الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما بيع اللبن في الضرع ، فإن كان معينا لم يمكن تسليم المبيع بعينه ، وإن كان بيع لبن موصوف في الذمة ، فهو نظير بيع عشرة أقفزة مطلقة من هذه الصبرة [ ص: 737 ] وهذا النوع له جهتان : جهة إطلاق وجهة تعيين ، ولا تنافي بينهما ، وقد دل على جوازه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه ، رواه الإمام أحمد ، فإذا أسلم إليه في كيل معلوم من لبن هذه الشاة وقد صارت لبونا جاز ، ودخل تحت قوله : ( ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيل أو وزن ) فهذا إذن لبيعه بالكيل والوزن معينا أو مطلقا ؛ لأنه لم يفصل ، ولم يشترط سوى الكيل والوزن ، ولو كان التعيين شرطا لذكره .

فإن قيل : فما تقولون لو باعه لبنها أياما معلومة من غير كيل ولا وزن .

قيل : إن ثبت الحديث لم يجز بيعه إلا بكيل أو وزن ، وإن لم يثبت ، وكان لبنها معلوما لا يختلف بالعادة جاز بيعه أياما ، وجرى حكمه بالعادة مجرى كيله أو وزنه ، وإن كان مختلفا فمرة يزيد ، ومرة ينقص ، أو ينقطع فهذا غرر لا يجوز ، وهذا بخلاف الإجارة ، فإن اللبن يحدث على ملكه بعلفه الدابة ، كما يحدث الحب على ملكه بالسقي ، فلا غرر في ذلك ، نعم إن نقص اللبن عن العادة ، أو انقطع ، فهو بمنزلة نقصان المنفعة في الإجارة ، أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ ، أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة ، هذا قياس المذهب ، وقال ابن عقيل ، وصاحب " المغني " : إذا اختار الإمساك لزمته جميع الأجرة ؛ لأنه رضي بالمنفعة ناقصة ، فلزمه جميع العوض ، كما لو رضي بالمبيع معيبا ، والصحيح أنه يسقط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة ؛ لأنه إنما بذل العوض الكامل في منفعة كاملة سليمة ، فإذا لم تسلم له لم يلزمه جميع العوض .

وقولهم : إنه رضي بالمنفعة معيبة ، فهو كما لو رضي بالبيع معيبا ، جوابه من وجهين .

أحدهما : أنه إن رضي به معيبا ، بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب ، فرضاه بالعيب مع الأرش لا يسقط حقه .

[ ص: 738 ] الثاني : إن قلنا : إنه لا أرش لممسك له الرد ، لم يلزم سقوط الأرش في الإجارة ؛ لأنه قد استوفى بعض المعقود عليه ، فلم يمكنه رد المنفعة كما قبضها ؛ ولأنه قد يكون عليه ضرر في رد باقي المنفعة ، وقد لا يتمكن من ذلك ، فقد لا يجد بدا من الإمساك ، فإلزامه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهرا ، ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه ، ولا سيما لمستأجر الزرع والغرس والبناء ، أو مستأجر دابة للسفر فتتعيب في الطريق ، فالصواب : أنه لا أرش في المبيع لممسك له الرد ، وأنه في الإجارة له الأرش .

والذي يوضح هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بوضع الجوائح ، وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من الثمرة ، بقدر ما أذهبت عليه الجائحة من ثمرته ، ويمسك الباقي بقسطه من الثمن ؛ وهذا لأن الثمار لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة ، ولم تجر العادة بأخذها جملة واحدة ، وإنما تؤخذ شيئا فشيئا ، فهي بمنزلة المنافع في الإجارة سواء ، والنبي صلى الله عليه وسلم في المصراة خير المشتري بين الرد وبين الإمساك بلا أرش ، وفي الثمار جعل له الإمساك مع الأرش ، والفرق ما ذكرناه ، والإجارة أشبه ببيع الثمار ، وقد ظهر اعتبار هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل قبض الثمن .

فإن قيل : فالمنافع لا توضع فيها الجائحة باتفاق العلماء .

قيل : ليس هذا من باب وضع الجوائح في المنافع ، ومن ظن ذلك فقد وهم ، قال شيخنا : وليس هذا من باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى ، بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها .

وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها ، فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من قبضه ، وهو بمنزلة أن يشتري قفيزا من صبرة فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز ، فإنه من ضمان البائع بلا نزاع ؛ ولهذا لو لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت لم يكن عليه الأجرة .

[ ص: 739 ] وإن نبت الزرع ، ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن من حصاده ففيه نزاع ، فطائفة ألحقته بالثمرة والمنفعة ، وطائفة فرقت ، والذين فرقوا بينه وبين الثمرة والمنفعة قالوا : الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة ، وهنا الزرع ليس معقودا عليه ، بل المعقود عليه هو المنفعة وقد استوفاها ، والذين سووا بينهما قالوا : المقصود بالإجارة هو الزرع ، فإذا حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة ، كأن قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه ، وإن لم يعاوض على زرع ، فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر من حصول الزرع ، فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها ، بل تلفت قبل التمكن من الانتفاع ، ولا فرق بين تعطيل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شيء من المنفعة ، ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعد الزرع مطلقا بحيث لا يتمكن من الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة ، فلا فرق بين تقدمها وتأخرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية