الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو الأشعث . وأحمد بن سعيد الدارمي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 496 ] وسري السقطي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحد كبار مشايخ أئمة الصوفية ، وهو السري بن المغلس أبو الحسن السقطي البغدادي ، تلميذ معروف الكرخي حدث عن هشيم ، وأبي بكر بن عياش ، وعلي بن غراب ، ويحيى بن يمان ، ويزيد بن هارون ، وغيرهم . وعنه ابن أخته الجنيد بن محمد ، وأبو الحسن النوري ، ومحمد بن الفضل بن جابر السقطي ، وجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت له دكان يتجر فيها ، فمرت به جارية قد انكسر إناء كان معها تشتري فيه شيئا لسادتها ، فجعلت تبكي ، فأعطاها سري شيئا تشتري به بدله ، فنظر معروف إليه وما صنع بتلك الجارية ، فقال له : بغض الله إليك الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال سري : مررت في يوم عيد ، فإذا معروف ومعه صبي صغير شعث الحال ، فقلت : ما هذا ؟ فقال : هذا كان واقفا والصبيان يلعبون وهو منكسر ، فقلت له : ما لك لا تلعب ؟ فقال : أنا يتيم ولا شيء معي أشتري به جوزا ألعب به . فأخذته لأجمع له نوى يشتري به جوزا يفرح به ، فقلت : ألا أكسوه وأعطيه شيئا يشتري به جوزا ؟ فقال : أوتفعل ؟ فقلت : [ ص: 497 ] نعم . فقال : خذه ، أغنى الله قلبك . قال : فسويت الدنيا عندي أقل شيء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان عنده مرة لوز ، فساومه رجل على الكر بثلاثة وستين دينارا ، ثم ذهب الرجل ، فإذا اللوز يساوي الكر منه تسعين دينارا ، فقال له : إني أشتري منك الكر بتسعين دينارا . فقال : إني ساومتك بثلاثة وستين ، وإني لا أبيعه إلا بذلك . فقال الرجل : وأنا أشتري منك بتسعين . فقال : لا أبيعه إلا بما ساومتك عليه . فقال الرجل : إن من النصح أن لا أشتري منك إلا بتسعين دينارا . وذهب فلم يشتر منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاءت امرأة يوما إلى سري فقالت : إن ابني قد أخذه الحرس ، وإني أحب أن تبعث إلى صاحب الشرطة لئلا يضرب . فقام فكبر وطول في الصلاة وجلعت المرأة تحترق في نفسها ، فلما انصرف من الصلاة قالت المرأة : الله الله في ولدي . فقال : هاأنذا في حاجتك . فما قام من مجلسه حتى جاءت امرأة إلى تلك المرأة فقالت : أبشري ، فقد أطلق المتولي ولدك . فانصرفت إليه . وقال سري : أشتهي أن آكل أكلة ليس لله علي فيها تبعة ، ولا [ ص: 498 ] لأحد علي فيها منة ، فما أجد إلى ذلك سبيلا . وفي رواية قال : إني لأشتهي البقل من ثلاثين سنة ، فما أقدر عليه . وعن السري أنه قال : احترق سوقنا ، فقصدت المكان الذي فيه دكاني ، فتلقاني رجل فقال : أبشر ; فإن دكانك قد سلمت . فقلت : الحمد لله . ثم تذكرت ذلك التحميد ، فأنا أستغفر الله منذ ثلاثين سنة . رواها الخطيب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال السري : صليت وردي ذات ليلة ثم مددت رجلي في المحراب ، فنوديت : يا سري ، كذا تجالس الملوك ؟ قال : فضممت رجلي ثم قلت : وعزتك لا مددت رجلي أبدا . وقال الجنيد بن محمد : ما رأيت أعبد لله من السري السقطي ; أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رئي مضطجعا إلا في علة الموت . وقال الخطيب : عن أبي نعيم ، عن جعفر الخلدي ، عن الجنيد بن محمد قال : دخلت عليه أعوده ، فقلت : كيف تجدك ؟ فقال : كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ، والذي قد أصابني من طبيبي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فأخذت المروحة أروحه ، فقال لي : كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل ؟ ثم أنشأ يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 499 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      القلب محترق والدمع مستبق والكرب مجتمع والصبر مفترق     كيف القرار على من لا قرار له
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مما جناه الهوى والشوق والقلق     يا رب إن كان شيء فيه لي فرج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فامنن علي به ما دام بي رمق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وقلت له : أوصني . قال : لا تصحب الأشرار ، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأخيار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر الخطيب وفاته يوم الثلاثاء لست خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين بعد أذان الفجر ، ودفن بعد العصر . قال : ودفن بمقبرة الشونيزية ، وقبره ظاهر معروف ، وإلى جنبه قبر الجنيد . وروي عن القاضي ، عن أبي عبيد بن حربويه قال : رأيت سريا في المنام ، فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ولكل من شهد جنازتي . قلت : فإني ممن حضر جنازتك وصلى عليك . قال : فأخرج درجا فنظر فيه ، فلم ير فيه اسمي ، فقلت : بلى ، قد حضرت ، فإذا اسمي في الحاشية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى ابن خلكان قولا ; أن سريا توفي سنة إحدى وخمسين . وقيل : سنة ست وخمسين . فالله أعلم . قال ابن خلكان : ومما كان ينشده السري ، رحمه الله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 500 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما شكوت الحب قالت كذبتني     فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا     وتذهل حتى لا تجيب المناديا



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية