرار ، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر رضي الله عنه ، كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره شأن متعة الحج ولم ينكر أحد هذه الواقعة ، وسنبين إن شاء الله تعالى أنها محض القياس ، وأن المانعين منها لا بد لهم منها ، وأنهم يتحيلون عليها بحيل لا تجوز .

الوجه التاسع : أن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان وهو المغل الذي يستغله المستأجر ، وليس له مقصود في منفعة الأرض [ ص: 735 ] غير ذلك ، وإن كان له قصد جرى في الانتفاع بغير الزرع ، فذلك تبع .

فإن قيل : المعقود عليه هو منفعة شق الأرض وبذرها وفلاحتها والعين تتولد من هذه المنفعة ، كما لو استأجر لحفر بئر ، فخرج منها الماء ، فالمعقود عليه هو نفس العمل لا الماء .

قيل : مستأجر الأرض ليس له مقصود في غير المغل ، والعمل وسيلة مقصودة لغيرها ، ليس له فيه منفعة ، بل هو تعب ومشقة ، وإنما مقصوده ما يحدثه الله من الحب بسقيه وعمله ، وهكذا مستأجر الشاة للبنها سواء مقصوده ما يحدثه الله من لبنها بعلفها وحفظها والقيام عليها ، فلا فرق بينهما البتة إلا ما لا تناط به الأحكام من الفروق الملغاة ، وتنظيركم بالاستئجار لحفر البئر تنظير فاسد ، بل نظير حفر البئر أن يستأجر أكارا لحرث أرضه ويبذرها ويسقيها ، ولا ريب أن تنظير إجارة الحيوان للبنه بإجارة الأرض لمغلها هو محض القياس ، وهو كما تقدم أصح من التنظير بإجارة الخبز للأكل .

يوضحه الوجه العاشر : وهو أن الغرر والخطر الذي في إجارة الأرض لحصول مغلها أعظم بكثير من الغرر الذي في إجارة الحيوان للبنه ، فإن الآفات والموانع التي تعرض للزرع أكثر من آفات اللبن ، فإذا اغتفر ذلك في إجارة الأرض ؛ فلأن يغتفر في إجارة الحيوان للبنه أولى وأحرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية